مجدي التل
ناقد/ باحث مسرحي وصحافي أردني
بدأت بواكير حضور المرأة في المسرح الأردني في ستينات القرن الماضي حيث شكّلت خشبة المسرح منصّة لإطلاق رسائل اجتماعيّة ووطنيّة وإنسانيّة، ومع توالي عقود سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي وصولًا للألفيّة بدأ حضور المرأة في المسرح يتبلور أكثر فأكثر عبر أدوار تكميليّة للمتطلّبات الدراميّة، وصولًا لحضور قويّ يجسِّد قضايا النساء وهواجسهنّ، ومن ثم انتقل إلى مرحلة تُبرز دور المرأة في القضايا الوطنيّة والشأن العام، وتمثَّل ذلك بوصفها كاتبة أو مخرجة أو ممثلة أو في مجال تمكُّنها من التقنيات الحديثة والمساعِدة للمشهديّة المسرحيّة.
لم يكن للمرأة منذ نشأة المسرح الأولى عند الإغريق القدماء، وتحوُّله من طقوس وشعائر دينيّة إلى فنّ مسرحي، أيّ حضور فعلي مجسَّد بوصفها ممثِّلة أو حتى كاتبة؛ وذلك لطبيعة التركيبة الاجتماعية الطبقية للمجتمع الإغريقي القديم، إذْ لم تكن المرأة تحظى لديهم بذي شأن أو مرتبة عُليا تمكِّنها من تقدُّم الصُّفوف والانخراط أو المشاركة في قضايا الشأن العام، واقتصر المسرح حينها على الرجل، حتى مع ما قدَّمه أحد أوائل كُتّاب المسرح في العالم، الإغريقي أسخيلوس، في مسرحيّته "الضارعات"، فعلى الرغم من حضور المرأة في نصّ تلك المسرحية وموضوعها إلّا أنَّ مَن أدّى الأدوار في تلك الحقبة الزمنيّة هم الرجال.
وعلى امتداد العصور القديمة، منذ ما قبل المسيحية في عهد الرومان، بقي حضور المرأة في المسرح يراوح رهينًا للظروف الاجتماعية والسياسية والمعتقدات الدينية والأخلاقية، وصولًا للقرن الميلادي العاشر إذْ حضرت المرأة كمؤلفة، ثم بعد غياب عادت مرَّة أخرى مؤلفة في القرن السادس عشر. ومن خلال تتبُّع تاريخ المسرح نجد أنَّ مشاركة المرأة في الفن المسرحي تراوحت بين الحضور الفعلي والمشاركة الحقيقية، وبين الإقصاء والتحريم والحظر.
ولهذا كان الاعتراف بالدور الذي لعبته المرأة في تاريخ المسرح العالمي ضئيلًا للغاية، إذا ما قورن بالجهد والنشاط الذي بذلته على مستوى الأداء المسرحي والتأليف، إذْ انعكست الظواهر الاجتماعية والتاريخية السلبية على المرأة في مجال المسرح، حيث عملت الظروف الاجتماعية السياسية والنفسية ضدّ حرية التعبير لدى المرأة، وأدَّت إلى غيابها الحقيقي والفعلي عن المسرح نتيجةً للسياق المجتمعي التاريخي الذي تعيش فيه.
ولم يدوِّن التاريخ لقب أوَّل امرأة كاتبة مسرح حتى القرن العاشر، إلى أن جاءت الكاتبة الألمانية "هروتسفيثا دي جانديرشيم"، والتي يبدو أنها الشخصية الوحيدة التي كتبت باللغة اللاتينية قطعًا مسرحيّة منذ نهاية الدراما اللاتينية عام 65 ميلادية وحتي بدايات القرن الثاني عشر، وتُعتبر أوَّل شخصية نسائية، منذ العصور القديمة، تقوم بتأليف أعمال مسرحية بهذه اللغة. ولفترة استمرَّت نحو 600 عام لم تظهر أيّ نصوص لكاتبات مسرح أُخريات إلى أن ظهر في القرن السادس عشر بإيطاليا العمل المسرحي "كوميديا الارتجال/commedia del Varteall'improvizzo" والذي أعطى المرأة الفرصة للتعبير عن نفسها على خشبة المسرح، فيما رُصد أنَّ أولى مَن مارسن الكتابة المسرحيّة عربيًّا هما المصريّة عائشة التيمورية (1840-1902)، واللبنانيّة زينت فواز (1846- 1914) لاسيّما عملها المعنون "الهوى والوفاء" والمنشور عام 1892.
