نضال القاسم
كاتب وباحث أردني
وسط تعدد وسائل الثقافة الصوتية والمرئية فإنَّ الساحة الثقافية في الأردن ما زالت في حاجة إلى مزيد من الأعمال الإبداعية المتميزة، وثمة حاجةٌ ماسة إلى الالتفات لليافعين؛ والاهتمام بهم، ومناقشة مشكلاتهم، والتوجّه لهم في أعمال أدبية تناسبهم بموضوعات مختلفة، تكون أكثر اتساقًا مع اهتماماتهم، وتتعاطى مع الارتباك الذي يعيشونه نتيجة دخولهم عالم الكبار، بينما ما يزالون أطفالًا؛ بهدف مساعدتهم على فكِّ الالتباس، ومعرفة أنفسهم، ومعرفة العالم بشكل أفضل، لا سيّما أنَّ هذا العمر يمثّل بداية مرحلة تكوين الوعي، وربما كانت هذه الحاجة، هي المسؤول الأول عن بروز أدب اليافعين، أو الفتيان في الآونة الأخيرة، واهتمام المحافل الثقافية الدولية والعربية به واعتباره أداةً مهمّةً من أدوات التنمية الحقيقية في الإنسان، بما يجعل منه نواة لمجتمع متحضر.
ولا بدَّ من الإشارة في هذا الصدد إلى أنَّ أدبَ اليافعين جديدٌ على الأدب العربي، وحال قرائه ليس ببعيد عن المُناخ الثقافي العام، الذي يعاني قلة معدلات القراءة، وهو ما يجعل من إقدام دور النشر على هذا الأدب مغامرةً غير مأمونة الربح، الذي يُعدُّ هدفًا أساسيًا لها، كما أنَّ العديد من دور النشر التي أخذت على عاتقها نشر روايات الفتيان ما زالت خبراتها متواضعة في هذا المجال ولم تراعِ المعايير التي يجب أن تلتزم بها حتى تستطيع أن تستقطبَ اهتمام الفتيان، فخرجت إلى الساحة الثقافية رواياتٌ هزيلةُ المضمون بأشكال بائسة تنفر الطفل بدل أن تجذبه وتشجعه، ووقع بعض الكتاب أحيانًا في فخ المباشرة، والاستسهال، والبعض الآخر استنسخ تجارب وموضوعات، ليست من ثقافتنا بل من البيئة الغربية، مما يؤكد أنَّ هناك فجوة بين الموضوعات، التي تهم هذه الفئة، وما يُقدم لهم.
إنَّ نمو أدب اليافعين يتطلب التعامل مع العمل الأدبي الموجه لهذه الفئة؛ باعتباره أدبًا وليس كتابًا للوعظ، فأغلب الروايات في هذا المجال ما زالت تكرر نفسها دون أي تغيير ودون مراعاة لتطور الطفل واحتياجاته المعرفية، كأنَّ مؤلفيها قد وضعوا أنفسهم في قوالب لا يستطيعون أن ينفلتوا منها، وما دامت دور النشر تشجع على إبراز المضامين التقليدية دون أن تكلف الكتّاب بإضافة ما هو جديد، فإنَّ روايات الفتيان في بلادنا ستبقى في مكانها ولن تحرز أي تقدم يذكر، لا سيّما في ظلِّ ما يمتلكه هذا الجيل من الثقافة، وأدوات المعرفة، وسرعة وسهولة التواصل مع العالم، من خلال شبكة المعلومات.
وعليه؛ فإنَّ اهتمامنا بروايات الفتيان يجب أن يكون نابعًا أساسًا من احترامنا للكتاب وتقديرنا لأهميته في حفظ تراث الأمم وتجاربها وانجازاتها، وكلما كان العمل الفنّي صادقًا وسهلًا، كلما دخل القلوب وألفته الأنفس وأعجبت به، وخاصةً إذا كان الأمر يتصل بأدب الناشئة، فالصدقُ هو أمرٌ جوهريٌّ في التوجه لجيل الناشئة، وينبغي تشجيع كتاب الأطفال والمبدعين من ذوي العطاء المتميز على إنتاج أعمال رفيعة المستوى، يكون من شأنها تنمية قدرات الفتيان الأدبية والثقافية، وخلق الوعي الأدبي لديهم، وتوسيع آفاقهم، وتعزيز خيالهم، وإثراء المكتبة العربية بالأعمال الأدبية الخاصة بهم، ويمكننا كذلك في هذا الإطار الاستفادة من التراث، عند الكتابة للفتيان، وذلك من خلال إعادة نشر بعض الروايات العالمية للكبار، بشكل يلائم اليافعة، وبما يخدم ذوي الاحتياجات الخاصة من المكفوفين أيضًا، فالهدف الحقيقي هو أن يكون لأبنائنا كتاب «جيد»، ليحافظ الكتاب على مكانته، إذ أن الكتاب الجيد يوجد قارئًا جيدًا، وما أشد حاجة أمتنا إلى أجيال تحترم الكتاب وتقدره حقَّ قدره، وما أشد حاجتنا إلى أبناء يعيدون لهذه الأمة مكانتها التي كانت عليها، وهذا لن يتسنى إلا بالتمسك بالكتاب والعمل بالعلم النافع.
