المرأةُ والحبُّ في تحفتين سينمائيتين؛ " الطريق إلى البيت"، " لما حكيت مريم".

أحمد طملية
كاتب وناقد سينمائي أردني
عندما دفع المخرج الصيني المتميز "زانغ ييمو" بفيلمه "الطريق إلى البيت" إلى دور العرض، قصد أن يرصد مشاعر امرأة أحبّت ووفت، وذلك عندما تناول الشريط الذي تصل مدته إلى ساعتين تقريباً الحب والوفاء لدى المرأة، إذ بدأ الفيلم مع فتاة جميلة من إحدى القرى الصينية، وهي تعبّر عن مشاعر حبها الأول، للمعلم الجديد الذي جاء إلى القرية ليعّلم في إحدى مدارسها، وانتهى الفيلم وقد أصبحت الفتاة عجوزاً تحيك كفناً لحبيبها، وتحرص أن يعود جثمان زوجها محمولاً على الأكتاف إلى القرية، مشياً على الأقدام، تبعاً لتقليد صيني قديم يفيد بذلك كي يعرف الزوج طريقه إلى البيت بعد وفاته. وعندما قدّم المخرج اللبناني الشاب "أسد فولاذ كار" فيلمه الطويل الأول "لما حكيت مريم" فإنَّما أراد أن يعبر عن مشاعر زوجة أحبت زوجها حتى التهلكة، فقد ذهب بها حبّها إلى الجنون، واستقرت في أواخر أيامها في مستشفى للأمراض العقلية، إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة، وكانت صورة زوجها هي آخر ما تراءى أمامها قبل أن تغمض جفنيها إلى الأبد.
ما يستوقفني في الفيلمين التركيز على المرأة وتهميش الرجل، ففي "الطريق إلى البيت" لم يظهر الرجل إلا بلقطات محدودة، حيث شاهدناه شاباً فتيّاً جاء من المدينة ليعلم في مدرسة القرية الوحيدة، ثم غابت عنه الصورة تماماً، واستقرت فقط على الحبيبة - الزوجة، وعلى الرغم من أنَّ مدة الفيلم ساعتان تقريباً؛ فإنَّ رصد مشاعر الفتاة التي تعبر عن حبها للمعلم الجديد أخذ عملياً أغلب وقت الفيلم ولم يتبق سوى مشاهد محدودة وضعت في النهاية وهي تصور كيف انصاع الجميع لرغبة الزوجة، في نهاية المطاف، وحملوا كفن زوجها على الأكتاف، وعادوا إلى القرية سيراً على الأقدام، رغم أنَّ الطريقَ طويلٌ والبرد قارس، فتعاقب الرجال على حمل الكفن لعلَّ المتوفى يعرف الطريق ويعود بقدميه إلى البيت لزوجته التي تتلهف للقائه في الدنيا أو في الآخرة: أيهما أسبق، يعتمد الفيلم على الأسلوب الاسترجاعي للأحداث، حيث يبدأ من النهاية، ونحن نرى الصبية العاشقة وقد غدت عجوزاً هرمة تجادل رجال القرية بضرورة نقل جثمان زوجها (المعلم) إلى البيت سيراً على الأقدام، مع العلم أنَّ وسائل النقل الحديثة متاحة، وما يحتاج إلى جهد رجال، يمكن أن تختصره السيارة، أو عربة بحصان، ولكنَّه قلب الحبيبة الذي يأبى إلا أن ينصاع الجميع لرغبته.
ونعيش في المشاهد الأولى من الفيلم مشاعر المرأة العجوز، وهي تكابر على وهن جسدها، وتحيك بيدها كفناً لزوجها، وفي خضم تشبث الأم بموقفها، يستعيد الابن العائد من الغربة للمشاركة في تشييع جثمان أبيه قصة الحب التي كانت قد جمعت والدته ووالده.
ونتابع كيف وقعت الأم وهي صبية يافعة، ومن النظرة الأولى في الحب وكيف قدرت أنَّها منذورة لإحساس نبيل، فراحت تتصرف من وحي هذا الإحساس، تشارك في إعداد طبقها الخاص لتشارك به في وجبة الغداء التي تقام في الساحة للمعلم والعمال الذين يبنون المدرسة كل يوم، ونراها وهي تراقب بعاطفة مشبوبة المعلم متمنية أن يختار صحن الطعام الذي أعدته، وحين يحين موعد تناول المعلم للطعام في بيتها كما جرت العادات والتقاليد في القرية بأن يُدعى المعلم كل يوم لتناول طعام الغذاء في أحد البيوت في القرية، تتجلّى مشاعر الحب لدى الفتاة اليافعة لدرجة تقدرها والدتها فاقدة البصر، فتضع يدها على قلبها خشية على ابنتها التي وقعت في الحب.
