مجدولين أبو الرُّب
قاصة أردنية
وَقَعَ الصُّندوق الخشبيّ الصَّغير من يدِه، فانفَتَحَ وانتَثَرَت قطعُ العُملات المعدنيّة على أرض الغرفة. كان لارتطامها بالبلاط رنينٌ انسَكَبَ في أذني، وعَزَفَ فجأةً على أوتار حكاياتٍ قديمة.
هرعتُ أساعده. سألني متعجبًا: "ما هذه النُّقود؟ ولماذا هي مخبَّأة في صندوقٍ على السَّقيفة؟".
يداي تجمعان ما على البلاط، وعيناي تختلسان النَّظر إلى الصُّندوق الخشبيّ الذي أودعتُه سقيفة الخزين منذ زمن بعيد. كأنَّ ميقاتًا للصُّندوق قد حانَ، فدَنا منّي في الوقت الذي كُنّا نهيئ متاعَنا للرَّحيل إلى منزلٍ آخر. تابع ابني مُستغربًا وهو يشيرُ إلى إحدى العملات: "انظري، هذه عُملات لبلدان مختلفة، لِمَن هذا الصُّندوق؟".
أجبتُه: "هذا الصُّندوق لي، كانت هوايتي في صغري جمْع العُملات".
لا أستطيع أنْ أتذكَّر متى بدأ هَوَسي باقتناء العُملات، لكنَّني أستطيع أنْ أتذكَّر كيف دَخَلَتْ تلك الفكرةُ إلى حياتي.
أذكُرُ عندما بدأتُ بفكِّ الحروف وتهجئة الكلمات، ولم أكُن أعرفُ من العُملة غير القروش، كان جيرانُنا يهيِّئون ساحة الحارة التُّرابيّة لحفل زفافِ ابنِهِم، وكُنّا نحن الأطفال، أو كما يسمّينا الكبار "قرودُ الحارة"، كُنّا نَلقى بهجةً ومتعةً في مناسباتِ أهل الحارة؛ في حفلات الزّفاف، وبيوت العزاء، فنأكل الحلوى والتُّمور ونشرب المشروبات الغازيّة مقابل نقلِ الكراسي، أو حملِ أباريق الماء وصواني السَّجائر التي غالبًا ما كنّا نختلسُ منها كي نقلِّدَ الكبار. كانت تصطفُّ ببابِ جيراننا سيّارة فارهة لأقارب مغتربين جاءوا من السعودية لحضور الزّفاف.
يومها أحضَرَ جيرانُنا راقصات يسمونهنّ "جَناكي"، وتحَلَّقَ الكبارُ حولهن في الساحة. لم أتمكَّن من مُشاهدة "الجناكي" من خلف قامات الحضور المتحلّقين، فكان عليَّ أنْ أتسلّلَ وأدسَّ جسدي بين الأجساد المتحلِّقة كي أشاهدَ ما يشاهدون. كان ينعصرُ جسمي، ولا أرى شيئًا من بين القامات الطويلة، لكنَّني كنتُ بارعةً في اختراق الفراغات بين الأرْجُل، أخفضُ نفسي، أحبو كلّما تطلّب الأمر، وبينما أنا أحبو بين الأقدام لمَسَتْ كفّي الصغيرة قطعةً معدنيّةً مغطّاة بالتُّراب النّاعم، التقطتُها، ودسستُها في جيبي. وأخيرًا أطلّ من بين الأقدام رأسُ طفلةٍ بِشَعْرٍ منكوشٍ مُغبَّر، هو رأسي، فتيقَّنتُ أنّ الفُرجةَ تستحقُّ عَنائي.
كانت تحت أكبر سماء مضيئة أشاهدُها في حياتي راقصات يلبسنَ أثوابًا تكشف عن صدورهنّ وسيقانهنّ، أثوابهنّ تُبرقُ وتكادُ تضيء تحت حِبال المصابيح الكهربائيّة المعلَّقة في سماء الساحة، جلستُ متربِّعةً على الأرض وثيابي معفّرة بالتُّراب، شعرتُ بأحدهم يُمسكُ يدي ويهزّها، كان أخي الصغير وكأنَّه استحمّ بالتُّراب النّاعم، وعلى خدَّيه المتَّسخين خطوطٌ شقَّتها دموعُه. دسّ جسدَه في حِجري، وأكملنا الفرجةَ وخدّه المتَّسخ ملتصقٌ بصدري.
