د. محمّد المبروك عمراني
أكاديمي وباحث تونسي
المقدّمة: على سبيل صرخة
الهجين والعجين، أو صراخ الطين... من هذه وتلك، تقتنص الرّحلة بلاغة الصّمت...، أو الصّرخة الضّاحكة كما نراها متعالية عن تربتها؛ فروع من الأرض تولد من السّماء متدلّيّة بإسهاب روحي ومتعطّش لإملاء كلمات الوجع، وكلمات الفرح. لا نعلم أتتدلى أكوام الطين شنقًا أم هي وُلدت اشتياقاً؟!... الطين يُبعث من جديد بأنامل أنثى حالمة. ربّما هي الصّرخة الأولى للوليد، حيث لا أحد يتكهّن أهي فرحة ابتهاج بوهج الحياة أم هي صرخة خوف من المجهول؟. وبكلّ الأحوال هي صرخة ولدت على صخب أنامل خزّافة... إتحاف الحياة والوجع، وإتحاف الصراع والأمل حينما لا تناقض الطّينة أسياخًا تخنقها. فلا تتوانى الصرخات عن الاستهزاء من قدرها، لأنَّ الحياة تلوّح بأشكالٍ عديدة... صراخ لذّة ومتعة، أم صراخ ألم ووجع؟
وَهْمُ الحواسُّ
أصبح ثراء العنصر البصري من مداخل الفنّ المعاصر والتّجديد فيه. فتداخلت الخامات، وأصبحت الصّورة مخالفة لما كانت عليه استثارة للحواسّ واستنطاقًا للطاقة الحيويّة بالمادّة. الطّين والحديد خامات مختلفة ولكنّها تتعايش وتتناقل صورًا مختلفة المعاني. ولأنَّ لكلّ خامة خصوصياتها وتعبيرها الخاص، فقد كان للخـزف التونسي المعاصر أن يبحث عن نقاط انعتاق يسعى فيها للتّراجع عن نواميس القـــيود وضوابط تقنية رسمها السابقون حيث يصعب الإفلات من مواضعاتها أو الخروج عنها. فلم تعد الممارسة الفنّيّة المعاصرة رهينة صبغة ثقافيّة ذاتية يتواصل فيها الخزّاف مع العجين من أجل إعادة إنتاج الرّمز، بل أضحت مبحثًا في جوهر المادّة من منطلق التّجريب وتعدّد وسائط التّعبير وأساليب الأداء على ضوء تداخل المواد ضمن بيئة جامعة يمتدّ فيها اللّمسيّ إلى عالم الخيال.
ولكي نتمكن من دراسة البناء الخزفي كإنشاء تعبيري يعتمد التّجديد كان حرّي أن نتطرق إلى تقنيّات الإنشاء وممكنات أداء الخامات المضافة بأعمال الفنّانة التشكيليّة والخزّافة "سناء الجمّالي أعماري" في تشكيل الصّرخة وعرض علاقة النّار كقوّة تعبيريّة نرصد من خلالها أهّم التّحوّلات والتّغيّرات الّتي تحدثها الخامات المضافة على شكل ومضمون المنجز الفني الخزفي. وفي هذا السّياق سنحاول النظر في التّجربة نفسها "الصرخة" للخزّافة سناء الجمّالي أعماري من زاوية مغايرة تتجاوز نواميس الصّنعة والتّكلّف نحو تشكيل رؤية مبحثها.. "صرخة" تستنطق أسس التّمايز بين القيمة الثّقافية والقيمة الإبداعيّة قصد إقامة علاقة تشكيليّة مع المادّة أساسها توتّر يؤسّس للإبداع، ويوسّع مقبوليّة التّعامل مع الأشياء لنقلها من الصورة "الشّكل" إلى صورة "المشكل".
