القدسُ العتيقةُ في رمضان؛ ذكرياتٌ وحكاياتٌ وبهجةٌ منقوصة!

عرفه عبدة علي
كاتب وباحث مصري
لشهرِ رمضان في رحاب المسجد الأقصى ومدينة القدس العتيقة عطرٌ خاصٌّ، ولأيامه ولياليه حكاياتٌ ووقائعُ حفظها التاريخ والرواة.
ليلةُ الرؤيّة
جرت عادة أهل مدينة القدس أن يرقبوا هلال شهر رمضان بالعين المجرّدة، كمــــــا جرت العادة أن يجتمع مفتي المدينة وأعيانها وقضاتها ومخاتير القرى وأئمة المساجد والخطباء والوعاظ في ساحة المسجد الأقصى انتظاراً للتحقّق من ثبوت رؤية الهلال، جماعات من الرجال والفتيان قد ارتقوا جبــــــلا ً أو تلةً أو منارة، حتى إذا رأى أحدهم الهلال وتوثق الآخرون، انطلق "فارس النظر" يسابق الريــــــــــح ليزفَّ النبأ العظيم والبشرى بثبوت الرؤية.. وهناك عند هيئة المجتمعين يدلي بشهادته فيصـــــف شكل الهلال ولونه؛ مثل جزءٍ من برتقالة أو " شقحة " البطيخ، ويُسجّل كــــلُّ هذا في محضر رسمي ثــــــم يصدر الإعلان بثبوت الرؤية؛ فتضاء مآذن وقباب الحرم القدسي الشريف، وتنطلـــق أول طلقة مـــــن مدفع "باب الساهرة " أحد أبواب القدس العتيقة، وهـــــــو مدفعٌ تركيٌّ قديم ارتبطت شهرته بشهر رمضان، وكان القائم على خدمته "طوبجي" عجوز يحشوه بالخرق والبارود ويطلقــــــــه طبقاً لأوقات محدّدة مسجلة لديه.. وكأنَّها حياةٌ جديدةٌ دبّت في روح المدينة. ويركض الأطفالُ فرحين بالنبأ السعيد، ويتبادل الجميع التهنئة " شهر مبارك إن شاء الله ".
استعدادٌ وتنافسٌ!
كعادة المسلمين في أرجاء العالم الإسلامي كافة، كان المقدسيون يحرصون علـى الاستعداد لاستقبال الشهر الكريم من ليلة النصف من شهر شعبان.. فتزدحم أسواقُ المدينة بالبضائع والناس، كــــلٌّ يسعى لتجهيز بيته بما يحتاجه مــــــن المواد الغذائيّة؛ الأرز والسكر والدقيق والبهارات، والمكسرات ومنقوع "قمر الدين" والتمر هندي والعرقسوس والحلاوة والشاي والبـــــن.. وكانت تُصرف رواتبُ إضافية وكمياتٌ من السكر والياميش لآرباب الوظائف وطلبة العلم والمجاورين والأيتام والقراء بالتكايا والزوايا.. كما كانت عائلات القدس الشهيرة تتنافس في تجديد فرش المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، وسائــر مساجد المدينة، وتزويدها بالسجاد والحصر والقناديل الجديدة؛ فتتألق مناراتها وقبابها نوراً. وتنتظم في شوارع المدينة الأفران المؤقتة لصنع القطايف، وترتفـــــــع الدكك لبيع شراب الخروب، وتتبارى محال الحلوى في الإعداد لصنع الحلويات الشاميّة الشهيرة:( كـــــــــل واشكر، البرازق، المعمول، الكنافة، كرابيج حلب، حلــــــى سنونك، المطبق، المدلوق، البرمــــا، أصابع زينب، المشبك، الفستقية، الجوزية..) وغيرها.
