دخيل الخليفة
شاعر كويتي
*إلى يوسف عبدالعزيز
بيتٌ وآخرُ، كلُّ أيامي بيوتٌ في الهواءِ، وكلُّ بيتٍ مُقلةٌ تبكي وتضحكُ، ترسمُ الأعوامَ غيماً لا يملُّ من الشوارعِ، يقتفي عطرَ البناتِ، يمرُّ بين أزقّةِ الآلام، ينقشُ عمرَهُ هوَساً على الحيطانِ، هذا البيتُ طينيٌّ وذا خشبيةٌ أضلاعُه، بالٍ، وذاكَ معلّقٌ فوق الرؤوسِ، يلمُّ أضرحةَ السكوتْ.
بيتٌ من النهَونْدِ، بيتٌ شالَ ميراثَ النبيّ، وآخرُ اجتمعَتْ به الهِررُ السّمانُ، الرّحمُ بيتٌ آمنٌ، والعمرُ والريحُ المهولةُ والسجونُ وكلُّ أحلامِ الرعاة، صلابةُ الآجُرِّ بيتٌ في خيال المُعدَمينَ، وذا شبيهي حاملٌ بيتاً على كتفَينِ مُتْعبتَين، كانَ الكوخُ يركضُ خلفَهُ، وعيونُ من ماتوا بيوتْ.
أين اختفَى حلُمي؟ هنا مدنٌ من الورَقِ المُقوَّى، هاهُنا رجلٌ تحَدّبَ لابساً جدرانَهُ مذْ باغتتْهُ الأرضُ، هذا البيتُ طينيٌّ وذا خشبيةٌ أضلاعُه؛ ماذا تبقّى فيَّ من ألمٍ أُوزّعُهُ على الأبوابِ؟ لي جسدٌ تحمَّلَ خيبتي في جفوةِ البلدانِ، لكنْ خانَني في صفْرةِ السنواتِ، كانتْ خَيبتي بيتي، تدورُ بي العواصفُ، أرتمي بين الصفيحِ، ألمُّ نفسي من سُعارِ البرْدِ، ثمّ تزورُني في الحلْمِ أشرِعةٌ وكوتْ.
بيتٌ يهرُّ على الحُفاةِ، وأخوةٌ يتقمَّصونَ عواءَ أنثى الذئب، غانيةٌ تغازلُ خصمها الطاووسَ، ثم تُحيلهُ حجَراً على حجَرٍ، كأنَّ الحُرَّ يولدُ فجأةً من رقصةِ السكرانِ فوقَ دمِ الذبيحةِ، هارباً والريح بابُ المكْر، تصرخُ من أسَى الأيام: يا غصناً تعفّرَ بالدم المغدورِ ودَّعكَ الغرابُ، وأنتَ يشربُكَ اليباسُ، يجرُّ خطْوتَكَ السرابُ، وكلما شاختْ بك الأوهامُ كنتَ ببيتِها شجراً يموتْ.
2
هَرِماً رحلْتَ اخترتَ أن تتجاوزَ الأبوابَ، من بابٍ إلى بيتٍ إلى بابٍ هنالكَ مغلقٍ، مسْتسلماً لسَذاجةِ الأوهام، فارقكَ الندَى، والسوسُ لفَّ جذوعَكَ الثكْلَى وأدْمنكَ الذبابُ، كأنَّ بيتكَ صرخةٌ في بطْنِ حوتْ.
بيتٌ يطلُّ على الفجيعةِ، آخرُ اجتمعَتْ به الهِرَرُ السمان، وأنت شحُّ الأرضِ في عينيكَ يا مغدورُ، هذا موعدُ السفر الطويلِ إلى النهايةِ، قلتَ إنَّ الغيبَ يقرأ ما تريدُ من الغيابِ، وأنتَ في الأرضِ اليبابِ، معلَّق في السقفِ، لا أحدٌ يمرُّ على غيابِكَ، لا تمدُّ لكَ البلادُ يداً ـ هناـ لتجرَّ من فمِكَ المخيّطِ مرةً زمناً صَموتاً ذابَ في زَمنٍ صَموتْ.
للبيت ذاكرةٌ نموتُ بمحو ضحكتِها، لنا في كلِّ بيتٍ وردةٌ، في كلّ بيتٍ طائرٌ، والبيتُ كوخ المُعدَمين، البيتُ خيمةُ عاشقَينِ، البيتُ يختٌ عائمٌ، وحبيبةٌ تهبُ المياهَ عذوبةً، وشفاهُها عسلٌ وتوتْ.
بيتٌ من القشِّ القديم، وِسادةٌ من طينِ هذا الوقتِ، والأحزانُ قوتْ!
22.3.2023