د. نبيل سليم علي
أكاديمي وباحث مصري
يصعبُ تفريق العلاقة بين الثقافة والإعلام، ونحن في زمن تداخلت فيها الوسائل الثقافية بالإعلامية وامتزجت المادة الثقافية بالإعلامية، واختلط دور الإعلام بدور الثقافة، وأدى الأمـر إلــى صعوبة التفريق بينهما، فهما طيف واسع من الألوان والصــور، وأصبحت الصورة محورهما. وإذا كان من غير الممكن التحدث عن الثقافة العربية المعاصرة موحدة ومتحررة لها خصائصها ومبادئها فإنَّه من غير الممكن التحدث عن إعلام متحرر له خصوصيتــه، فالثقافة العربية هي مزيج غريب متنافر من ثقافة موروثة وثقافــة وافدة، كذلك الإعلام العربي هو أيضًا مزيج من الدعاية والإعـــلان والاستهلاك والترهات في بعض الأحيان. والاثنان بنيا على صناعة الصورة، فالقدر والمصير والوحدة والهدف واحد للثقافة والإعلام لأنَّ كلاً منهما يؤثر في الآخر. لذلــك إذا أردنا نهضة حديثة فعلينـا بنهضة ثقافية، وإذا أردنا أن يكون لنا القرار علينا أن نصلح الإعلام، ولن يفلح إصلاح الإعلام دون أن نلتفت لإصلاح الثقافة، وإلا نكون كمن يغني في طاحون.
الثقافة والإعلام طيفان واسعان من الألوان والصور، وأسوأ ما حدث للثقافة العربية والإعلام العربي على مر تاريخهما هو سوء علاقتهما مع العالم والعصر والواقع؛ لذا فالثقافة والإعلام كلاهما لا يتحدثان ولا يتطوران حضاريًّا إلا إذا تحاورا جديًّا مع الآخر ومع إعلام الآخر بالصورة، ومن المهم جدًّا في حوارنا مع الآخر أن نصنع صورتنا العربية، فصناعة الصورة لها دور مهم وتأثير عميق وكبير في مواجهة الحضارة.
إنَّ صناعة الصورة هي التي جعلت 43% من الأمريكيين يتوهمون أنَّ الفلسطينيين يحتلون إسرائيل، فالصورة الصحفية بألف كلمة، ومهما كانت المخاوف من تأثير الصور الخادعة فإنَّ الصور الصادقة التي تنزل حلبة الصراع مع الصور الخادعة ستكشف زيف وخداع تلك الصور وبالتالي ستطردها من الساحة، المهم هو إيجاد السبل والوسائل العربية القادرة على صنع الحوار بالصورة. لقد كشفت نتائج دراسة أجراها البروفيسور "جريج فايلو" من "جامعة جلاسكو" في اسكتلندا أنَّ 43% من الأمريكيين يعتقدون أنَّ الفلسطينيين هم الذين يحتلون إسرائيل وليس العكس، وهذا يؤكد إلى أي مدى صارت الصورة الصحفية، المطبوعة أو المتلفزة، من أخطر وسائل تشكيل الرأي العام وتحويل اتجاهاته.
إنَّ الصورة الصحفية بقدر ما هي مرآة للواقع، إلا أنَّها يمكن أن توظّف أحيانًا لتزييف هذا الواقع، فقد تكون الصورة الفوتوغرافية سببًا في تشكيل رأي عام، أو حتى إثارته تجاه قضية معينة، كما أنَّها لا تعكس في كل الأحوال واقعًا أو حقيقة قضية ما، ويظهر ذلك من خلال صور جنود المقاومة الفلسطينية رغم بساطة الأسلحة التي يحملونها، حيث توظف في الصحافة الغربية بشكل يقدمهم في صورة عناصر إرهابية وليست مقاومة، وبهذا الشكل تسهم الصورة بشكل كبير في تشكيل الرأي العام، إلى جانب التأثيرات النفسيّة والاجتماعيّة تجاه صور قد تكون مفزعة أو مؤثرة بدرجة كبيرة، ولكن هل يعتبر المصور الصحفي في جميع الأحوال هو المسؤول عن الرسالة التي يتلقاها الجمهور من خلال الصورة؟
تعتبر الصورة من الأساسيات في أي مطبوعة، ولا يمكن أن يتصوّر القارئ أيًا كان تصنيفه أو قدرته العلمية أو التخيلية أن يقرأ صحيفة بلا صور، حيث إنَّها تختزل فكرة الموضوع وتضفي عليه واقعية أبلغ، فالصورة الإبداعية الواحدة أقوى من ألف كلمة، وهي لعبة الصحافة، حيث تستخدم الصورة المعبرة في كثير من الموضوعات التي لا تستطيع مناقشتها.