في رحابِ الأقصى
ما مـــن رحالةٍ أو زائرٍ للحرم القدسي الشريف في شهر رمضان إلا وكان ملء قلبة مشهد من الروعة والجلال؛ الساحة الفسيحة للحرم والأسوار والمشاهد الأثرية التــــــــــي تحيط بقبة الصخرة، وروعة التكبيرات تنساب من داخل الأقصى وكأنَّما هي آتيةٌ من عالم الغيب، والقناديل الخافقة في أرجائه كأنَّما ترعد من جلال التكبير.. "والظلال تفضل الضوء فتكتب سطراً من الجمال رائعاً، أو تخطُّ آيةً من آيات السجدة في هذا الحرم العظيم يقرؤها كلُّ ذي قلب فتسجد جبهته أو يسجد قلبه"! ويحرص المقدسيون على الصلاة بالمسجد الأقصى وساحته خلال أيام رمضان، وفيـــــــه كانت تُعقد حلقات دينية في تفسير القرآن والفقه وعلم الحديث وسيرة النبي(صلى الله عليه وسلم).. يتولى التدريس فيها نخبةٌ مـن العلماء الأجلاء المشاهير من فلسطين والدول العربية والإسلامية، ولكل منهم يوم محدد، وكانت هذه الحلقات الدينية تُعقد فيما بين صلاتي العصر والمغرب، كما كانت تُناقش فيها أيضاً الأمور الدنيويّة، فالأوضاع السياسية لـــــــــم تكن مستقرة، مما جعل هذه الحلقات متنفساً لتزويد المواطنين بشحنات وطنية ضد الانتداب البريطانـــــــي وإرهاب العصابات الصهيونية، ومن هذه الحلقات خرج الشيخ الشهيد " عز الدين القسام " وغيره مــــــن أبطال المقاومة الإسلامية الفلسطينية. وكانت " المملكة المصرية " حريصةً على إرسال أعلام "دولة التلاوة" إلى المسجد الأقصى في رمضان.. وعلــــــــى رأسهم الشيخ مصطفي إسماعيل، والشيخ محمد صدّيق المنشاوي، والشيخ عبـــــــد الباسط عبدالصمد، والشيخ أبو العينين شعيشع؛ وكــــــــم ترددت أصواتهم الملائكية الخالدة بين جنبات المسجد الأقصى وأروقته.
كما كانت صلاة التراويح بساحة الأقصى مشهداً إيمانياً رائعاً يستمر حتى ساعة متأخرة مـن الليل، والبعض كان يواصل تعبده حتى صلاة الفجر.. وكثيراً ما كان يأتي إلى القدس مسلمون مــــــــن مختلف بقاع العالم الإسلامي للاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان بداخل المسجد الأقصى.. أمَّا يوم الجمعة من أيام رمضان، فكان عيداً عظيماً في هذا الحرم المبارك.. والجموع تزحف مستبشرة شطر المسجد الأقصى، يهتدي بسيرها من لا يهتدي طريقه، تمرُّ بهذه العقود الحانية علـــــى طريق التاريخ " الطريق المدرج " تحمل الأبنية العالية كأنَّها عقود السنين تنوء بما تحمل من أحداث ومواقف، ومــــا أدراك ما يوم " الجمعة اليتيمة" في المسجد الأقصى.. عيد إسلامي يشارك فيه الجميع، الرجال والنساء والأطفال، ويحرص على شهودها ضيوف الرحمن من أرجاء فلسطين والعالم الإسلامي.. بينما فُرشــت ساحة الحرم بالسجاد والحصر، يرضـــــى بها من أشفق من الزحام داخل المسجد.. والجمع قد تبوأ مكانه في هذا المحشر وقد أُحكمت الصفوف. وكانت عائلات القدس الشهيرة تقيم ولائم الإفطار للمفتـــي والعلماء وأرباب الوظائف وشيوخ الطرق الصوفية ونقيب الأشراف ولعامة الناس.. كذلك كانت تُعقد موائدُ إفطار جماعية، حيث يُحضِر كلُّ رجلٍ أطيب ما عنده ليفطّر جماعةً مع رجال الحي، سواء في بيت أحدهم، أو في إحدى المضافات.
الحكواتي
كان كثير من رجال القدس وشبابها يفضلون قضاء سهراتهم الرمضانية في المقاهي أو "المضافات" يستمعون إلى شاعر الربابة أو "الحكواتي" الذي كان يتصدر المقهـــــــــى مرتديّاً زيّاً مميزاً: السروال الأبيض الواسع وصديرية حمراء ومعطفاً وشماغاً ( غترة ) وكان يُخصّص لـــه مقعداً عالياً يزدان برسومات من الخيال الشعبي، وينشد في جوٍّ من البهجة والانسجام بعضاً من السير الشعبية؛ مثل تغريبة بني هلال، وسيرة الظاهر بيبرس، والزير سالم، وعنترة بن شداد، والأميرة ذات الهمة.. وحكايات من ألف ليلة وليلة. ومن أشهر المقاهي بمدينة القدس التي كانت تقدم هذا اللون من السهرات الشعبية، مقاهـي: البساطي، زعترة، ومقهى صيام بمدخل باب العامود.. وكان أشهر الحكواتية الشيخ "صالح خميس". كمــا كان يُعقد في ليالي رمضان خاصة ما يعرف بـ "السامر" وهي احتفالاتٌ شعبيةٌ ساهرة، كانت تعرف أيضاً بـ "السحجة " و" الدحية "؛ وتؤدى فيها أغانٍ وأشعارُ "المواليا" بشكل جماعي وبالتناوب بين فريقين متقابلين مصحوبـــــــاً بالتصفيق وبأشكال بسيطة من الرقص الشعبي: الدبكة، شمالية، شعراوية، كرادية، طيارة، إبراهيمية. وما بين العتابا والميجنا يعزف على الشبابة والمجوز.. ومن الأغاني الشهيرة التي تحتضن آمال الشعب وحنينه: " الدلعونة"، و"بارودتي حبوبتي.. ما أحلى طلق زنادها "، و" يارب تكبر مهرتي.. تكبر وأنا خيالها"!.