ونظرًا لأهميّة التّقنية في تأسيس عمليّة التّواصل، والتّفاعل، والاندماج فقد تراءت المجسّمات الخزفيّة مشحونة بغرائبيّة تستحوذ على عوالم الذّات وتساكنها من خلال تمثّل عميق للعالم الخارجي. ومثّلت الأجسام الصّاخبة والوجوه الصارخة فضاءات بصريّة تشاركيّة تسمح بتبادليّة بصريّة وحواريّة تقدّم استراتيجية تنشيط جوانب الفكر واستفزاز المعاني والمفاهيم الصانعة لمضمون الحياة. فتكتظ الألوان وقد تعلّقت بتصوّر الاستفزاز البصري وحركة المشاهدة؛ إذ لا صور ثابتة، ولا ثبات جامد.
يُعدُّ اللّون والفضاء عنصرين هامّين لارتباطهما بمعنى الإثارة والتّفاعل؛ بمعنى توسيع مخارج التّقبل ارتكازًا على نقطتي استيعابيّة المكان والزّمان. وقد عدّدت الخزّافة من أساليب التّواصل مع المادّة والآخر بهدف إيجاد علاقة تُفاعل مباشرتيّة بين المواد المدمجة بعيدًا عن التّعقيد. وكان أسلوب البساطة دافع تفاعل لتحقيق خدعة وهم الحواسّ. فيتيح الفضاء الخارجي وكثافة عنصر الضوء فيه مجالاً واسعًا للحركة وإحساسًا باللامتحدّد، و"يكون الخيال في لحظة مصدرًا لكلّ أشكال الأمل والإلهام" . (عبد الحميد: 2009، ص 303)
أجساد ووجوه غير واجمة خاصّتها صرخات تروّج تراكيبَ فنّيّة تعجّ بأطر نفسيّة مختلفة يتشابك فيها الظاهر والباطن وقد انصهرا في نظام تفاعليّ داخلي وخفيّ. انعكس هذا التّواشج على ترجمة الأحاسيس والأفكار على بيانات الممارسة. وهنا ارتأت الخزّافة أن توسّع من ممكنات محاورة الخامة بطرق تسعى إلى تجسيد الصّوت بصريًّا... إنَّه استنطاق الصّمت بمقروئيّة بصريّة تتولّد عن حركة مسموعة تستدرج الخيال والإحساس في تداخل بينيّ يحقّق نوعًا من التّفاعل دون حدود واضحة للأمكنة. وقد أضحى الحديث عن المكان محور مساءلة بين الاحتواء البصري والاحتواء النّفسي لسلطة الخزّافة على استهداف حواسّ المتلقّي للانعتاق بالشكل الخزفي من مستوى الممارسة إلى الفضاء الاستيعابي، ونقله من المجال البصري إلى الحقل الفكري ليكون بمثابة البرهان على التّواجد والإحساس المتجلي الّذي يمكّن من بسط سبل تواصل مع المادّة، يدفع بالّتوترّ بين الفكر والممارسة والتّجربة التّفاعليّة إلى أقصاه؛ فتنتقل المجسّمات من سجل تأثيري ذوقي إلى سجل معرفي متعي يحتوي لبس التّضارب والانسجام، وتباين الواقع والخيال. ويقيم هذا دمجًا بين إنشاء الحركة الباطنيّة والحسّيّة وبين الفكر؛ لأنَّه ضرورة للخروج بالتجربة الخزفيّة من قيمتها الثّقافيّة إلى قيمة إبداعية لا بدَّ من البحث لها عن نقطة هروب للانعتاق بها من بوتقة الممارسة والانغلاق. فتنهض الممارسة الإبداعيّة والتّشكيليّة عند "سناء الجمّالي أعماري" في تجربة المكان والصّرخة على قيم إشكالية تقر مداخل انفعاليّة في هذا المجال، ويمكن أن يفضي هذه التآلف إلى توليد مُمكانات تعبيريّة تسهم في الإقرار بأهمية استحداث قيم إبداعيّة وجماليّة معاصرة، وحلول تشكيليّة لممارسة خزفية.
