عبدالغني عبدالهادي
كاتب أردني
وقفتنا اليوم مع قامةٍ فولكلورية فلسطينية بامتياز، قامةٍ متجذرة في تربتنا الفلسطينية، كالسنديان والزيتون، عملت بروح الفريق، مثلها مثل من جعل بيته مسجداً أو مستوصفاً أو مدرسة أو مكتبة، ذلكم هو الدكتور: توفيق كنعان، ابن بيت جالا (جنوب القدس)، شقَّ طريقه رغم يُتمه المبكّر وهو ابن السادسة عشر، وتعلّم الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت، عمل ودرس وتخرج كطبيب في القدس ومشافيها، تواصلَ مع القرويين والبدو مما أعطاه بُعداً إنسانياً في دراساته وقيمةً علميّةً وثائقيّة، اهتمَّ بزبائِنه فلم يكنُ يهتمُّ بالمردود المادّي بقدر اهتمامه بالمادّة الفولكلورية.. وحصرَ دائرةَ اهتمامه بالفنون اليدويّة، وصلتها بالمعتقدات.. فدرسَ الحِليَّ والمسابحَ والتعاويذَ والأواني السحرية، والمعمار الشعبي والمزارات الإسلامية ودرس البيت بأساليب بنائه، وأدواته، متناولاً الجوانب الصحية في الفولكلور الفلسطيني من؛ معتقدات وخرافة ومزارات وطب شعبي لارتباطها بحقل الطب، وبذلك وفَّر كنعان المادة الفولكلورية الخام تاركاً للدارسين المحترفين شرحها ودراستها.
واهتمَّ كذلك ب(الأولياء والمزارات الإسلامية في فلسطين) وعمل على نشره: 1927 وهو أكبرُ أعماله المنشورة ويقع في (331) صفحة موزعاً على ثلاثة أبواب رئيسة هي:
- المزارات المواقع والأنماط في 85 ص.
- الطقوس والممارسات: حتى ص: 234.
- طبيعة وشخصية الأولياء حتى ص: 331.
وتمكّن بذلك من دراسة شخصية تفحّص فيها: (235) مزاراً، واعتماد (348) مزاراً آخر، وأفاد الدكتور كنعان من مختلف منابع الأدب العربي والدراسات الاستشراقية عن فلسطين، وتوصل بذلك إلى ما توصل إليه المستشرقون من أنَّ الثقافة الشعبية في المجمل هي ذاتها المنقولة إلينا من عهد الحضارة الكنعانية ما قبل أربعة آلاف سنة، واستخرج د. كنعان كذلك العديد من العناصر المشتركة مثل:
- ما يقوله القسّ هو كلام الله (من فولكلور المسيحيين).
- العلماء ورثة الأنبياء (فولكلور المسلمين).
- الكهنة مثل الأنبياء (من فولكلور اليهود).
ولاحظ أنَّ البخور مادة مشتركة تُستعمل في معابد وكنس المسيحيين ومزارات اليهود، وهناك الكثير من أدوات السحر و"طاسة الرجفة" تجدها مشتركة بين الجميع، وكذلك الحياة الشعبية الفلسطينية تحتكر الأنبياء والقديسين من الطوائف الثلاث دون تمييز (محمد، عيسى، سليمان، داوود) وكذلك الجميع يخدم الينابيع تلك التي تطهّر أدرانَ الخَلقِ وأرواحهم.
كما تمتع د. كنعان بقدرةٍ صابرةٍ على توثيق النصوص العامية للأغاني والأمثال والأقوال السائرة وأسماء الأشخاص والمواقع والمقامات والآبار ونحو ذلك.
كما ووثّقَ للعيون والآثار والمقامات والأشجار المقدسة "كالنخلة والزيتونة. هذا وتُشعلُ أعمالُ كنعان بثوبها العربي المتميز شمعةً جديدةً جميلةً تضيءُ صورةَ الجبالِ المكلّلة بالزيتون واللزّاب، والسهول التي تموج بالسنابل الخضراء والنبات بالثياب المطرّزة بالألوان الزاهية، ووجوه الأغلفة المشرقة المنطلقة لمواسم الحصاد وساحات الأسواق في طباعات نديّة وأصداء أغاني الحصاد، وأصوات المناجل، و"طرقعة" كرباج الحرّان، وزقزقة طائر الزرع، ورائحة النرجس والحنُّون.
