تجلياتُ الحضور والغياب؛ قراءةٌ في رواية (حارسة الموتى) للكاتبة المصرية عزة دياب.

تجلياتُ الحضور والغياب؛ قراءةٌ في رواية (حارسة الموتى) للكاتبة المصرية عزة دياب.
*محمد اللبودي
كاتب وناقد مصري
عندما تقرأ في رواية جديدة، مختلفة، تتوقف عند (حارسة الموتى) للكاتب المصرية عزة دياب الفائزة بالمركز الأول فئة الرواية كبار لجائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع عام 2019.
الكاتب الروائي يستمد مادته الخام من المجتمع ثم يحيلها إلى خياله ويعيد صياغتها صياغة سردية تحمل آلية حكائية تذيب الحدود بين الواقع والخيال.

بين بساطة وسهولة اللغة، والحكائية العفوية. تحلق بنا الكاتبة (عزة دياب) بهذه الانسيابية. تتنقل بين الواقع بكل ما فيه من جماد، حيوان وإنسان، شخوص مهمشة اجتماعيًا، ونفسيًا وماديًا، فتبدو مسحوقة، مأزومة في بيئة تعاني كل مظاهر التهميش. وبين المتخيل الغرائبي يختلط فيه الواقع بالمتخيل سواء أكان حلمًا أو خيالاً أو مؤثرات ثقافية من خلال مواقف وأحداث مليئة بالصراعات، الوفاء، الخيانة. العامل المشترك بينها هو شظف العيش العوز – وما يحدث في هذه البيئة من معالم القهر والتسلط، مجتمع ما زال يعيش تحت السيطرة الذكورية – وعلى الرغم من أنَّ الكاتبة امرأة إلا أنَّها تجاوزت عن عالمها كامرأة لها خصوصيتها، لتدخل عالم الرجال لتعبر برؤى عن الواقع المعيش بما فيه من استلاب للقيم السائدة، يلعب فيه الجهل وعدم استكمال التعليم الدور الكبير – علاقة الرجل بالمرأة عندما تفقد زوجها ونظرة المجتمع لها، تجسّد الحالة النفسية من الخوف، الهواجس، الرغبة في عمل أي شيء من أجل البقاء على قيد الحياة وتوفير سبل العيش لأبنائها.
اختارت الكاتبة بيئة ساحلية –مدينة صغيرة وبقعة من هذه المدينة وهي المقابر (مدينة الموتى) تتحدث عن المسكوت عنه، تجسّد هذه البنية الحكائية بحكايات فرعية لبعض الشخوص – حلم الاغتراب عن الوطن من أجل الحصول على المال – سعيد – نموذجًا – وشخصيات تعيش على هامش الحياة مع الأموات (الداهش) نموذج آخر. وأبو إسماعيل- نموذج للتهريب الممنوعات.
قدّمت الكاتبة هذه السردية من خلال أربعة من الرواة من بينهم (حمدية) السارد الرئيس – يتحدثون عن المسكوت عنه – الحياة والموت – الركض في المكان نفسه – (حمدية) الشخصية الرئيسة، أم لولدين – رجب – وحامد – زوجها صياد سمك يموت أثناء عمله في البحر، ينفجر فيه أحد الألغام التي كان يصطاد بها مخالفًا بذلك القانون – مات العائل الوحيد للأسرة – الجميع يهربون منها يبتعدون عنها خاصة النساء خشية أن تقوم باختطاف زوج من إحداهن – تسعى لكسب رزقها لا تجيد أي عمل. عملت (غسالة) للموتى – راحت تنبش القبور – تسرق الأموات؛ لأنَّها لم تجد ما تسرقه من الأحياء – تصعّد الكاتبة الموقف فليس هناك مانع من وضع الأعمال السحرية في القبور وإخفاء المخدرات فيها بل والآثار المهربة – ابنها (رجب) عمل مساعدًا لها، بينما الآخر عمل- "ميكانيكي"- وابتعد عنها – اتُهمت بقتل كاتب العقود- عم عبده أفندي – ويتم ضربها في مركز الشرطة بواسطة المخبر (طنطاوي) عم عبده سبق أن مارست معه الرذيلة، ثم تخلّى عنها، وتظهر براءتها بعد اعتراف القتلة. ذاع عنها أنَّها مخاوية وتتهم بمساعد (أبي إسماعيل) في تهريب الآثار، وفي الحجز للمرة الثانية يتم ضربها؛ لكنَّها ماتت من شدة الضرب –تبدأ شخصية ثانية في السرد وهي شخصية- الداهش – حامل النعوش – وناقل الموتى على عربة خشب تجرها الخيول، يحكي عن خروج الموتى من القبور ورفضهم العودة. مشاركته في قتل (سعدون)؛ سعدون هذا قتل بطريق الخطأ قريبًا له هو المعلم(- سردينة) –أثناء مشاركته في إحياء فرح قريب له، ولكنَّه مع الحضور قتلوا(- سعدون) –وشعر بالندم –وحدث له هاجس أنَّ (عفريت سعدون) سوف ينتقم منه، وبين الحين والآخر يسأل حمدية: عفريت سعدون ظهر؟