أنا الأختُ الكُبرى لأربعة أطفال، ولم يكُن لي مَن هو أكبر منّي لأسأله غير أبي وأمي، فسألتُ: "ماذا يمكن أن أشتري بقطعة النَّقد هذه؟".
قال أبي وهو يعيد القطعة إليّ: "هذه عشر هللات، هي عملة سعوديّة، ولن يقبل أحدٌ أنْ يعطيكِ شيئًا مقابلها، البقّالات لا تقبل غير العُملة الأردنيّة".
احترتُ ماذا أفعل بها، شعرتُ أنّ فيها قيمةً ما، "يكفي أنَّني فرحتُ بلقيتها، ربَّما إذا ذهبتُ يومًا إلى السعودية سأشتري بها شيئًا هناك"، هكذا قال لي عقلي يومها.
قال ابني وهو يلفُّ حبلًا صغيرًا حول الصُّندوق: "هكذا لن تقَعَ القِطَعُ النقديّةُ منه، ماذا ستفعلي بها يا أمي؟". أجبتُه: "سأفكِّر بالأمر بعدما نُنهي الرَّحيل ونستقرّ في المنزل الجديد".
كنتُ أجلسُ في السيارة إلى جانب زوجي، وتسير خلفنا شاحنة كبيرة تحمل أثاثنا ومتاعنا. في مقعد السيارة الخلفي كان ابني يضع الصُّندوق الخشبيّ في حِجره، ويشرح لأختَيْه كيف كانت "ماما" وهي صغيرة تجمَع العُملات، ويَعِدُهُما بأنْ نتفرَّج عليها معًا.
في الطريق إلى المنزل الجديد، تذكّرتُ كيف ازدادَ تعلُّقي بجمْع العُملات، كنتُ أفرح بفكرة الاقتناء نفسها، وأبحث عن اللذّة التي تمنحني إيّاها معرفة مفرداتٍ جديدةٍ تنضافُ لقاموس كلماتي من أسماء العملات وأسماء البلدان.
انفَتَحَت في ذاكرتي أبوابُ منازلَ قديمةٍ تشبه لُعبة "بَيْت بُيوت"، وشُرِّعت الأبواب. في الصُّندوق قرشٌ فلسطينيٌّ عجيبٌ أعطتني إيّاه عمَّتي عندما عرَفَتْ أنَّني أحبُّ جمْع العُملات، كان شكلُ القرشِ غريبًا، ففي وسطِه دائرةٌ مفرَّغةٌ، وكأنَّه قرشٌ مثقوبٌ، قالت لي عمَّتي: "هذه العُملة لم يعُد أحدٌ يشتري بها، لكنَّها ستذكِّركِ دائمًا بفلسطين".
ما مرّ هذا القرش في بالي إلّا ويحضر معه مشهدُ جدران بيوتٍ من أكياس السُكَّر وأكياس الدَّقيق، وجدران أخرى من قماش، ولعبة "بيت بيوت" لعبَها الكِبارُ مثلنا نحن الصِّغار في العام 1967، أو "عام النَّكسة".
في ذلك العام تدفَّقت إلى حارتنا عائلاتٌ قادمةٌ من فلسطين هاربة من الحرب، عائلاتٌ صارت بلا بيوت. كان في سفح الجبل بطرف حارتنا مغارةٌ واسعة، تقاسمت المغارةَ عائلاتٌ ثلاث ورفعوا حواجز من أكياس السُكَّر والدَّقيق لترسيم الحدود بينهم. عائلةٌ أخرى نصَبَتْ خيمةً وسكنتْها، وسمَحَت والدتي لنسائهم باستخدام الحمّام في بيتنا. أمّا عمّتي القادمة من فلسطين أيضًا، فأقامت عندنا هي وزوجها بضعة أيام، ثم استأجرا غرفة في حارتنا، كانت غرفة في منزل مُشتَرَك مع عائلة أخرى. عمَّتي تقاسَمَت الحوش ورسَّمَت الحدود مع الجارة بجدارٍ من القماش يتكوّن من شراشف ملوّنة مثبّتة بحبال مشدودة تشبه حبال الغسيل.