خواطرُ رمضانيّة لقنصل مصر في القدس عام 1935.
كان " محمد رمزي بك" قنصلاً عاماً لمصر في تركيا، كما كان قنصلاً عاماً في سوريا ولبنان، ثم صدر القرار الملكــي بتعيينه قنصلاً عاماً لمصر في القدس وعموم فلسطين.. وقد دوّن ذكرياته عــن أول زيارة له للمسجد الأقصى وكانت في شهر رمضان 14 ديسمبر سنة 1935.. كتب محمد رمزي بك: "وصلتُ إلى مدينة القدس في نهاية سنة 1935 لأتولى عملاً جديداً ولألقى وجوهاً جديدة، وكان أول ما قمتُ به هو توجّهي لزيارة المسجد الأقصى وكان ذلك في شهر رمضان.. دخلته وقد غمرتني نفحةٌ مـن نفحات الله، جعلتني أشعر في قرارة نفسي بحوادث التاريخ الجلى، وكأنَّ كلَّ ركن من أركان هذا المسجد يشير إليّ، وكأنَّ كلَّ حجر من أحجار قبته يحادثني، مئات من السنين، تركة ضخمة من الجهاد والمجد، هــــل يدرك أهلها ما هي؟!. هل تكون للأمم الإسلامية التــــــي نعيش وسطها ونحيا لها عودة؟ وهل تقوى أذرعتها ونفوسها الواهية على حمل الأمانة؟.. لم تعد تفكر في شيء سوى ملاذها وتكالبها على المادة وما تسوقه غرائزها، حينما فقدت كـــــــل عناصر القوة والأنفة وانحطت إلى درجة الجماد فلم تعد تهمها هذه المساجد والمدارس.. كنتُ أطوف بالمسجد وأنا أتأمل كــــــل ذلك وأقول: متــــى تتحرك أمم العروبة وتنهض من كبوتها وتستيقظ من نومها العميق؟!.. إنَّ كل ما أراه أمامـــــي يدعو إلى الأسى والألم، وهم بعيدون كل البعد عن حيوية المبادىء التى قامت عليها الرسالة المحمدية الكبرى.. سرتُ في أنحاء الحرم وهو متسع الأرجاء وتخيلته في نفسي يفيض بصفوف المصلين، كان يبدو لي صحنه ووجهاته وجوانبه يوم الفتح الأكبر، يوم دخله سلطاننا صلاح الدين بجند مصر فأقام أول صلاة للجمعة فيه، وكيف تبارى العلماء والفضلاء فجهّز كلٌّ منهم خطبة بليغة طمعاً في أن يكون خطيب ذلك اليوم!. كنت أفكر كيف أذن المؤذنون على منابر المسجد الأقصى وأسواره فارتجّت المدينة بأصوات التكبير والتهليل. ومـرَّ أمامي كيف تقدم الملك السلطان المتواضع بقبة الصخرة فرسم للقاضي محيي الدين محمد بن زكي الدين علــــي القرشي أن يخطب، وكيف ألبسه العماد الكاتب جبةً سوداءَ من تشاريف الخلافة العباسية فلبسها وصعـــد المنبر واستفتح بسورة الفاتحة، ثم شرع في الخطبة فبدأها " الحمد لله معز الإسلام بنصره"!
مضى على هذه الخواطر بكل ما تحمله من مرارة أكثر من ثمانين عاماً، وقامت دولة العصابات الصهيونية واستولت على كل فلسطين مثلما استولت على كثير من مكونات الحضارة الإسلامية وإبداعات تراثها، وأصبـــح حلم "إسرائيل الكبرى" هو الهدف الاستراتيجي الذي يخطّط له زعماءُ الإرهاب في "تل أبيب" بمقتضى حقوق تاريخية وهمية وإرث سماوي مزعوم.. فهل لنا أن نأمل في يومٍ تعود فيه فلسطين الغريبة إلى شعبها؟، وأن يعود " الحكواتي " في ليالي رمضان ليروي تغريبة بني فلسطين!