رحل النهران.. وبقيت قمصانُ الكتابة!

مفلح العدوان
قاص ومسرحي/ رئيس مختبر السرديات الأردني.

كأنَّني جُبلت من ماء ورمل وحرف..
أوازن بين ثالوث التشكيل هذا، وتلك الذاكرة التي تسكنني، فأتماهى معها وفيها، وأعودُ بالزمن إلى ومضات تلمع رغم غلبة النسيان بعد سنين عددا، تفصلني عن تلك المحطات، مذ كانت نشأتي التي أعيها بين مائين؛ سيل الزرقاء، وفي صويلح ينابيع الماء.
ثراء دفق الماء هذا، خلّاني أنظر بعين غير تلك التي درجت عليها طفولة أبناء أسلافي من سلالة الرمل والشمس، السرّ في دهشة الماء، توقيت وعيه، لا في كميته، كانت تلك الالتماعات الأولى التي تركت أثرًا في روحي، بصمةً توازي ما تتركه أعظم الأنهار في مجاوريها، إذ كان يرفد ينابيع الماء تلك، ذخيرة ماء مختلفة في بيتي، هناك نهران بجانبي يحضناني، فأخفض لهما كلَّ أجنحة نبضي ووعيي؛ أبي إذ يُرتّل القرآن حينًا، ويقرأ بمهابة صوته السيرة الهلالية، والآخر نهر أمي بوشم أخضر يعانق وجهها، تصلي وتدعو وتستذكر رحلتها من مكانها البكر في "شفا بدران" إلى قرية زوجها في "السليحي"؛ ثم ارتحالهما إلى الزرقاء ليعمل أبي في مناجم الفوسفات هناك.
تلك الشراراتُ الأولى التي أوقدت جذوة تلمس وعي الحروف، ومعرفة الأمكنة، وتشكّلات الوجدان البكر، فالمدينةُ واطنتني منذ البدايات، والقرية حفرت أكثر في الداخل رغم أنَّي لم أسكنها، بل كانت زيارات الأخوال والأعمام هي مخزوني الذي تومض به الذاكرة، حين كانت في الأفراح والأتراح، وكان فيها حميمية مواسم الدهشة لفتى عاش تلك القرى من حكايات مخيال الأم وأرغفة قصصها، ومن ذكريات الأب الذي يمزج سواليف أهل تلك القرى بسيرة أبي زيد الهلالي وأخته شيحة والفارس ذياب غانم، وذاك الترحال الملحمي في الأسطورة والتراث، فكان استلابي لهذا المعتق من إرث يمزج بين الإنساني والمحلي.
***
أولُ الوعي، هو التشكيلُ البكرُ لمعمار تكوين الحرف، إذ يتدرج حياتًا فينا كما أعمارنا، لكنَّه لا يهرم بل يزداد تلمسًا لحضور الإبداع منا، وهو يصهر تجاربنا، أرواحًا من قصصٍ ومسرحياتٍ وتعبيراتٍ مبدعة تبقى.
والحرفُ أكمل تشكيلي حتى مع جفاف سيل الزرقاء واختفاء عيون الماء في صويلح، حتى مع ارتقاء النهرين اللذين في بيتي؛ أبي وأمي، إلى سدرة الغيوم العلى، فقد أدت منابع الماء هذه مهمتها، وبقي الحرف نبعًا لا ينضب، كأنَّه وحده الخالد جريانًا، الحرفُ صار نهري ومائي وارتحالي ووجداني، الحرفُ استلبني لنبضه، الحرف حَرَفَني عن جادة الثبات المُسلّم به، إلى قلق الأسئلة المُختلف عليها.
والحرفُ اشتعالٌ تقمصني، فاستسلمت لسطوته..
والحرفُ صار يحمل إيقاعه الذي يفرض حضوره بعد عمر من اللهاث مع التجربة بكل تشكيلاتها وتفاصيلها، ولذا باتت المسؤولية أكبر، والرهبة أكثر، والاحتراق عذب جميل كأنَّه شوق الحبيب، هذا هو الحال الذي أتلمسه بعد سنين من أول حرف كان الاكتواء بمعاينته، وانثالت الكتابة بعده احتراقًا متكرراً، ثم انبعاثًا بعد حين!

***
إنَّها حالة غيبة، مع كلِّ نصٍّ تكون كتابته، وبعده تكون العودة إلى برزخ هو مرفأ الإبحار إلى نصٍّ آخر، قد يكون من الجنس الأدبي ذاته، أو برداء تجنيسي آخر، لكن نحلة الكتابة تبقى تبحث عن زهرة تحطُّ عليها، بحثًا عن رحيق مختلف، عن جوهر الفكرة، ليكون الواقع مُجَسّداً والخيال جامحًا، لتكون الحقيقة عارية بلا زيف، والأسئلة تتجدد جرأة وتضيف!