• دراساتُ كنعان للفلكلور الفلسطيني:
يُعتبر الدكتور توفيق كنعان رائداً لحركة (إحياء الفولكلور الفلسطيني) إذ نشر كتبه ومقالاته تباعاً من عشرينيات القرن الماضي، وكان طبيباً بالمشفى الألماني في القدس. وصار رئيساً لجمعية الاستشراق الفلسطيني عام 1927، وقد نشر معظم دراساته وأبحاثه باللغتين الإنكليزية والألمانية. وصفته الباحثة الفنلدية المتخصّصة بذراع الحياة الشعبية الفلسطينية (د. هيلما جرانكفيست) بأنَّه باحثٌ محنّكٌ تمرّس في دراسة المأثورات الغنية الفلسطينية طويلاً .. ألّفَ (المزارات والأولياء المسلمون في فلسطين).
اعتمد كنعان (المنهج الوصفي) في دراسته للفولكلور الفلسطيني، وكذلك العمل المكتبي بعد الرجوع إلى عديد المراجع الأجنبية، مُعزّزاً الصلة بين الأرض والإنسان الفلسطيني وأبطالهما أمام احتلال غاشم.
وبهذا يستطيع المتابع لنشاط د. كنعان القول باطمئنان: بأنَّه موسوعة للفولكلور الفلسطيني، واضحةُ الملامح والمعالم، ويمكن إحياؤها لتُبرِزَ وجهَ الشعبِ الفلسطيني صاحبِ الهوية، ومبدعِ تُراثها وثقافتها الأصيلة.
• آثاره العلميّة:
صنّف د. كنعان عدداً من الكتب باللغات الإنكليزية والألمانية والفرنسية:
- المودّةُ أُمّ الحياة: 1908 / الطب الشعبي في أرض الكتاب المقدس: 1914.
- أولياءُ المسلمين ومقدساتهم 1927 / قضية عرب فلسطين: 1936.
- الصراع في أرض السلام: 1938.
ونشر كذلك أكثر من ستّينَ بحثاً علمياً في المجلات الطبية والأوروبية، وكتب أكثر من خمسٍ وثلاثينَ مقالة عن الفولكلور عند العرب؛ ومن أبرز تلك المقالات:
- النور والظلام في التراث الشعبي الفلسطيني / عرب الصقر في بيان / طاسات الرّعبة العربية / الماءُ وماءُ الحياة في الخرافات الفلسطينية / الطفل في الخرافات العربية الفلسطينية، اللعنة في التراث الشعبي الفلسطيني، البيت الشعبي الفلسطيني بناؤه وتراثه الشعبي.
ربط بين النبات والخرافات الفلسطينية مدللاً على ذلك بأسماء العائلات المستمدة من النبات مثل: (زيتونة) اسم للأنثى، و(عدس) للعائلة، وكذلك كثير من أسماء العرب المشتقة من النبات: دير الغصون / دير البلح /خبيزة / خضيرة / التينة / وادي التفاح / جبل الزيتون / وادي الصيصبان بأريحا.
كما أوردَ كثيراً من الأمثال الشعبية المستقاة من حياة الريف، خصّص الباحث د. كنعان الجزء الثاني من كتابه للبيت العربي الفلسطيني باعتباره حجرَ الأساس للفلسطيني، متبعاً لمراحل بنائه ومعماره، ابتداء من حجر البناء النوع والشكل والاسم والبناء والدهان، مورداً صوراً للحياة الشعبية الفلسطينية في لوحات الفنانيين الاستشراقيين.
كما ركَّز على فولكلور البيت الفلسطيني بأهدافه وتفاصيل بنائه الأبواب والساحات والأعتاب، منهياً الجزء بقائمة معجمية طويلة طريفة تتبع فيها مصطلحات البيت والبناء.. وذلك تسهيلاً على الباحثين (الأنثربولوجيين) عند دراستهم المسحيّة للفولكلور الفلسطيني، مقدماً في ذلك خدمة عظيمة لهم وللوطن انتماءاً ووفاء ومنها:
- أساس: الخندق الذي تستند إليه العمارة.
- باب الرحمة: باب الغرب حيث ينزل المطر منه. - برابيط: حجارة درابزين.
- بيت المعونة: المخزن المطبخ.
