• رمزي الغزوي
كاتب وإعلامي أردني.
ما زلتُ ممن يعتقدون أنَّ الطفل اليافع أبٌ للرجل، ومن المؤمنين أشدَّ الإيمان أنَّ عالم اليفاع أخصبُ من عالمنا نحن الكبار المدجّنون بحبال الواقعية وأقفاص اشتراطاتها، فكلّما تقدّم الإنسان بالعمر والوعي ارتفعت حوله الجدران والتابوهات، وتحجِّم أفقه ليضيق عليه الواقع ويؤطره بالحقائق، بينما يظلُّ عالم اليفاع مُشرِّعاً أبوابه على آفاق الخيال الرحيبة.
ولهذا كم يسعدني أنَّني راعيت وحابيت الطفل اليافع الذي ما زال يسكنني وأسكنه، فجنحت للكتابة له بمتعة غامرة، ضمن مسيرة امتدت ربع قرن، أصدرت خلالها ثلاثة وعشرين كتابًا بشتى ضروب الأدب، أربعة منها لليافعين، في العشر سنوات الماضية، صدر آخرها قبل أسابيع بعنوان «تحت نهر المجرة»، وهو من يوميات يافع عماني.
لا يمكنني أن أرى تجربتي في مضمار كتابة اليافعين إلا فعل ارتقاء، فأنا لم أجرؤ على الكتابة لهم إلا بعد مشوار طويل من الكتابة للكبار، وهذا ما يشعرني بالاعتداد حقًا، إن كان ثمة اعتداد في الكتابة. وكوني من الذين يكتبون أنفسهم، ويعيشون ما يكتبونه؛ فقد جاءت تلك الأعمال مخصّبة ومحملة بجزء كبير من روحي، ولهذا أجدها قريبة من عالمي ومني، ربما لأنَّ الخيال كان فيها مصعدي الأمثل المتين، الذي أرتقي فيه إلى عوالم كنت أعيشها، وأشتهي أن أعيشها الآن.
أفدتُ في تجربتي من انفتاحي على العلوم بشتى أنواعها، وكوني حاصلًا على بكالوريوس علم الفيزياء فقد استطعت مزج عوالم تلك العلوم بالواقع اليومي المعيش للناس بسلاسة وخفة ودون انفعال وتقصد، عبر ثلاث روايات لليافعين، أو لمن يقرأ، جاءت على التوالي، «قمر ورد»، «قرش في كأس ماء» و«بندوفاح».
قدّمت الرواية الأولى صورة غير نمطية لعيش الحياة، مع سعيها لتلمس مواطن الجمال في أبسط أشيائها مع تكتيك مزج العلوم في الحياة اليومية التي يستصعب اليافعون تناولها بالأدب بطريقة تحترم ذكاءهم، وتقدّر قدراتهم على التقاط الخيوط المتباعدة، وغزلها بنوال العقل مبتعدًا عن التلقين المدرسي المنفر، والوعظ الأبوي التقليدي، والتعالي الذي تفرضه بعض المناهج المدرسية.
في روايتي الثانية جعلت اليافع شريكًا في صنع أحداثها، بل كاتبًا لها أحيانًا، فأقحمته عبر لغز منزلي بسيط إلى عوالمها، وجعلته يتذوق حلاوة الكشف العلمي لظواهر نعيشها ونحياها، والأهم أنَّ الرواية تجعل من اليافع منصةً لإطلاق التساؤلات؛ التي أراها المفاتيح الحقيقية للعلم.
وفي رواية «بندوفاح» التي تخوض في الخيال العلمي فقد استندت إلى هاجسين كبيرين شغلا البشرية منذ القدم، الإبحار عبر الزمن، بما فيه العودة إلى الماضي أو السفر نحو المستقبل، وامتلاك القدرة على تحويل الأشياء الرخيصة إلى نفيسة، مع ملاحظة أنَّي تركتُ لمتن الرواية، وقصصها المتتابعة القصيرة، ألا تقيم وزنًا للخوف من طرح أية فكرة جريئة وغريبة، لقناعتي أنَّ لليافعين قدرةً على رؤية الأشياء بشكل يرضي أنفسهم التوّاقة إلى كلِّ جديدٍ وأنَّهم قادرون على اكتشاف ذواتهم بكل أبعادها.
في الروايات الثلاث قدّمتُ أفكارًا علمية من شأنها أن تخصّب تفكير اليافع وخياله، وتحلق به نحو مستويات من الفائدة والمتعة معًا، وهذا نابع من إيماني العميق، كوني أكاديميًا جامعيًا ومعلمًا مدرسيًا سابقًا، بأنَّ التعليم لا بدَّ أن ترافقه المتعة وتجلّله، فاليافعُ ليس وعاءً يُملأ، ولكنَّه قنديلٌ يُذكى.
وبعدُ؛؛؛ فإنَّي أرى أن من يتصدونَ لأدب الطفل اليافع في عالمنا ليسوا على قدر مناسب من الإبداع والثقافة والاطلاع والشغف بالبحث والتجريب، لسبب بسيط هو النظرة المتعالية، من أنَّ الكتابة لليافعين تُعدُّ فعل انحدار لا ارتقاء، ولهذا نحتاج نقلةً نوعيّةً في هذا الأدب التأسيسي، كي يأخذ دوره الحقيقي بإعادة تشكيل اليافع العربي.