والمرأة العربية شأنها شأن شقيقاتها من النساء في العالم، فلم يكن لها حضور ووجود فعليّ في المسرح الذي نشأ متأخرًا في ساحة المجتمعات العربيّة، فتأخر ظهوره حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر وعلى نطاق محدود جدًا أو في الظلّ غالبًا بحسب عدد من الباحثين، إذْ إنَّ عمل المرأة في المسرح لم يكن تحدّيًا للمجتمع وحسب، بل كان تحدّيًا للذات والتقاليد بحيث أنَّ اسم الممثلة لم يكُن يُعلن في برامج العرض ولا في الإعلانات.
ارتبطت العلاقة التاريخيّة للمرأة العربيّة مع فنّ المسرح بشكل مباشر مع الحداثة، والتي بُنيت على تفكيك مفاهيم المجتمع القديمة وعرض رؤية مُغايرة تجعل من المرأة العربيّة بصورتها المتجدِّدة وجودًا محتملًا يتيح إمكان تحرر المرأة التنويري في المجتمع العربي.
ومن هنا كانت الانطلاقة مع "أبوخليل القباني" الذي استعان في إحدى مراحل تجربته الدمشقية بفتاتين لتقوما بالأدوار النسائيّة، ولم يطل الوقت حينها حتى ارتفع صوت رجل الدين آنذاك معترضًا، ممّا اضطرّ القباني لإغلاق مسرحه والهجرة إلى مصر، ومثلها واجه يعقوب صنوع في مصر. لكن، ومع انتهاء القرن التاسع عشر كان مثقفون عرب قد تبنّوا قضيّة تحرُّر المرأة في سياق مشروعهم الإصلاحي الاجتماعي والثقافي والسياسي، من أمثال قاسم أمين وفرح أنطون وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ممّا أدّى إلى انفراجات امتدّت بضع سنوات، وإن كانت بدايتها محدودة.
أمّا أردنيًّا؛ فقد أشارت مصادر عديدة لوجود مبكِّر للمسرح منذ مطلع القرن العشرين، وعلى الرغم من ذلك إلا أنَّ المسرح في تلك الحقبة الزمنيّة كان يسير بخطى بطيئة قياسًا مع بلاد عربية أخرى، إذ إنَّ بعضها عرف المسرح منذ منتصف القرن التاسع عشر، ومنها سوريا ولبنان ومصر.
شهدت تلك الحقبة في الأردن -مطلع القرن العشرين- كُتابًا كَتبوا للمسرح، ثم بدأت حركة المسرح كفعل من خلال المدارس والكنائس. وتعود الإشارات الأولى لعمل تمثيلي مدوَّن إلى العام 1918، وقبل ذلك أنشئت أوَّل جمعيّة في الأردن تُعنى بالمسرح وشؤونه عام 1914 وسمِّيت "جمعية الناشئة الكاثوليكية العربية" لمؤسسها ورائدها الأب أنطون الحيحي وقدَّمت في مدارس مدينة مادبا مسرحيات منها "هاملت" وغيرها من الأعمال، كما قدَّم كل من محمد المحيسن وفؤاد الخطيب عددًا من المسرحيات ومنها "الأسير" و"فتح الأندلس".
ازدهرت الأعمال المسرحية في الأردن على يد روكس بن زائد العزيزي الذي قدَّم الكثير من الأعمال المسرحيّة منها "السموأل" عام 1923، و"الرشيد والبرامكة" و"صلاح الدين الأيوبي"؛ عام 1924، وقُدِّمت عروض مسرحية في عمّان والسلط وعجلون منذ عام 1927، ليتبع ذلك -مع تأسيس المدارس وانتشارها- عروض المسرح المدرسي التي شكّلت أولى أنوية الحراك المسرحي.