كنتُ صغيرةً، فظننتُ الكبار يلعبون مثلنا "بيت بيوت". تلك المَشاهد كانت مصدر دهشةٍ وتعجُّبٍ وحتى بهجة بخيمةٍ لم أرَ مثلها من قبل، وجدران منخفضة من أكياس الدَّقيق والسُكَّر في المغارة، وحائط عمّتي القماشيّ الملوَّن.
الآن أشعُرُ بالبؤس لتذكُّري تلك المَشاهد، ذلك الثُّقب في القرش الفلسطينيّ بعدما بدأتُ أعِيَ وأفهمَ صار ثُقبًا يسيلُ منه الحزن في قلبي، شعرتُ بذلك بعد النَّكسة، وبخاصة لمّا كان الكبارُ يتجمَّعون حول المِذياع ليستمعوا إلى الرَّسائل التي يرسلونها لأهلهم غرب نهر الأردن، كانت الرَّسائل تُنقل عبر الإذاعة الأردنيّة في برنامج تبدأ شارَتُه بصوت "فيروز" ينساب عبر المذياع:
"وسلامي لكُم.. وسلامي لكُم.. يا أهلَ الأرضِ المُحتلَّة.
يا مُنزرعين بمنازلكُم.. قلبي معكُم، وسلامي لكُم".
ثم ينخفض صوت الأغنية ويبدأ بثّ صوت المذيعة "كوثر النشاشيبي" وهي تقرأ الرَّسائل التي ينقلها الأثير عبر نهر الأردن، فيتواصل النّازحون مع أهاليهم بصوت "النشاشيبي"، ويبثّون أشواقهم وأخبارهم على الملأ.
أصواتُ أبنائي التي عَلَتْ من المقعد الخلفيّ نبَّهَتْني: "ها هو المنزل الجديد"، "لقد وصلنا".
بعد يومين، ناداني ابني، كان يجلس مع أختيه إلى طاولة في غرفة المعيشة، وأمامهم الصُّندوق الخشبيّ والعُملات مفرودة على الطاولة. سألتني ابنتي الكُبرى: "كيف جمعتِ كلّ هذه العُملات؟"، فأخبرتُها أنني أعلنتُ لجميع أقاربي وجيراني وصديقاتي بأنّني أهوى جمع العُملات، فأعطتني خالتي قطعة نقد كويتيّة، وجاءني والدي بقطعة نقد عراقيّة من صاحبٍ له، وفي العطلة الصيفيّة عندما كان يأتي المغتربون لقضاء إجازاتهم في الأردن كانت تنمو مجموعتي، ولا تنسوا أقاربي من الشَّباب الذين يدرسون في بلاد أجنبيّة، وعلى مدى سنوات صارَت عندي هذه المجموعة.
"ولماذا توقَّفتِ عن جمْع العملات؟"، سألت ابنتي الصغرى، فقلتُ لها: "إنّ رغبات الناس وما يستهويهم ليست أمورًا دائمة، ومن الطبيعي أن تتغيّر. فقدتُ اهتمامي بالأمر لمّا بدأتُ دراستي الجامعيّة، ولكنّني لم أفرِّط بعملاتي تلك، ولم أعرف ماذا أفعل بها، فوضعتُ الصُّندوق على السَّقيفة، ومع الأيام راح من بالي".
كان كلُّ واحدٍ منهم يُمسك بقطعة من العُملات، يقرأون أسماءها وسنوات إصدارها وأسماء دُولها، ناولتني ابنتي الصُّغرى قطعةً وسألَت: "لأيّ بلد هذه العملة يا أمي؟"، ومِن نظرة سريعة عرفتُها جيّدًا، قلتُ لها: "هذه عملة بلغاريّة... ستجدون قطعًا كثيرةً مثلها".