إنَّ وضع الصورة الفوتوغرافية في الصحافة العربية غير مرض رغم أنَّ الصحافة العربية خطت خطوات سريعة نحو الاحتراف في العمل الصحفي، وبدأت بتفريغ مساحة كافية للصور، يتم توظيفها بما يتوافق مع الأحداث أو القضايا التي تشغل الرأي العام، وقد يكون هناك في المقابل تقصير واضح من المصورين العرب الذين ينقسمون إلى قسمين، الأول الكبار في السنِّ الذين لا يمكنهم ملاحقة الصور المميزة والمعبرة والاكتفاء ببعض الفلاشات السريعة والانتهاء من مهمة التصوير كما يفتقدون للإمكانيات التقنية والتعامل مع التكنولوجيا، والقسم الآخر الشباب الجدد الذين ليس لديهم سلطة في إدارة الإنتاج، وكذلك ما تزال خبراتهم في طور التعلم والاكتساب.
سؤال يطرح نفسه: هل من إمكانية إصدار صحيفة مصوّرة أسوة ببعض الصحف الغربية؟ الواقع العربي يقول إنَّها مغامرة خطيرة ومرشحة للفشل بنسبة كبيرة، خاصةً إذا ما أدركنا محدودية وعي القارئ بأهمية الصور، ولا يستطيع أحد أن يجادل في المكانة التي أصبحت تحتلها الصورة لدى الإنسان المعاصر، فقد أصبحت تحيط به من كل جانب، وهذا أمر نستشفه بسهولة دونما اللجوء الى سبل الحجج والبراهين. فالصورة واحدة في وسائل التعبير والتواصل والترفيه المهمة في زماننا إلى درجة صارت فيها من الوسائل الضرورية التي يسعى الإنسان لامتلاكها والسيطرة عليها، والتحكم فيها بغض النظر عن الحاجيات الأخرى.. بل أصبح إنسان اليوم، يساير التكنولوجيا المرئية خاصةً ويقتني مستجداتها.
نعم؛ لقد أصبح الواقع صورة شاحبة من الصورة الحقيقية، انظر إلى هذا في سلوك الشباب الذين يحاكون سلوك الممثلين ولاعبي الكرة ونجوم الغناء، وما يرونه في الأفلام والمسلسلات، انظر إلى محاكاة الأطفال سلوك بعض الشخصيات الخيالية في برامج الكرتون وألعاب الفيديو، انظر إلى موضوع صناعة الصورة في سلوك بعض السياسيين وبعض نجوم المجتمعات الحديثة. إنَّ صورة الميديا التي تمثل بعض السياسيين في كثير من بلدان العالم اليوم لها دورها البارز في نجاحهم في الانتخابات، وفي استمرارهم في أداء مهامهم بشكل ناجح أو فاشل، وما تقدمه القنوات الفضائية اليوم من بعض الأحداث السياسية كثيرًا ما يكون أشبه بالمجموعة أو الباقة البصرية المفعمة بالوقائع والصور والأحداث المثيرة للانفعالات والحواس والذكريات والمشاعر، مع أنَّها كثيرًا ما تكون صورًا زائفة أو شبه حقيقية ولكنَّها ليست حقيقية بالفعل، أو لا تتضمن الحقيقة كلها بسبب ما نعرفه اليوم عن مراقبة الصور، والتحكم فيها، وتوجيه الكاميرات إلى زوايا خاصةً في عصر تتعالى فيه كل يوم صيحات الادعاء بالإعلام الحر والمشاركة وديموقراطية المشاهدة، وما شابه ذلك من مزاعم.