أهميّة الفضاء في تدعيم الحركة البصرية من خلال تفعيل فعل التّجانس بين الخامات وتآلفها
ظلّت التّجربة الانفعاليّة محورَ اهتمام الخزّافة في ممارساتها، لم تكن في حقيقة الأمر بمعزل عن قيمة إبداعية تشرع للبحث عن مبرّرات هذا النّهج، وتستدعي تصور التّمثّلات التعبيرية، والإنشائية، فهي السبيل البصري الّذي يوالف بين العمل الفنّي والخامة قصد إيجاد آليات ومقاصد الربط بين التّقنيّة والقيمة الإبداعيّة؛ بما يُمْكن أن يحدّد العلاقة الإجرائيّة بالمفهوم الجمالي التّعبيري كتقنيات تعالج ممارسة خزفية رهانها المعاصرة والتّجدّد و"التّوتّر" المستمّر.
لم تكن صياغة الصّرخة بعيدة عن مسار أركيولوجي يغوص في الأرض ويبحث فيها قصد تحقيق القيمة التعبيرية، وطرح قطبية العلاقة بين الخامة والأثر والمكان. وفي هذا دفع نحو تصور العلاقة بين صيرورة إنشائيّة ومسار أركيولوجي للأرض ضمن تصور تشكيلي يعرج بممارسة خزفية معاصرة تربط بين التقنية من جهة والناحية التعبيرية والتّشكيليّة من جهة ثانية.
إنّ التّطرّق للمادّة ضمن مسار "الصّرخة" وتجلّياتها هو في الأصل عودة للنشأة، أو هو بحث في طبيعة المادّة الغفل وإعادة قراءتها ضمن سياقها الطبيعي الذي يستعير من الأرض رطوبتها وحرارتها، ولينها وصلابتها لتكون مجسّمات خزفية تصور الأرض والإنسان بفكر "سناء الجمّالي أعماري". أجسام خُلقت من أرض عجينيّة تنبض بالحركة والحياة بعد أن غادر الماء شرايين الطين منها إلى غير رجعة، ولكنّها مغادرة فيزيائيّة ترصد الخزّافة من خلالها باقة أخرى من ألوان الحياة والحركة وومضات من صرخات سورياليّة. فبين الطين والأرض عاطفة ملتهبة تتخذ من المادّة مسارًا أركيولوجيًّا يتلبّس بباطنها ويكشف عما ينبض به سطحها من معنى التّواصل، أو إنّه استعارة الصّرخة والتّراب والبحث عن معادن خفية للتّجانس يمكن رصدها من خلال تفاعل الموادّ تحت تأثير الحرارة فيها بغية تحوير الخامات وتحويلها؛ كي تعيد تشكيل ذاتها بذاتها في صياغة جديدة بما يدفع نحو تواصل بالحواس والفكر. ولا تخضع تجربة "الصّرخة" عند الخزّافة إلى المنهج المتفّق عليه، بل سعت لتصديع أسسه، وخلخلة ثوابته كي تلج لممكنات التحوّل التي تربط بين الذاتي والموضوعي، وتجلّى هذا التّزاوج والالتقاء مباشرة مع المادّة فتندمج فيها كليًّا أو جزئيًّا وتصير "الصّرخة التّرابيّة" قاسمًا بين عديد الفضاءات والأزمنة بحثًا عن مناهج التعبيريّة الّتي تربط بين الأرض والممارسة في اختيار المواد وطرق توظيفها وصياغتها أو تفعيلها كخواص لونية وإبصارات فيزيائية؛ حتى يعبّر المبدع بالمادّة من حيث هي وسيلة إلى حيث هي غاية، لأنَّ هذه الغائية هي تجاوز لفكرة الرّغبة في مجرّد الممارسة، بل هي تحوّل الأفكار إلى موجودات حسية... إنَّها إلحاح الضرورة التي تهب المادّة وضعًا مرئيًّا جديدًا وتحيل البحث فيها إلى بحث في الذاتية وجواهر الأشياء التي لا يمكن التعبير عنها إلا بالأشياء ذاتها... هي الجواهر الّتي تتجاوز الهُوّة