***
كنتُ دائمًا حين أتهيأ للكتابة يراودني مارد السؤال: ترى بأي شكل سيكون الخلق هذه المرة؟
وأنا أعرف أن المُنْتَج سيكون ترجمة للفكرة الحلم، وبأي هيئة يتم إنجازه؛ كان قصةً، أم مسرحًا، أم روايةً، أم نصًّا، أم حديثًا عابرًا، فكلها قمصان للكلمة، بينما الجوهر واحد، حيث تختلف المُسَمّيات، والأغلفة تتغير، غير أنَّها تبقى أَرْدِيَة نسميها كيفما اتُّفِق لنُعطي مترادفات للفكرة، واحتمالات للأجوبة، فلكلِّ سؤالٍ قميصُ إجابته، وله رداء حلوله الأخير، وبين كل سؤال وآخر هناك كلمات، ونصوص، وسرديات؛ مَرّةً فيها انزياحٌ عن إيمان، ومرّةً يتنامى فيها الإيمان، مرة تتلبسها الفتنة، وتارة الغواية، وأخرى السخط، وأحيانًا الفرح، ومرات الحزن، كلها تريد أن تظهر بلونها المختلف في نسيج ما يكون من إبداع، ولذا فما يصدر من كتابة يسمى تارة على شكل قميص عثمان، ولن يكون النواح دمه بل الأسطورة، ومرة قميص يوسف، وهنا موازاة بين نبوّة الكتابة، وغواية التعبير عنها، وفي ردهة أخرى على شرفة الإبداع معلقٌ قميص هرقل المسموم، وأرى ما أرى فيه خيلاء العظمة، وانكسار الخديعة، أو رداء امرىء القيس الذي أورثه القروح، وهنا حال شكل آخر من الكتابة هي بين سطور الشعر وجروح الأمر الواقع.
ولكن ماذا يكون في النهاية؟، حين يكون الشكل قد اكتمل، والفكرة نضجت، والغواية حضرت، وفتنة الاكتمال تريد أن تسطّر ذاتها نقشًا يبقى كشكل أخير من الكتابة الدالة علينا/علي.. هنا، عندي، في النهاية يكون السطر تقمّصًا لأسطورة إبداع، وتبقى تلك الأسطورة هي القميصُ الأكثر حضورًا فتتنقل بمسمّى قصة، أو على هيئة مسرحية، أو بشكل رواية، وحين يكون المكان حاضرًا يكون هذا التداخل بين كل الأجناس حتى يليق المقال بالمقام قداسةً وعمقَ وجدان.
***
ودائمًا حين أبدأ مرةً أخرى..
تأتي الفكرة أيضًا.. تحضر بوجع ودهشة ووجد، تحضر بقلق يتماهى بين الكربلائية والنؤاسية، هل هو جرح أم سُكر؟ دم أم نبيذ؟ أمر أم خمر؟، إذن فالحالة هي هكذا حين تكون فرحة مشوبة بألم، لعلّها ولادة.. وأستمر فيما بدأت.
ولعلَّ كتابتي للقصة القصيرة هي أول المغامرة/ التجربة/الغواية، وقد كانت تأتي من وحي الصحراء، وكانت تحمل في إهابها ذلك الموروث الذي أستنبطه من الرؤى القديمة التي شكّلت في الوجدان والفكر إطلالةً أخرى على عالم حولي، وفي عمقي، بموازاة التماهي مع واقع هو رغم كل تناقضاته، ما زال ينهل من هذا الوعي والعمق الأكثر رسوخًا، والذي انعكس على كل مسميات العالم الحديث.
ثم بعدئذ كانت الرحلة نحو فضاءات مختلفة؛ المسرح، والسرد المكاني، والرواية، وأساطير الرقمنة الحديثة، وتجليات الأفلام الوثائقية، وكل عنوان من تلك العناوين بحاجة إلى تفصيلات لها مسوغات، وظروفها التي حكمت الشكل والمضمون.
وأبقى أحاولُ، مسكونًا بالتوق للكتابة، والترحال، والتنجيم في فضاءات الإبداع، ومحاولة تلمس لحظات الكشف والرؤية والقراءة في رمل الحياة/والآخرة أيضًا، كي تكون الكتابةُ مختلفةً، وطازجةً جديدةً رغم كلِّ الأساطير والذاكرة والتاريخ المسكون فيها.. تلك أمنيةٌ وحلمٌ، ومحاولةٌ مستمرة!!