• الفضائياتُ العربية والمحاكاةُ السطحيّة
لقد أصبح من المستحيل الآن الفصل بين الواقعي والمتخيل، وقد أدى هذا إلى ظهور أزمات في مجال الفنون الحديثة مثلما نجد في الكتابات التجريبية الحديثة ل"بورجس" و"بيكيت" مثلاً، التي حاولت أن تكتشف حالة الانهيار التي حلّت في العلاقة التقليدية بين الخيال والواقع، كما أنَّنا نجد أفلامًا قدمها "جودار" و"فيليني" وغيرهما، تعرض هذه العلاقات الممكنة والمميزة بين الأوهام التي تصنعها الميديا، وما يُسمّى الواقع الخاص بخبرتنا اليومية العادية أو المبتذلة.
ويتم عمومًا إنتاج الصورة من أجل الإعلام، كالصورة الصحافية والوثائقية، أو بغرض الترفيه كالرسوم المتحركة والأفلام والأغاني المصورة ، أو بالتأثير والانطباع كاللوحات التشكيلية والمنحوتات مثلاً، أو بغرض البيع كالصورة الإشارية. إنَّ هذه النوايا والاختيارات تؤثر على كيفية صنع الصورة وتحدّد الطريقة التي ستنجز وتقدم بها، ويظهر ذلك جليًّا عند قراءتها أو محاولة تحليلها، سواءً بطريقة ضمنية، شعورية أو لا شعورية.
لقد أدت عمليات توافر الصور ونسخها وتوظيفها على نحو جماهيري - من خلال التكنولوجيا الحديثة - إلى طرح تساؤلات حول فكرة التفرد القديمة الخاصة بأعمال فنانين كبار أمثال: ( ليوناردو دافنشي، فان جوخ)، وجرى المزج في بعض أعمال "وارهول" بين زجاجات الكوكاكولا وصور نجوم السينما، أمثال "إليزابيث تايلور"، و"مارلين مونورو"، وأصبحت الإعلانات التجارية تستخدم لوحة أو صورة "الموناليزا " لدافنشي، أو "فينوس تخرج من البحر " ل"بوتشيللي" في الإعلان عن منتجاتها من العطور أو غيرها من السلع. وقد أصبحت المحاكاة التهكمية parody والتناص البصري، وتداخل الأزمنة والأمكنة، والشخصيات والأعمال الفنية مكونًا أساسيًّا وآليةً جوهريةً من آليات حضارة الصورة.
إنَّ العلاقة بين الخيال والواقع الآن لا يتم تطبيقها فقط؛ بل يتم تدميرها أيضًا، بحيث أصبحنا لا نعرف ما الواقع وما الخيال في عالم الصور المحاكية والمحاكاة الزائفة، إذا استخدمنا مصطلحات "بودريار"، لقد حطّمت صور ما " بعد الحداثة " اليقين الحداثي في أصالة الصور كمتغير موثوق به أو أصيل أو منفرد، فصور ما بعد الحداثة تعبر عن طريقة صناعتها بشكل خاص. وتعرض صيغتها غير الأصلية والمؤقتة، تعرض لسطحها الخاص المؤقت العابر، فهل نلاحظ ما يحدث الآن في القنوات الفضائية العربية المخصصة لعرض الأغاني الحديثة المسماة ( فيديو كليب )؟ وكيف يحدث إنتاج شبه يومي للأغاني الجديدة؟ هل نلاحظ هذا الاستبدال المستمر للمطربين أو المغنيين؟ هل نلاحظ البروز أو التصعيد لبعضهم أحيانًا، بحيث يصلون لمرتبة النجوم، ثم السقوط المدوي بعد أن تصبح شرائطهم لا تباع كما كانت تباع في الماضي؟.
إنَّهم قد تحولوا بدورهم إلى سلع تباع وتشترى ويجري احتكارها لسنوات تطول أو تقصر، ولم تعد القيمة المعطاة لأى مطرب قيمة فنية، بل قيمة تجارية يعلو معها وينخفض، لقد أصبحت أسماؤهم كثيرة مثل أسماء الزيوت والصابون وماركات الشاي، وأصبح من الصعب أحيانًا تذكّر أسماء كثير من هؤلاء المطربين، إنَّهم يظهرون فنشاهدهم ونتابعهم، ولا نتذكرهم، وقد تصبح أغنية معينة هي الأفضل والأكثر طلبًا ومبيعًا بسبب الإلحاح اليومي في عرضها، وتكرار الملاحقة للمشاهدين والمستمعين بها، ثم تظهر أغنية أخرى للمطرب نفسه أو لغيره، فنجد سرعان ما ننسى الأغنية الأولى، بل قد يبدو ظهورها الآن مزعجًا ومنفرًا وداعيًا إلى تغيير قناة المشاهدة. فالتكرار والإلحاح إذن هما آليتان من آليات ثقافة الصورة عمومًا، ومن بين آليات التكرار والإلحاح في بلادنا العربية تكرار الألحان الغربية بمطربين ومطربات عرب من دون الإشارة إلى المصدر الذي تنقل عنه الأغنية.
