الرّوايةُ التّاريخيّةُ: إحياءٌ للماضي واستشرافٌ للمستقبل.

د. سعيد عبيدي
أكاديمي وباحث مغربي

تعدُّ الرواية التاريخية من أبرز أنواع الرواية بصفة عامة، وقد لاقت رواجاً كبيراً منذ نشأتها في الوطن العربي ونالت الكثير من إعجاب القراء وترحيبهم؛ لما تحمله من روح الفخر بالماضي العربي العريق والحنين إليه، وقد مرَّت بمراحل متعددة وتعرضت إلى الكثير من التغيّرات والتحوّلات الموضوعية والفنية منذ نشأتها إلى اليوم، إلا أنَّ ما يجب التأكيد عليه هو أنَّها ظلّت وفيةً للتاريخ الذي يُعدُّ رافداً مهمّاً من روافد عدة ينهل منه الكتاب، واستعانوا به في إنتاج عدد من الروايات التاريخية المهمة التي تستلهم الماضي وتستذكره لأغراض متعددة، وتبدو أهمية هذا الجنس الأدبي بأشكاله المتنوعة في أنَّه يتعلق بالماضي التاريخي والتراثي والحضاري للأمة العربية والإسلامية، الأمر الذي يتصل بهُويتها اتصالاً مباشراً، ويعبّر عن أصالتها وعراقتها واستمرار وجودها.
والرواية التاريخية في الوطن العربي ظهرت مع بدايات القرن العشرين تقريباً، إذ كانت عملية استنبات الرواية بوصفها جنساً أدبياً في تربة الواقع العربي؛ وقد شهدت محاولاتٍ عديدةً تسعى إلى ترسيخ جذوره وتطويره بما يتلاءم مع الذوق العربي، سواء من خلال الترجمة أو التعريب أو غيرهما، كما أنَّ هذه المرحلة كانت تشهد بداية نهضة علمية وثقافية في شتى المجالات، وبالتالي كانت الرواية بصفة عامة، والرواية التاريخية بصفة خاصة أداةً مهمة في هذا المضمار؛ إذ جذبت الكثيرين إلى دائرتها بغرض اكتساب المعلومات والمهارات الأسلوبية والتعرف على شخصيات تاريخية أثّرت في مسيرة الأمة وحركتها تأثيراً كبيراً.
• ما الروايةُ التاريخيةُ؟
تعرّفُ الرواية التاريخية في معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة على أساس أنَّها "سرد قصصي يرتكز على وقائع تاريخية، تُنسج حولها كتابات تحديثية ذات بعد إيهامي معرفي، وتنحو غالباً إلى إقامة وظيفة تعليمية وتربوية". ويعرّفها معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب على أنَّها "سرد قصصي يدور حول حوادث تاريخية وقعت بالفعل، في محاولة لإحياء فترة تاريخية بأشخاص حقيقيين أو خياليين أو بهم معاً".
ومن خلال التعريفين السابقين يظهر لنا أنَّ الرواية التاريخية -كما أكّد محمود أمين العالم في كتابه (البنية والدلالة في القصة والرواية العربية المعاصرة) هي تاريخ متخيل خاص داخل التاريخ الموضوعي. وقد يكون هذا التاريخ المتخيل تاريخًا جزئيًا أو عامًا، ذاتيًا أو مجتمعيًا، فقد يكون تاريخًا لشخص أو لحدث أو لموقف أو لخبرة، أو لجماعة، أو للحظة تحول اجتماعي إلى غير ذلك. وعلى الرغم من الاختلاف في الطبيعة البنيوية الزمنية بين المتخيل، والموضوعي غير المتخيل، فإن بين الزمنين أو التاريخين علاقة ضرورية تتجاوز التزامن، إلى التفاعل بينهما تفاعلاً حميمياً على مستويي المضمون والشكل الفني.. فبنية الرواية لا تنشأ من فراغ، وإنَّما هي ثمرة للبنية الواقعية السائدة: اجتماعياً وحياتياً وثقافياً على السواء، وهي ثمرة بلغة التخييل لا بلغة الاستنساخ والانعكاس المباشر.
• التخييلُ والحقيقةُ
هكذا يتضح أنَّ العلاقة بين الرواية التاريخية والتاريخ علاقة وطيدة، بالتمعن فيها نستكشف وجود قطبين أساسيين في قيامها هما التخييل والحقيقة؛ ففي مجال التخييل يُستبعد البطل التاريخي ويضع الروائي نفسه بدلاً منه، وهذا الشكل الروائي شكل تخييلي إبداعي، يقدم حقيقة فنية احتمالية، تعبر عن صدقها الفني بأساليب ثلاثة معروفة هي: الإمتاع، الإقناع، والتأثير. أمَّا في مجال التاريخ، فلا بدَّ أن يلبس البطل لبوس المؤرخ، ما يفرض الأمانة العلمية في تقديم الحقيقة الموضوعية، ويقدم سرداً مباشراً لا أثر للتخييل فيه. وإذا كان المؤرخ مضطراً لاستخدام مخيلته في ترميم بعض الثغرات في الحقائق التاريخية أحياناً، فإنَّ مخيلته تستند إلى سياق تاريخي، بحيث يبدو هذا الترميم منسجماً مع الدلالات العامة والخاصة للمرحلة التاريخية، لذلك فإنَّ مخيلته مقيدة، وليست مطلقةً كما هي حال مخيلة الروائي.