الفاصلة بين ذاتيّة الفنّان و"ذاتيّة المادّة" الّتي تثير فضولنا وتحوّل المواقف إلى مرئيات وأشكال تستوعب تجربة مباشرة تتداخل فيها المادّة مع الإدراكات الحسّيّة؛ بما يحيط ذات الخزّافة برغبة الولوج داخل المادّة وسبر أغوارها وعرضها في تجارب تستبعد الثّوابت والقيم الجماليّة الكلاسيكية، وتستقرئ الذّات في مرآة مادّة تروم أن تصبح أكثر تعبيريّة عن بواطن الخزّاف الذاتيّة، وترصد خواصّه وانطباعاته الإيحائية والحُبلى بكثير من الرؤى والاستنباطات الواعية بضرورة تحرير الخامة في سياق ينم عن حالة من استبطان... حالة خلاقة من الوعي بالوجود كمصدر من مصادر البحث انطلاقًا من كونية مادّة الطين التي لا يمكن تجاهلها مما سمح بتمظهر الوعي الباطني، ووقع تحويل صبغته إلى جوهر ذاتي يلتحم بذاتية المادّة كمصدر من مصادر التعبير عنها بصيغ مختلفة من الأشكال التي تتجرد من كل غائية، إلا من المادّة كموضوع والذي تتحوّل وفقه إلى مركز وجوهر قد لا يعبّر أحيانًا عن نوازع نفسية أو ضرورة داخلية إلا ما شاءت الخزّافة أن تحوّله إلى تأمل وتجربة وتعبير يحدث خللًا على مستوى المكان والزمن... وجوه "تعزف" صرخة بمثابة نغمة تنتشر أصواتها داخل أزقة روح باطنيّة لا أحد يقدر أن يمسك أطرافها، هي سلسلة تُشغل الجزء التّفاعلي بالذّات والّذي يتّجه نحو الخلق والتّجديد بوجود ميزة ادراكيّة مزدوجة، إنّه البحث عن أمكنة سوريالية يقطنها الخيال تنتهي فيها الكلمة وتعود فيها الخزّافة مراهقة طفوليّة تصبح هي نفسها استراتيجيّة إبداع.
تستحيل خامة الطين إلى صرخة حقيقيّة... الخزّافة والمادّة واحد... إنَّها سبيلٌ إلى إدراك ومعرفة إمكانات الذات... هنالك طور عميق يتحقق بالتواصل مع المادّة... وصمة خاصة تعتري الذّات الفاعلة حينما تتحسّسها وتلامسها، أو حتى حينما يحتد الصراع بينهما، فتعلو صيحات الصراع وتولد صرخات البعث من معركة الوجود والتّواجد... وإذا أردنا تفسير هذه العلاقة فلا حائل لنا إلا أن نتحدّث عن مواجهة الخزّافة لمادّة غفل، سلسلة في تحولها إلى أداة تواصل، فكل فعل في المادّة هو في حد ذاته انفعالاً، وأنّ الانفعال هو جزء من تغيير النظرة إلى الذات، فقد بات لها أن تكون وسط الخامة وتجعل المتقبّل شريكًا وشاهدًا على هذا الصّراع... وكأنَّ الكلّ يقيم فيها أبدًا على حد عبارة "باشلار":"إذا سمحنا لأنفسنا بالاستغراق في أحلام يقظة الحجر المصقول فلن ننتهي أبدًا..." (باشلار: 2006، 118)
ولمّا كان للتّواصل بين الخزّافة والمادّة أن يحدث نوعًا من الصراع ليس بين أقطاب العمل، وتستفز انفعالات حميمة قصد إبداع علاقة تشكيليّة تعبّر عنها وتروي صراعًا خفيًّا أبت اللّغة الاستجابة إلى جوهر كنهه... بل هي لغة المشكل والمادّة ... علاقة سريّة تجمعها بمادّة الطين وبصرخة تراها العين وتلامسها الروح... إنَّها صرخة متلازمة تعكس علاقة بينيّة كعلاقة الطين بالأديم. وهي لغة التّشكيل وحبل التّواصل الخفيّ الذي يربط الرّوح بالجسد... كلاهما من طين...