إنَّ كثيرًا مما تقدمه القنوات الفضائية العربية الغنائية أشبه بالمحاكاة السطحية لقنوات عالمية، والكثير مما يقدم يعتمد على الإبهار البصري من خلال الصورة، على رغم فجاجة الكلمات وسطحيتها في أحيان كثيرة، فالمهم هو الإبهار بالألوان والفضاء والتصوير والإغواء بالتلميحات والتصريحات الجنسية في الحركة والكلمة، ولم تعد هذه الأغاني مرتبطة بمنطقة الكلمة والعقل أو الوجدان والمشاعر، بل بمناطق الإغواء والشبق والتحريض الجنسي، من هنا كان هذا الإبراز الدائم والكشف الدائم بالصورة لمناطق خاصة من الجسد، وكذلك التنغيم المستمر للصوت الأنثوي فيما يشبه النداء الجنسي المستمر، إنَّ صورة الجسد تستخدم الآن بكثرة في بيع الفن كما يستخدم الفن في بيع الجسد.
لقد أدى ابتكار الصور التكنولوجية إلى تحوّل بارز من عصر الإنتاج إلى عصر النسخ، حتى وصلنا إلى عصر أصبح الاحتمال فيه موجهًا نحو السطح وليس العمق، نحو المظهر وليس الجوهر، نحو الصورة وليس المعنى، نحو العابر وليس المقيم، نحو الموضوع وليس الذات، لقد فقدنا في عصر الاستهلاك هذا – كما قال "بودريار" وكما قال "جيمسون" أيضًا رغم حماسته لما بعد الحداثة – الاهتمام بأعماق الذات أو النفس البشرية؛ لأنَّنا أصبحنا نهتم فقط بالموضوعات الظاهرية السطحية اللامعة المظهر، البراقة السطح، وفقدنا المعنى الذى كان يجري البحث عنه دومًا، والسعي إليه باستمرار، وكأنَّ ما يوجد أمامنا الآن ويجري امتلاكه واستهلاكه أصبح كافيًا ومرضيًا، وفقدنا الإحساس باللحظة التاريخية، بالثبات واليقين بسبب التغير والتنوع والإبدال والاستبدال للقيم والثوابت والأفكار، وفقدنا الإحساس بالتعبير الإنساني عن كل ما هو أصيل، فاصبح موضعًا للشك ومجالاً للاستنكار.
لقد قال "أرسطو" ذات مرة: "إنَّ التفكير مستحيل من دون صور".، ونقول كذلك إنَّ الحياة المعاصرة لا يمكن تصورها من دون الصور، فالصور موجودة في كل مكان، إنَّها لا تكف عن التدفق والحضور في كل لحظة من لحظات حياتنا، إنَّنا نعيش بالفعل " عصر الصورة " كما قال "آبل جانس" عام 1926، ونعيش في " حضارة الصورة " كما قال الناقد الفرنسي " رولان بارت " بعد ذلك. والصورة لم تعد تساوي فقط ألف كلمة، كما جاء في القول الصيني المأثور، بل صارت بمليون كلمة وربما أكثر.
المراجع:
1- د. شاكر عبد الحميد – عصر الصورة – سلسلة عالم المعرفة العدد 311 – يناير 2005 – المجلس الوطني للثقافة و الفنون والآداب – دولة الكويت .
2- فريد الزاهي – مقدمة ترجمته لكتاب "حياة الصورة وموتها " تأليف ريجيس دوبريه – الدار البيضاء : إفريقيا الشرق –2020م .
3- د. نبيل سليم – عوامل الشهود الحضاري – دار القلم – دمشق – ط1 – 2005 م.