- مَن أعطاكِ كلّ هذه القطع البلغاريّة؟
قلتُ وأنا أمسكُ جهاز التحكُّم وأشغّل التلفاز: "ابن عمّي كان يدرس في بلغاريا، وفي كلّ صيف عندما يأتي لزيارة أهله كنتُ آخذ منه قطعًا نقديّة وأضيفها لمجموعتي".
بدوْتُ لا مُبالية عندما أجبتُ ابنتي، بل بدوتُ مشغولةً بمُشاهدة التلفاز، لكنّ هذه العملة البلغارية ذكّرتني بخيبة أمل آلمتني منذ زمن بعيد، هي الآن حكاية لم تولد لأقول إنَّها ماتت، لكنَّها في وعيي آنذاك كانت صادمة.
كان عمري ثلاث عشرة سنة لمّا كنتُ أذهب لبيت عمّي في الصيف، فيكون ابن عمّي الطالب الوسيم الذي يدرس في بلغاريا موجودًا في بيت أهلِه ليقضي إجازة الصيف. أطلبُ منه عملة بلغاريّة، فيعطيني. كنّا دائمًا نجلس مع العائلة في حديقتهم تحت شجرة كينا عملاقة، تهفهف الريح أوراقها فتُصدر صوتًا مميّزًا يشبه احتكاك أوراق منثورة بأرض الشّارع في يوم عاصف.
في تلك السنة بدأتْ بعض البنات في صفّي يتحدَّثن عن الحُبّ والعشق، وتتباهى إحداهنّ بأنَّ شابًا وسيمًا يتبعها في الطريق إلى المدرسة، وأخرى تقول إنَّ أحدَهُم غمَزَ لها بعيْنِه، وتجرَّأت أخرى على المشي مع شاب في شارعٍ بعيدٍ وراحا يتحدّثان معًا. كنتُ أستمع وأغار، وأتمنّى لو أجرِّب شيئًا من هذا الحُبّ، ووجدتُ في ابن عمّي ضالّتي، صرتُ أروح إلى بيت عمي في الصيف من أجلِه لا من أجل العُملات، وأقنعتُ نفسي أنّني أحبُّه، كنتُ سعيدةً لأنَّ لي حبيبًا مثل الأخريات. وعندما كنتُ أزور بيت عمّي في غياب ابنهم، لا يحلو لي الجلوس إلا تحت شجرة الكينا التي تذكِّرني بجلساتِه تحتها، وارتبَطَ صوت حفيف أوراق الكينا في ذاكرتي دائمًا بانتظار حبيبٍ لا يأتي. ظلَّ هذا الحُبُّ من طرفٍ واحدٍ، وغير مُعلن لمدة ثلاث سنوات، وانتهى بزواج ابن عمّي من فتاة بلغارية جاء بها إلى أهله لمّا تخرَّج من الجامعة.
فجأة قال ابني: "ماما أنتِ تقولين إنَّ جمع العملات لم يعُد يستهويكِ، صحيح؟".
- صحيح.
- هل تسمحين لي بأخذِها؟ لديّ فكرة مشروع لها.
- أوافق إذا سمَحَتْ أخواتكَ بذلك، وإلّا ستتقاسمونها أنتُم الثلاثة.
أحدثوا جلبة في الصالة وهم يتشاورون؛ مزيج أصوات لمراهق تغيَّر صوته وخط شاربه للتوّ، وصبيّة تصغره بعامين، وطفلة أنهت الروضة منذ أسابيع تحاول أن تفهم مقلّدة أخويها. تشاوروا، ثم قرَّروا أنْ يصوّروا كلَّ قطعةٍ من العُملات، ويعرضوها للبيع على أحد المواقع على شبكة الإنترنت. كانوا متفائلين لأنَّ الكثير من قطع النَّقد تلك تحمل تواريخ إصداراتٍ قديمةٍ ترجعُ لخمسينات وستينات القرن الماضي.
لم أعترض.
لكنّي دَسَسْتُ يدي في الصُّندوق، والتقطتُ العُملة النقديّة المثقوبة، واحتضنتُها مع مقتنياتي العزيزة في خزانتي.