أوجدت الخزّافة "سناء الجمّالي أعماري" حاجتها بالقيمة الحسّيّة في تشكيل مادّة طين تغري بالولوج إليها، وإلى تحسّس أعماقها بأشكال تتوالد... تتكرّر فيها صرخات تنقل الحركة الباطنيّة إلى حركة حسيّة بصريّة تعكس تجلّيات ممارسة تسعى إلى بناء إيقاع متحرّك من الالتقاطات البصريّة. تأسّس هذا الإيقاع على تزاوج بين الخامات واحتضن الطّبيعة في فضائها الرّحب المنفتح والمفتوح كالفيه، مفتوحًا بصرخة، ومنفتحًا على ضروب مختلفة من اللّغة والتّعابير في مسار مختلف متغيّر؛ نتحدّث عن بيانات التّجديد في الخزف التونسي المعاصر.
أهميّةُ الفضاء وكثافةُ عنصر ضوء في تدعيم فعل المشاهدة والتّقبل
نجد أنَّ مجسمات الصّرخة تمثّل كونًا مصغرًا (ماء، تراب، هواء، نار) ولكنّه كون يصرخ ويصرخ، حتى يخترق الصّوت الحدود ومقاييس الزمن والمكان بما يحملانه من فكرة وإحساس. فتعتنق الأشكال الخزفيّة من قيود التاريخ وتنفلت عواطف الذات الفاعلة من الحصر في حقبة زمانية أو مجال مكاني معين. ها هنا الزمن الذاتي يقطع الحدود وينفلت من رفوف النسيان إلى الخلود فينفلت المجسم بصرخاته من لحظة حلم الخزّافة وطوق تاريخية التشكيل لينفتح على مجال الحديث عن زمن التفاعل بينها والمادّة؛ لينشأ حوار وتحاور بينهما لتفعيل بقية الفضاءات الأخرى؛ فتصبح الصرخات وليدة جملة من الصراعات البينيّة... تتزاوج فيها أنامل "سناء الجمّالي أعماري" ومادّة الطين. فتباشرها، وتقيم فيها، ولكن خارج سياق المألوف بل إنّها إقامة استعاريّة، تحمل سرًّا من أسرار سحر الغموض يتميز بأبعاد روحية مبهمة المعالم، ولا أحد يعلم لماذا صرخت "سناء الجمّالي أعماري"؟ أمن أجل وطنها المثقل بعذابات خيبات السّياسة، أم من أجل مرض أصاب الإنسانيّة؟
امتزاجيّةُ المكان
إنَّ إقبال الخزّافة على مادّة الطّين ليس بالأمر الهيّن، ولا أيضًا بالدّرب المعقّد بما أنّه يفتح مصرعي الباب على جملة الصراعات؛ أولها الصراع بينها والمادّة المحسوسة. فتتضارب فيه مستوى العلاقات؛ من علاقة أولى أفقية أساسها السعي إلى خلق التآلف والتواصل مع المادّة لتشكيل أثر فني، إلى علاقة ثانية عمودية تندرج ضمن داخلي الذّات الفاعلة وتنفتح على بواطنها؛ لذلك كانت صرخات طينتها فعلًا شخصيًّا لا يقبل القسمة والمشاركة من جهة، ولكنَّه ينفتح على الآخر في قدرة على الاستجابة للخارج وافتكاك التّبطّن الذي يدفع بتشكيلها لمادّة الطين نحو المرئية والحضور؛ لذا فقد كانت العلاقة الحميمة بينها والمادّة الغفل هي ميثاق قراءة أولى تقوم على مبدأ الإثارة والاستجابة بما هي علاقة تنزح نحو الانصهارية والاستيعابية: علاقة تماهي بينيّة قطعًا للمسافة الفاصلة بين المتعة والذوق، وهذا ما يعطي القدرة في تحويل أجسام الطّين وصرخاتها من لا متعدية جامدة إلي متعدية ذات بعد ايحائي يكتسي قدرة على المرونة في القراءة والتأويل والتمثيل بالخامة إلى التمثل فيها، لأرمي من خلالها إلى تطويع المادّة وفرض نوع من الجبر والترويض وفقًا للرغبات الذاتية.