وفي السنوات الأخيرة، حدثت في الأردن ثورةٌ كبرى في مجال رواية الفتيان، إذ ظهرت على الساحة عدة أسماء رفدتْ هذه الرواية بإبداعات إيجابية، أسهمت في تطويرها، وبلورة كثير من جوانبها، من أجل امتلاك تميّزها، وخصوصيتها، وقد ركّزت هذه الروايات في المجمل على توجيه الفتيان نحو الإيمان بالمستقبل، والإيمان بالعمل، والكفاح من أجل استرداد الوطن السليب، والالتزام بالنظام الصحيح، وتقوية روح التضامن والتعاون، وكسب الثقة بالنفس، وتنمية الشجاعة والجرأة في نفوس الأطفال .ومن الأمثلة على هذه الروايات على سبيل المثال لا الحصر رواية «الجدران الباردة» لفؤاد بني سلامة، والصادرة عن منشورات وزارة الثقافة الأردنية عام 2010، ورواية «كنعان اليبوسي» لنجلاء حسون والصادرة في عام 2011 عن اللجنة الملكية لشؤون القدس، ورواية «تراب مضيء» لهيا صالح، والصادرة في عام 2013 عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، ورواية «دفتر سيرين» لكوثر الجندي والحاصلة على "جائزة كتارا للرواية بفئة روايات الفتيان غير المنشورة" عام 2017، ورواية «أصدقاء ديمة» لسناء الشعلان، والحاصلة على "جائزة كتارا للرواية بفئة روايات الفتيان غير المنشورة" عام 2018، ورواية «قاهر قراصنة السند» لندى جمال صالح والحاصلة على "جائزة كتارا لروايات الفتيان" عام 2020، ورواية «أنت قادر» لفادي علي البتيري، والصادرة عن سلسلة شغف من منشورات وزارة الثقافة، عمان، 2022.
لكنَّ هذه المسيرة لم تَخْلُ من بعض الظواهر السلبية التي ظلّت عالقةً بروايات الفتيان، ومن هذه السلبيات، عدم تحديد هؤلاء الكتّاب العمر الذي يوجهون إبداعهم إليه، ومنها فشل كثير من الكتاب في تقديم روايات تستطيع حقًّا أن تُمتعَ الطّفل بالرسومات المعبرة، وتُبهجه بالمواقف الطريفة، وترضيه بالكلمة المرحة، وهذا عائدٌ إلى العجز عن تقمُّص شخصيّة هذه الفئة العمرية، والتّحدُّث بلسانها، ونقل الموضوعات التي تدخل في نطاق تجاربها، أو يرتبط بها وجدانهم.
ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ الكتابة للفتيان في العالم العربي، كانت مهملة، حتى أعادت الجوائز الكبيرة، التي رُصدت لها على المستويين المحلي والعربي؛ صياغة المشهد الأدبي، من جديد، واستطاعت لفت الأنظار، وتوجيه الاهتمام، للكتابة لهذه الفئة من الشباب، سواء من قبل الكتّاب، أو من قبل دور النشر المتخصّصة في أدب الطفل واليافعين، إلا أنَّ هذه الجهود المبذولة تبدو غير كافية وما زلنا بحاجة ماسة إلى المزيد نظرًا لمحدودية هذا الأدب، فما كُتبَ للفتيان عندنا يبدو ضئيلًا بالمقارنة مع المجتمعات المتقدمة، وبالتالي فإنَّ أدب الفتيان في الأردن لا يرقى من حيث كم الإنتاج إلى المستوى المأمول الذي يستجيب لاحتياجات الفئة المستهدفة، وما زال في حاجة إلى رفده بمزيد من ثمار قرائح الكتّاب، وإلى مزيدٍ من الوقت، كي ينضج، ويرسخ، وتتشكل ملامحه ويصبح مؤثرًا ويحتوي على المتعة، والرسالة في آن.
وعلى الرغم أنَّ الكتابة في صنف أدبي معين تبقى بالأساس مسألة ذاتية ترجع إلى استعدادات الكاتب وميوله، فإنَّه لا بدَّ من خلق شروط تحفز الأدباء على الإبداع في مجال روايات الفتيان، مثل تيسير نشر الأعمال وتوزيعها، وتوفير تغطية إعلامية لها، وضمان مستحقات الكاتب، وتخصيص جوائز لاختيار أفضل الأعمال، وينبغي في هذا الإطار أن يتم إدماج روايات الفتيان، جزئيًا أو كليًا، ضمن البرامج والمقررات الدراسية، والتحفيز على تشجيع القراءة داخل الأسرة والمدرسة والمجتمع من جهة أخرى.