ومن أبرز كتّاب الرواية التاريخية في الوطن العربي "جرجي زيدان" صاحب الروايات: (شارل وعبد الرحمن- عذراء قريش- أبو مسلم الخرساني: سقوط الخلافة الأموية- الأمين والمأمون- العباسة أخت الرشيد- فتاة القيروان...) وإبراهيم الإبياري فيما كتبه حول تاريخ الدولة العباسية (مغيب دولة- ميلاد دولة- نهاية المطاف- قيام دولة- عذراء البصرة) وعبد الحميد جودة السحار (محمد رسول الله والذين معه- أميرة قرطبة- قلعة الأبطال)، وعلي الجارم (غادة رشيد- هاتف من الأندلس- فارس بني حمدان، شاعر ملك)، وأحمد كمال زكي (أسامة بن منقذ- الأصمعي– الجاحظ- فارس الفرسان)، وسليم البستاني (زنوبيا- بدور)، وفرح أنطون (أورشليم الجديدة)، وأحمد شوقي (لادياس الفاتنة)، ومحمد سعيد العريان (قطر الندى- شجرة الدر- على باب زويلة)، ومحمد فريد أبو حديد (الملك الضليل- المهلهل سيد ربيعة- زنوبيا ملكة تدمر) ونجيب الكيلاني صاحب ( ملكة العنب، والنداء الخالد، ونهاية طاغية..). وهذا هو الجيلُ الذي يمكن تسميته جيل الروّاد الذي تلاه جيلٌ آخر كتب الرواية التاريخية ومنه نجيب محفوظ صاحب( رادوبيس، وكفاح طيبة، وعبث الأقدار). ورضوى عاشور في (ثلاثية غرناطة)، فضلاً عن أمين معلوف في غير قليل من رواياته( ليون الأفريقي وموانئ الشرق). وسميحة خريس في رواية (يحيى). ومجدي دعيبس في روايتيه (قلعة الدروز، وأجراس القبار)، وغيرهم من الروائيات والروائيين.
لقد استطاع بعض أولئك الرواد أن يكتبوا رواية تاريخية ناضجة فنياً، تحققت فيها عناصر البناء الروائي المتكامل: لغةً وحواراً وشخصيةً وحدثاً وحبكةً وتشويقاً، وفي الوقت نفسه استطاعوا أن يوظفوا أحداث التاريخ وشخصياته، وبذلك كتبوا رواياتٍ تخدم قضايا معاصرة مع الاحتفاظ للتاريخ بحقيقته وطبيعته.
• جدليةُ الأدبِ والتاريخ
يمكننا القول إذن: إنّ الرواية التاريخية هي نتيجة امتزاج التاريخ بالأدب؛ فالتاريخ - كما صرح عبد الحميد القط في كتابه (بناء الرواية في الأدب المصري الحديث)- ما هو إلاّ حقائق مجرّدة لوقائع تاريخية معينة سواء كان الأمر يتعلّق بالحوادث أو بالشخصيّات، بيد أنّ هذا التاريخ المجرد عندما يدخل بنية أساسية تعتمد عليها الرواية يأخذ شكلاً جديداً؛ بحيث يصبح عنصراً فنيّاً من عناصر تكوين الرواية، فيخضع حينها لكاتب الرواية الذي يفسره وفقاً لمتخيله السردي، وفهمه الشخصي للحوادث، والشخوص، ووجهة نظره التي يعتزم تضمينها للرواية. لذا فإنَّ كتابة الرواية التاريخية محفوفة بالمزالق لأنّ الشخصيّات في التاريخ لها وجود محدد، أو بعبارة أخرى هي معدّة سلفاً وكذلك الأحداث التاريخية والمكان والزمان وغيرها، وعلى الفنّان أن يصوغها صياغةً جديدةً لا أن ينقلها كما هي في التاريخ، وهذا العمل هو الذي يجعل اتخاذ التاريخ مادةً للرواية عملاً مشروعاً.
منتهى القول
نخلص في الختام إلى أنَّ الرواية التاريخية جنس أدبي يروي، ويسرد الأحداث بمزيد من الحيوية والعاطفة، دون الوقوع في السرد التاريخي البحت، فيمكنها بذلك إحياء الماضي وغرس مواده في حياة جديدة، واختراق الشخصيات الرئيسة في فترة من الفترات واختصار الوصول إليها، فالرواية التاريخية - كما صرّح جرجي زيدان: "أكثر وسائل التهذيب والغرض من تأليفها؛ إمَّا تمثيل الفضائل على كيفية تقرب من الحقيقة بقدر الإمكان، وتوقيعها على أسلوب يؤثر في ذهن القارئ، وقلبه معاً، أو بسط أخلاق بعض الأمم في عصر من العصور، أو نشر حقائق تاريخية تثقل على الناس مطالعتها في قالب التاريخ، ويسهُلُ في قالب الرواية".