تشريع التحوّل في خصوصيّة المكان في تكامل التشكيلي والطّبيعي
حتّم وجودُ المثير بما هو طين وجودَ استجابة مدارها الإقبال على المادّة لتحميلها جملة من الصرخات بأحاسيس والاضطرابات متباينة تزيدها الألوان والخامات المضافة حدّةً، وتملأ فراغ السّكون فيها. فتسقط الذات انفعالاتها وأحاسيسها، وقد أوقع عليها الفعل حركة وأوجد منها انفعالًا وتفاعلاً يحاكي البواطن. لقد ألزمت الخزّافة الطين صراعًا آخر وهو الصراع مع بقية الفضاءات كفضاء الطّبيعة وربطه بحركة المادّة لتعمل علة تغيير خصوصيتها وربطها بخطاب تشكيلي متنوّع الأبعاد؛ رغبة في استنطاق تعبيريّة المكان بهدف الولوج إلى "مقصورات اللاوعي" (باشلار: 1984، ص 39). "وكلّ ما كان ارتباطها بالمكان أكثر تأكيدًا كلّما أصبحت أوضح." (باشلار: 1984، ص 39)
كانت الطّبيعة الفضاء الآخر الّذي يحتد الصراخ فيه، وتحضر فيه المجسّمات وأجساد الطّين تكثيفًا للتّفاعل بما يفتح حلقة التشكيل وسلسلة النشأة على أفق جديدة من القراءة والتأويل. ولعلَّ المكان هو ذاته حرارة التواصل التي تتأجج في ذات الخزّافة وتقطن مجسّماتها شوقًا لمساكنة الآخر وتوقًا لحوار التّلاقي المغيّر لكينونتها؛ لأنَّ المادّة الطينية تلبست بالمكان وتشبعت بروحه وتهضّمت روحانيته فمازجها، وتشعّب بكل تفاصيلها، وترك ظلاله إن لم يكن قد ترك هُويته فيها، وليس المكان فحسب قرين الطين ورحمه، بل الزمان رفيق وشريك، كثيرًا ما فعل في الموجودات إنسانًا وجمادًا وفرض عليها سلطته ونواميسه، غير أنَّ له مع المادّة الطينية رابطة مغايرة، فالزمن الذي يلزم الموجودات نهايتها إلى الفناء، يقلع عن سننه الوجودية مع الطين الذي يغير نهجه المعهود ليكتسب كينونة جديدة تنقله من العصيان إلى الطواعية، ومن التمرد إلى التّفاعليّة، ومن الجموح إلى الانصياع. إنّها النقلة من العدم المجازي إلى الوجود الحقيقي؛ لأنَّ المادّة الطينية كانت مجرد شيء مادي فانتقلت إلى معنى وجودي له الشّكل والتّعبير عن مضامين الليّن والصّلابة. فلم تكن أسياخ الحديد أكثر جموحًا وحدّة ولا صلابة أو لينًا من صرخات تبدو صامتة، بيد أنّ هذا الصّمت يخرج عن الأطر المتعارف عليها للمكان. وهي ليست مجرّد علامات بصريّة تلتقطها العين بالنّظر للّون وحركة المادّة، بل يلوح تكامل بين الأسياخ والطّين بمنزلة الكلمة والتّعبير على مختلف المسارات بما يغيّر هُويّة المكان ويحرّر الأشكال من المادّي من أجل النّظر في إمكانيّة إيجاد خيارات أخرى تجعل الفضاء في خدمة مقصد التّكامل لصور حيّة من لون، وشكل، وخامات، ونصّ له أفق تقبّليّة مفتوحة، إذ تستحيل عملية الاستحواذ على المكان والبحث عن صيغة مساكنة له إلى صراع مبدأه الفعل ورد الفعل؛ ذلك أن زجّت الخزّافة بمجسّماتها في مواجهة مخصوصة تنهض على كيان "صرخة وأجسام" من جسد وفعل وإحساس، فاقتحام المكان على صخب "صيحات طينيّة" ليس حدثًا حركيًّا مارست فيه الخزّافة القوة مع الفضاء والمادّة، وإنَّما هو فعل هادف نابع من انفعالات باطنية تجاه الطين والمكان بما تتولد عنها من أفاق مفتوحة على التمثّل وتمليه كوامن داخلية تستفزها تجاه الخامة والمكان والآخر، بعبث طفوليّ أو شيء ما من أحلام المراهقة.