وفي سياق هذا المخاض المسرحي الأردني لم يُرصد حضورٌ فعليٌّ ذو سيرورة دائمة للمرأة في المسرح الأردني في تلك المرحلة، وتأخرت المشاركة النسوية الفعلية في الفن المسرحي في الظهور على الساحة الأردنيّة وللأسباب الاجتماعية ذاتها، ولأسباب تتعلق بـ"تابوهات" لم تختلف كثيرًا عن التجارب العربية، إذْ كان أوّل ظهور على المسرح الأردني للفنانة رفعت النجار عام 1962 ومن ثم مارجو ملاتجليان 1963 وليلى الصفدي عام 1964 وقمر الصفدي وناديا أبوطه وسهى مناع وناديا حبيب وجوزفين بقيلي ونازك بيطار وليلى نفاع وميمي خوري وعطاف عواد وليلى حنانيا وليلى الصغيرة وابتسام الصغيرة 1966 ومنى مهيار ونادرة العبوة 1968 بحيث ترافقت المشاركة الأخيرة مع تأسيس "أسرة المسرح الأردني"، ووجود الحاضنة الثقافية والعلمية آنذاك وهي الجامعة الأردنيّة، التي يشير إليها الفنان والباحث عبد اللطيف شما بأنَّ "تأسيس الجامعة الأردنيّة في أوائل ستينات القرن الماضي منارة إشعاع ثقافي كان له دور أساسي في استقطاب الفتيات المثقفات إلى المسرح"(ناجي، 2012، ص 56)، والتي مثلت الانطلاقة الحقيقية للمرأة في المسرح الأردني.
أمّا مرحلة التأسيس الحقيقي للمسرح الأردني فكانت ما بين الأعوام 1960 و1969؛ إذْ اتَّصفت هذه المرحلة بالأكاديمية وكانت انطلاقاتها من مديرية رعاية الثقافة التابعة لوزارة الإعلام حينها، وتزامنت مع إيجاد قسم المسرح ثم الحراك المسرحي في الجامعة الأردنيّة، فيما شهدت مرحلة السبعينات اتِّساع في مشاركة المرأة الأردنيّة في المسرح وبرزت أسماء نسائية عديدة في تلك المرحلة منها سميرة خوري وقمر الصفدي وأسماء خوري ودينا الصفدي وسوسن شمالي ومجد القصص وحنان خالد وريم سعادة وغيرهن.
عُقدت أوَّل ندوة للمهتمّين بالمسرح في الأردن عام 1978، لتتوالى المشاركات النسائية في ثمانينات القرن الماضي بتأثير تراكم العقدين السابقين ومخرجات "أسرة المسرح الأردني" والجامعتين الأردنيّة واليرموك، وليتَّسع الفضاء المسرحي وينطلق مهرجان المسرح الأردني في دورته الأولى عام 1991، وبعدها تتوالى وتتعدَّد المهرجانات المسرحيّة والمشاركة النسائيّة.
ومنذ تشكيل "أسرة المسرح الأردني" أصبحت مشاركة المرأة الأردنيّة في الفعل المسرحي حالة دائمة، حتى وقتنا الحاضر، فقد ساعد في ترسيخها؛ انطلاقتها من أحضان مؤسسة تعليمية ممّا خلّص المرأة من العديد من التابوهات التي كانت تعيق مشاركتها الحقيقية في المسرح، بل إنَّ العديد من الأسماء النسوية التي انطلقت من مسرح الجامعة الأردنيّة لا زالت حاضرة حتى يومنا هذا وتشكِّل رموزًا للحركة المسرحية الأردنيّة (عدنان مشاقبة، مجلة دراسات، 2016، ص 19و20).
ومثَّلَ تشكُّل أسرتَيْ المسرح الجامعي 1963 والمسرح الأردني 1964، النواة الصلبة الأولى للحركة المسرحية، بل لحركة التمثيل الإذاعي والتلفزيوني والمسرحي في الأردن، وكان من أعضاء هاتين الأسرتين الفنانين الروّاد أمثال نبيل المشيني، وأديب الحافظ، ومارغو ملاتجليان ورشيدة الدجاني وغيرهم.
ومع توالي عقود سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي وصولًا للألفيّة بدأ حضور المرأة في المسرح يتبلور أكثر فأكثر عبر أدوار تكميليّة للمتطلّبات الدراميّة وصولًا لحضور قويّ يجسِّد قضايا النساء وهواجسهنّ، ومن ثم انتقل إلى مرحلة تُبرز دور المرأة في القضايا الوطنية والشأن العام، وتمثَّل ذلك بوصفها كاتبة أو مخرجة أو ممثلة أو في مجال تمكُّنها من التقنيات الحديثة والمساعدة للمشهديّة المسرحيّة، ممّا ساهم في نقل قضايا النساء وأفكارهن إلى خشبة المسرح.
ولعلَّ ديناميكية حضور المرأة في المسرح الأردني بدأت بواكيرها في ستينيات القرن الماضي –كما أشرنا سابقًا- حيث شكلت خشبة المسرح منصة لإطلاق رسائل اجتماعية ووطنية وإنسانية وحين تم استقطاب الفتاة الأردنيّة للصعود إلى الخشبة في تنويعة شملت النص المحلي والعربي والعالمي، وحين مثَّلت الجامعة الأردنيّة وبعدها بسنوات "اليرموك" روافع لتكريس حضور الفتاة الأردنيّة في المسرح الأردني.