تتطوّر الأحداث حين يُطلب المعلم إلى المدينة للتحقيق معه بنشاطات لها علاقة بانتماءاته السياسية، ويتزامن ذلك مع الموعد الثاني لتناوله طعام الغذاء في بيتها، يأتيها على عجل ويخبرها بضرورة أن يذهب إلى المدينة، ويهديها دبوساً لتزين به شعرها.. تركض خلفه لإعطائه طبق الطعام الذي أعدته له.
ولكن عجلات العربة تغطي على لهاثها المحموم فتتعثر وتتهاوى متدحرجة على الأرض فينكسر طبق الطعام وتفقد الدبوس.
تعيش الفتاة بعد ذلك ما يمكن تسميته "حمّى الحب" إذ يهيأ لها أنَّ صوته يعلو في المدرسة فتذهب إلى هناك لاهثةً لتجد الصف فارغاً إلا من صفير الريح، فتهرع إلى تنظيف جدران ومقاعد ونوافذ الصف ليكون على أفضل حال حين يعود، فيعرف كل أهالي القرية قصتها فيتضامنون معها ويلتفون حولها حين يعثرون عليها ذات طقس بارد مغمى عليها في الطريق بعد أن كانت تحاول الذهاب للبحث عنه في المدينة.
إلى هنا تتوقف التفاصيل حيث ينقل لنا الابن أنَّ المعلم (والده) عاد بعد ذلك إلى القرية وتزوجها، وأمضى حياته معلماً في المدرسة، يجوب القرى المجاورة بحثاً عن دعم إضافي لتحسين الأحوال في المدرسة، فيما بقيت هي وفية لحبها له، وها هي في يوم وفاته تكتم شهقة في صدرها، تفضحها على شكل دمعات ساخنة تنسكب من عينيها، فكيف لا ينصاع لمطلبها في نهاية المطاف الجميع ويعود الجثمان بجنازة مهيبة، يشارك فيها رجال متطوعون كانوا من تلاميذه وهرعوا من أرجاء البلاد بعد أن بلغهم الخبر.
لقد هالنا حجم الوفاء لدى فتاة "زانغ ييمو" في فيلمه "الطريق إلى البيت"، وفاء يحرق صاحبه إذا شابه انفصال أو فراق، حتى لو كان بسبب الموت، وفاء خالص، لا غاية منه ولا غرض سوى التعبير عن الحب، ذاك الحب الخالص في أعماق الروح.
المخرج اللبناني "أسد فولاذ كار" لم يقلّ في درجة تعبيره عن القسوة التي قد تعيشها المرأة إذا أحبت وأوفت. إذ يعتمد في فيلمه "لما حكيت مريم" على الأسلوب الاسترجاعي، نرى فيه مريم من خلال شريط فيديو تحكي قصتها مع زوجها، تلك القصة التي تدين المجتمع الذكوري، وتظهره باهتاً فاتراً، فيما تظهر المرأة هي الأصل ولكن، للأسف، من يسمع؟. تحكي مريم عبر شريط الفيديو قصتها مع زوجها (زياد) فتعود بنا الصورة إلى رونق الحب في سنوات الزواج الأولى، ولكن الأنظار لم تكن تنظر في العيون التي تحب، بل كانت تراقب بطن المرأة الذي لم ينتفخ رغم مرور ثلاث سنوات على الزواج.
فيبدأ التلاسن من أم الزوج (الحماة) عن سبب عدم حمل زوجة ابنها، وتنشط أم الزوجة في البحث عن حلول لابنتها التي تكشف الفحوصات الطبية أنَّها عاقر لا تنجب، فتتأزم الأزمة، وتدفع الأم ابنتها إلى أن تذهب إلى مشعوذ لعله يحلّ ما عجز الطب عن حلّه، ولكن المشعوذ يضحك عليها، ومريم لا تسأل طالما أنَّها تحب زياد، بل إنَّها تقترح عليه أن يتبنيا طفلاً، طالما أنَّ المقصود هو مجرد طفل.