تشكّل مفهوم "اللّعبي" و"المراهقة" الإبداعيّة أو اللّعب بالخامة ملامح منظومة تعبيريّة تضع الخطوط العريضة لجزء كبير من طبيعة غامرة تبني أشياء بطابع مركّب من طين، ومن غيره. أسهم المكان في خلق فضاء إدراكي مكّن من تعزيز الوعي البصري وإنشاء حوار ينسجم فيه المتلقّي مع المثير الخزفي بشيء من التّفاعل والانفتاح. فلا نستطيع أن نتجاهل دور الطبيعة في تركيب المعنى لتكون بوابة حركة متغيّرة لا تقتصر فيها المثيرات على "صرخة من طين"؛ بل نتحدّث عن مشروع صمت صارخ يقوم على فعل تعميق الرؤيا وتنويع أساليب التّلّقي وتحديثه بتفعيل كثافة عنصر الضوء الذي يخترق المكان، ويلفّ ما حوله، وهذا رغبة في اختراق كلّ داخل وتحريك كلّ ساكن، لأنّ المشروعَ انعتاقٌ وانتصارٌ لمنهج التّشارك، والتّفاعل، ونقل التّجربة الوجدانيّة بهدف إرباك عمليّة التواصل بطمس مسافة التلقي وما إلى ذلك من معايير الاستهلاك الجبهي. وقد كانت الطبيعة أكثر من مساحة التقاء في مكان واحد فقط، وإنَّما هي استمرارية في الولادة والبقاء، ويتعلق الأمر باستراتيجيّة ولادة وتبادل من خلال الاشتغال على تطوير ملكات التمّلص من العوائق الفيزيائيّة، ووضع بنية تحتيّة لملامح تؤسّس لعمران بشري تكون الوجوه مدينته المركزيّة، ومنها إلى "آلة" لإنتاج صورٍ من طين.
على سبيل الخاتمة
هناك أشياء "جميلة" تلفّنا؛ وتتلقفّها صرخة طين، تلفّ أعماق الأرض وقد تردّدت فيها أساليب تحدّي قدر جمود الخامة، وكان "الانتقام" بأنامل الخزافة "سناء الجمالي أعماري" وقد تجاوزت صرخات الطّين نحو نفحات منه... لندقّق جيّدًا. صخب وهجيع، لا شيء في الطّبيعة وُلد ساكنًا، هكذا أرادت الفنّانة أن تعيد ترتيب حركات وسكنات مادّة غفل عصيّة على الإذعان. ولا شيء كذلك وُلد مبتسمًا... فحتّى تلك الصّرخة، تنبش في التّراب بحثًا عن شيء متحرّك يثير الفضول لديها ويدفع للتأمّل: أمر ما يعيد ترتيب أولويّات النّظر... ما ولد صارخًا يحيا مبتسمًا... فالنّارُ لم تكن أبدًا تمثّلًا للجحيم.
المراجع والهوامش
1- د. شاكر عبد الحميد، الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، 2009
2- غاستون باشلار، ترجمة غادة بهلسة، جمالية المكان، مجد المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والتوزيع، ط،6 2006
3- غاستون باشلار، تر. غالب هلسا، جماليّات المكان، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر، والتّوزيع، الحمراء، بيروت لبنان، ط 2، 1984