الشخصية الثالثة هي (سعيد) يحكي عن المعاناة في بداية حياته يتنقل من مهنة إلى أخرى حتى سافر إلى العراق وأرسل النقود لأبيه لهدم البيت القديم وبنائه من جديد؛ كي يتزوج فيه. ويقع له حادث ويفقد الذاكرة وتنقطع أخباره ويُعتقد أنَّه مات هناك، لكنَّ الذاكرة تعود له بعد مقابلة صديق له في العراق، ويعود لبلده فيجد شقيقه الصغير قد تزوج الفتاة التي كان يريد الزواج منها وسكن في شقته – المفارقة أنَّ الأب والأم وقفوا مع شقيقه ضده وأصبح غير مرغوب فيه؛ لأنَّه يذكرهم بظلمهم له، ولم يجد أمامه غير السكن على (السطوح) وبمساعدة حمدية يعود يعمل من جديد في لصق (السيراميك) – ويصاحب رجب الذي يمارس الشذوذ مع صديقه (ماهر) ويحكى عن احتجاج الموتى وخروجهم من القبور حتى ماتت حمدية ومات ابنها (رجب) في حادث سير عقب وفاة أمه حمدية؛ عندئذ رجع الموتى للقبور ولم يخرجوا مرة ثانية بعد. موت حمدية ورجب-- الشخصية الرابعة هي.
أبو إسماعيل- يحكي عن حياته وكيف كان يعمل (جلاط سمك) يجمع بعض الأسماك من بائعي السمك مجانًا وبيعها ويعيش منها، فهي مهنةٌ من ليس له مهنة ثم تعرّف على (العربي) الذي يعمل في تجارة الممنوعات وعمل معه وحقّق أرباحًا كثيرة، لكن العربي يُقتل ويأخذ مكانه في التعامل مع المهرب الكبير ويحاول الانتقام للعربي لكنَّه فشل في الانتقام، وتجّار الممنوعات الذين يعمل لحسابهم خطفوا ابنه كي يرشدهم عن وجود الممنوعات عند حمدية. كلُّ شخصية تحكي عن حياتها إلى أن تتوقف عند موت حمدية.
كيف نقلت الكاتبة هذا المتن الحكائي؟
• اللغة
استخدمت الكاتبة اللغة الفصحى البسيطة بعيدًا عن المجاز مع مفردات بالعامية تعبّر عن خصوصية البيئة الساحلية – (ليفة – كوز – وابور الجاز – الأرز المعمر –الصيادية – جلاط سمك – الملاية اللف إلخ.
• المكان
بالرغم من أنَّ الكاتبة لم تشر صراحه له بالاسم إلا أنَّنا نجد جملة واحدة تشير لذلك وهي (تل أبو مندور) وهي تقع في مدينة رشيد – حيث تعيش الكاتبة – ما يهمنا أنَّ المكان محمل بدلالات ثقافية واجتماعية ونفسية تعكس البيئة الساحلية. معالم المكان واضحة تشعرنا وكأننا نعيش هناك، مكان نابض بالحياة –أسواق السمك – صناعة الأقفاص من الجريد – المقابر – طقوس دفن الموتى – المؤثرات الصوتية والبصرية- والرائحة تعكس حالة من الخوف الرهبة في المقابر – هكذا جعلت الكاتبة من ألم المؤثرات الصوتية والبصرية فاعلاً روائيًّا- والرائحة تعكس حالة من الخوف الرهبة في المقابر – هكذا جعلت الكاتبة من المكان شخصية أخرى في الرواية، لم يعد مجرد حيز من الفراغ يحتوي الأحداث بل ينبض بالحياة بكل ما فيها آلام وأحلام، نبش القبور – الشذوذ الجنسية وممارسة الرذيلة –تهريب المخدرات والآثار – عالم مواز تأثير المكان كان حاضرًا بقوّة وطاغيًّا على تشكيل شخوص الرواية بما فيهم الأموات، أيضًا مركز الشرطة وما يدور فيه من تجاوزات أدت لمقتل حمدية تحت وقع الضرب.
• الزمان
تم الإشارة إليه في زمن الرواية الداخلي – عقب هزيمة 1967 وعهد السادات والانفتاح واغتيال السادات – الليل النهار – ثم ما يعرف بالزمن النفسي وهو الحلم .
• الشخوص
معظمها مهمشة تعاني الشعور بالاغتراب القهر والتأزم، أجادت رسم بعض الشخوص وبنائها من الداخل مثل حمدية – الداهش – سعدون.
• الأساليب السردية.