جبش: حجر خام.
- خابية: خزانة طينية.
خُشّة: غرفة في الطابق الأرضي.
- دبورة: المطرقة الضخمة التي ستخدمها الحجّار. - دهليز: ممرّ.
- ذبية: أضحية البناء، ذبيحة الدار، ذبيحة الخليل. - رواق: غرفة واجهتها الأمامية مفتوحة.
- الرفراف: طرف السطح" البارز. ساروقة: منشار حجري.
- شاروط: جذع شجرة طويل. طاروش: مالج خشبي طويل.
- طيّان: حامل الطين. كعكولة: حجر أبيض طري.
- مانجا: وقت أكل العمال أثناء البناء. ليوان: قاعة.
- مجرفة: كريك.
- نوفرة: نافورة.
- وجاق: موقد.
وبعد؛ هذا علمٌ أنثربولوجيٌ عربيٌّ فلسطيني، رفع لواء الإحياء والتجديد للفولكلور، ولاءً لوطنه وانتماءً لعروبته وقضيته القوميّة العادلة الأُمّ.
علَمٌ أخذ على عاتقه دراسة المظاهر الفلكلورية مع مطلع القرن العشرين، خدمةً لهذا اللون من العلوم، إيماناً بأهمية فتح ملف الشخصية الفلسطينية والوقوف على تطورها الفني التراثي، ارتقاءً بها ووضعها في مصاف الدول، خاصةً وأنَّها عانت وتعاني ظروف احتلال ثقيل يرقد على صدرها منذ سبعة عقود!
فتحية لهذه القامة السامقة التي تركت ظلالها تلوحُ على ذرى الوطن، وتحية لكل القامات الأبية فلسطينية كانت أم عربية، لنستفيئ بهم باطمئنان وثقة ويقين! ولنحمل الراية من بعدهم كذلك، حفاظاً على موروثنا وهُويتنا من الطمس والضياع، وتحية لتلك الكوكبة المنتمية الواعية على أرض الضفتين الشقيقتين بل وفي أنحاء وطننا العربي الحالم من جديد!
ويمكننا بعد هذا التطواف في هذه الشخصية (الأنثروبيولوجيّة) الخروج بهذه النقاط الصالحة، إنصافاً له، وإعادة اعتبار لتضحياته الإنسانية الفذّة، والتي أطّرتهُ وجعلت منه قامةً فارهةً، خطّت سطوراً في سِفر المجد العربي الفلسطيني، سيظلُّ حاضراً رغم الغياب، فهكذا هم العباقرة المبدعون بل رعاة المسؤولية والانتماء، أصحابُ الهُوّية الوطنية الذين يتزامنون مع كلّ زمان في أحلكِ الظروف وأصعبها! وهذا ديدنهم، عزاؤهم أنّهم من غراس الوطن (وأيقوناته) المشعشعة على الدوام!
1- رائد حركة إحياء الفولكلور الفلسطيني.
2- عاش (82) عاماً، قضى منها: (60) عاماً يداوي مرضاه مقابل معلومات فولكلورية شكّلت المعجم الفولكلوري الأول.
3- صنّفَ معجماً أساسياً لمصطلحات البيت الفلسطيني خدمةً للباحث اللغوي والمعماري معاً.
4- كتب وألَّف باللغات الأربع (العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية) مما انتقل بالفلكلور الفلسطيني إلى مصاف العالمية، منذ وقتٍ مبكّر.
5- لم يُنصَف حتى اليوم بالحجم الذي قدمه فولكلورياً وأبرز من أنصفه زميله ومواطنه الباحث الفولكلوري د. نمر سرحان برسالة الدكتوراة، فكانا بحق وحقيق جناحا الفولكلور الفلسطيني المعاصر اللذان أمضيا عمريهما في خدمة أنثروبيولوجيا الوطن الفلسطيني كردة فعل، غيرةً على حبهما لوطنهما الذي خلّداهُ في عروقهما منذ بواكيرهما مع مطلع القرن الماضي حتى العقد الثامن منه.
المصادر المعتمدة:
- الأعمال الفولكلورية الفلسطينية للدكتور توفيق كنعان (ج / 1 – ج / 2).
- ترجمة نمر سرحان – عمان: المركز الفلسطيني للفنون الشعبية في المنفى، 1988 – 175.
- الشبكة العالمية.