في هذه الأثناء تكون الفكرة قد كبرت في رأس الزوج، أو بالأحرى يكون الذكر قد راح يستعرض فحولته، فطالما أنَّه قادر على الإنجاب، فلماذا لا يتزوج "مثنى وثلاث ورباع" إذا اقتضى الأمر من أجل أن ينجب طفلاً من صلبه، تدهش مريم من سذاجة الفكرة: هل يعقل أن يسقط حبها لزياد لمجرد الفشل في إنجاب طفل؟ ولكنَّه زياد، هكذا كانت تردد دوماً!!، فتقترح عليه أن تختار له عروساً وتزوّجه، تقول لأمها: أنا زوجة زياد أما الأخرى فهي مجرد امرأة وجدت لكي "تحبل". لكن حماس مريم ما يلبث أن يفتر حين تدرك أن تلك المرأة حقيقة من لحم ودم وأنَّها ستقاسمها زياد، فلا تحتمل مريم الفكرة وتطلب الطلاق. تظن في بادئ الأمر أنَّ الطلاق صوري، وعلى هذا الأساس فإنَّها تتواصل مع زياد في بيت أمها، وحين تُسأل عن سبب إقدامها على ذلك تكتفي بالقول: "إنَّه زياد"، ولكن حتى هذه الثقة تنهار مرة واحدة حين يدعوها زياد إلى بيته بعد أن يبلغها أنَّ زوجته ذاهبة لتنام لدى أهلها. ولكن الزوجة الجديدة تعود بشكل مفاجئ، وتجد مريم في فراشها، وهنا يقشعر المشاهد أمام المشهد الذي صوره المخرج بطريقة بدت فيها مريم وكأنَّها عاهرة، كانت هذه الصدمة كافية لأن تذهب مريم إلى مصحة نفسية ، عبثاً تحاول أن تستوعب فكرة تكيف زوجها مع امرأة أخرى ، وعبثاً تحاول أن توقف النار التي تضطرم في داخلها ، تلك النار التي أكلتها شيئاً فشيئاً ، إلى ان وصل هاتف إلى طليقها زياد يبلغه بوفاة زوجته.
وحين يكشف عنها الغطاء يفاجأ بأنها مريم وقد ماتت وتركت في جيبها ورقة صغيرة تقول: أرجو تسليم جثتي إلى زوجي زياد. يسأله الطبيب وقد لاحظ تلعثمه: أليست زوجتك؟ فيرد بلهجة لبنانية عامية: "امبلى مرتي" ويحملها ، في مشهد تقشعر له الأبدان ، ويحممها ، ويواري جثمانها التراب.
على الرغم من اختلاف الحبكة ما بين فيلمي "الطريق إلى البيت" و"لما حكيت مريم" إلا أن الفحوى المشتركة في الفيلمين تتجسد في تصوير حبّ المرأة ، وكيف يكون الوفاء متجذراً إلى حد اجتثاث الروح إذا اقتضى الأمر: حب لمجرد الحب ، لمجرد الإحساس بالامتلاء حين نشاهد من نحب ، والشعور بالرونق حين نكون بحضرة من نحب ، وأن نحلق مع من نحب ، حتى لو كان من نحب مجرد رجل لا أقل ولا أكثر ، رجل عابر مسكون بذاتية مفرطة تجعله قابلاً لأن يتقزم ، ولا أقول يتكيف ، من الطير الطائر.
ويبقى ، إذا كان ثمة ما يمكن أن يستوحى من الفيلمين ، فإنه يتجلى في حقيقة أنه إذا كانت الحياة المدنيّة قد حررت المرأة من الكثير من القيود ، ووضعتها في مجتمعات عديدة على قدم المساواة مع الرجل ، فإن الطبيعة لم تحرر المرأة من طبيعتها ، وتركيبتها ، وكينونتها ، فأبقتها ضحية نفسها ، تتآكل من تلقاء نفسها خاصة إذا وقعت في الحب.
لقد تجمهر "الكومبارس" حول فتاة زانغ ييمو في فيلم "الطريق إلى البيت" عبثاً يحاولون استيعاب سبب تشبثها بموقفها بأن يعود زوجها محمولاً على الأكتاف ، وسيراً على الأقدام ، لعله يعرف الطريق إلى البيت ويعود إليها ، كما توقفنا جميعاً أمام فتاة المخرج أسد فولاذ كار في فيلم "لما حكيت مريم" وهي تخفت تدريجياً من فرط الحب ، وتنطفئ دون أن نعي السر ، ذلك السر الذي تحتفظ به المرأة في قلبها ، فيقتلها أو يحييها،
ہ ناقد سينمائي أردني