استخدمت الكاتبة العديد من أساليب السرد منها تقنية الاسترجاع – التقديم والتأخير – تعدّد الأصوات لأكثر من سارد حمدية –سعيد – أبو إسماعيل – الداهش –أحيانًا تلجأ الكاتبة للسرد العجائبي والغرائبي، في محاولة منها لتجسيد الواقع المأزم والهروب منه من خلال البحث عن مخرج لأزمات الذات.
تقول الكاتبة على لسان حمدية: "اخرج من ظلمتك كلمني ص- 59 –. يرد عليها: كنت حفارًا للقبور وزوجتي تقوم بعملك، خانتني مع أقرب أصدقائي، فأخفيت عنها تحويشة العمر –انتابني قلق على علبتي، لقد فعلها وسرق زوجته، وجاء ليسرقني (تيار وعي حديث النفس ) فهم قلقي... انتابته نوبة من ضحك... أخافتني قهقهته... وضع ذراعه على كتفي... كيف (لعفريت) أن يكون هادئًا...". تستمر الكاتبة في السرد العجائبي على لسان (حمدية) إلى أن تقول: "وجنتي نائمة على الحرير والمشربيات تدخل أنوار الخارج هادئة...".
في الرواية مشاهد سوريالية؛ فالسوريالية تتعامل مع التفسيرات النفسية وترى الحلم منبعًا للهروب من الواقع، ومع ذلك نجد الحلم والوهم والخيال. كيف صوّرت الكاتبة هذا المشهد المركب؟
تقول حمدية: "اخرج من ظلمتك. هذا يبدو واقع في المقابر ..." ثم الحوار، وإذا انتقلنا إلى بيتها وهي نائمة مع ابنها هذا يبدو حلم، فإذا أزاحت الجلباب عنها وجدت جلدها ناعمًا. هذا يبدو واقعًا، أو توهمات خيال.
إنَّنا هنا أمام عدة مشاهد عبثية– وهذا يتطلب أكثر من قراءة تأويلية، نفضل استخدام (المنهج المناسب لذلك لتشريح المشهد والبحث عن المعاني المضمرة فيه أو للبحث داخله عن نصٍّ جديد وأكثر من تفسير ومعنى) ممكن أن يكون هذا مجرد حلم ناتج عن تمنيات العقل الباطن خرج من اللاوعي؛ هذه قراءة ممكن البحث في النص عن نص آخر نفسره باعتباره أحلام يقظة ترتبط عادة بالثقافة السائدة لدى سكان المقابر وعن عفاريت الأموات وخروجها. هذه قراءة ثانية ممكن يكون كل هذا مجرد وهم خيال أو التفكير بالأماني، حيث إنَّ الكاتبة صوّرت المكان بمؤثرات صوتية وبصرية تعكس جو الخوف المحيط بالمكان والحالة النفسية التي تشعر بها عند نبش القبور وانتهاك حرمة الأموات؛ هذه قراءة ثالثة؛ في هذا المشهد استخدمت الكاتبة تيار الوعي – (المنولوج الداخلي حديث النفس)؛ الحوار إلى جانب المؤثرات الصوتية والسمعية، ويُعدُّ هذا المشهد من المشاهد الجيدة في الرواية، بل يختزل أشياء كثيرة من أحداث الرواية ثم يأتي مشهد خروج الموتى من القبور كنوع من الاحتجاج على ما يحدث من انتهاكات نبش القبور إخفاء المخدرات – الممارسات الشاذة. ويمكن لنا أن نتساءل هل احتجاجات الموتى نوع من الاعتراض على ما يفعله الأحياء أو تأويله على أنه احتجاج على إهمال الدولة لهم في الحياة وبعد الممات؟ وكأنَّهم يعترضون على تهميشهم في الحياة والموت، هذه قراءة ثانية أو اعتراضًا على ما قامت به حمدية وابنها، وحينما ماتا دخلا قبورهم؛ قراءة ثالثة.
• ملامحُ عامة على النص.
- تأثير البيئة واضح على الشخوص.
- النصُّ بمثابة صيحة قوية لإلقاء الضوء على منطقة مهمشة.
- أعتقد أنَّه لم يتم تفسير عودة الذاكرة لسعيد بصورة كافية
- حلم الغربة في العمل بالخارج يتحول إلى كابوس ومشاكل اجتماعية ونفسية.
- إلقاء الضوء على المسكوت عنه.
- تأثير الفقر والعوز على سلوكيات الشخوص.
- تجليات الحضور والغياب؛ حضور الأحياء وغياب الأموات، ثنائية الغربة والعودة، الفقر والثراء من أمور غير شرعية.
- بعض المشاهد كانت تحتاج إلى تجسيد أكثر؛ مثال موت حمدية ورجب، موقف المخبر طنطاوي رمز للسلطة كانت تحتاج أكثر للتجسيد ...
- لا يوجد كتابة نهائية ولا قراءة نهائية ولا نقد نهائي.
- العمل جيد يستحق الجائزة التي حصل عليها.