ويشير الفنان عبداللطيف شما في كتابه "الجهود النسوية المسرحية" إلى أنَّ مسيرة المرأة في المسرح الأردني خلال حقبة الستينات والسبعينات من القرن الماضي تمخَّضت عن نحو 69 مشاركة سواء من أسرة المسرح الأردني أو القطاع الخاص أو مسرح الجامعة الأردنيّة الحاضن الرّئيس للجهود المسرحية الاحترافية في بداية التأسيس لمسرح أردني، فيما بلغ عدد المشاركات في الفعل المسرحي 71 مشاركة على مستوى المسرح الرسمي التابع لدائرة الثقافة والفنون وجامعتي الأردنيّة واليرموك بالتزامن مع تأسيس قسم الفنون في اليرموك، فيما بلغ في تسعينات القرن الماضي عدد الممارسات للفعل المسرحي 84 فنانة.
• أشكال حضور المرأة وتوجُّهاتها في المسرح الأردني
منذ أكثر من خمسين عامًا اتَّخذ حضور المرأة في المسرح الأردني عدة أشكال أوَّلها وأبرزها التمثيل وأداء الأدوار الدراميّة التقليديّة المكمّلة لمتطلّبات موضوع العرض المسرحي ونصّه أسوة بالمسرح العالمي والعربي في بداياتهما، في سيرورة تواصلت منذ ستينات القرن الماضي إلى ثمانيناته، وباستثناءات قليلة ظهرت بشكل كبير في مسرح الطفل؛ إذْ كانت الفنانة الراحلة مارغو ملاتجليان من الرائدات بكتابة وإعداد وإخراج عروض مسرحية للأطفال إلى جانب مشاركتها كممثلة، وذلك في بداية سبعينات القرن الماضي، وكانت تعرض في المدارس لاسيما الخاصة منها ومسرح المركز الثقافي البريطاني بعمّان.
وفي منتصف سبعينات القرن الماضي، ومع الاهتمام المتزايد بالتعليم وانتشار المدارس واهتمام وزارة التربية والتعليم بالمسرح كأسلوب تربوي وتعليمي، وارتفاع نسبة التعليم المتوسط (خريجات معاهد المعلمات) والجامعي لدى القطاع النسائي الأردني وانخراطهن في مهنة التعليم، أسهم ذلك كله بقيام العديد منهن بتقديم مسرح مدرسي، وبالتالي توسيع شريحة الاهتمام بهذا الفن لدى المرأة والطالبة والجهات التعليمية على حد سواء، ممّا نتج عنه انتقال هذه التجارب إلى آفاق خارج الإطار التعليمي المدرسي ومنها تجربتي سميرة خوري وأمينة بازوقة، وساهم في هذه النهضة المسرحية تأسيس أول قسم أكاديمي للفنون يمنح الدرجة الجامعيّة في الأردن بجامعة اليرموك في ثمانينات القرن الماضي، بالإضافة إلى إنشاء مركز تدريب الفنون التابع لدائرة الثقافة والفنون آنذاك والذي كان يعقد دورات في فن التمثيل المسرحي، علاوة على توافد الأردنيات خريجات المعاهد والكليات من خارج الأردن واللاتي بدأن بالعودة إليه مسلّحات بالتحصيل الأكاديمي في فنون المسرح والدراما بشكل خاص والآداب عمومًا في النصف الثاني من عقد سبعينات القرن الماضي.
ولعله من الضروري الإشارة هنا إلى دور كلية الفنون في جامعة "اليرموك" والتي شكلت منذ تأسيسها أحد الروافد الرئيسة والمحفزة للمشهد المسرحي وخصوصًا من الحضور النسائي، علاوة على كلية الآداب وغيرها، بالإضافة لحماسة دائرة النشاط الطلابي في الجامعة على صعيد الاهتمام بالعروض المسرحية فيها لاسيما في عقد الثمانينات من القرن الماضي وتأسيس المركز الثقافي الملكي. في تلك المرحلة قدمت "اليرموك" عددًا من الوجوه النسائية المسرحية من خلال عروض مسرحية أطلقتها الجامعة آنذاك، ولا زال العديد من صاحبات هذه التجارب النسائية المسرحية فاعلات وحاضرات بقوة على الساحة الأردنية المسرحية خصوصًا والثقافية عمومًا، ومنهن لينا التل وزين غنما، وهناء قصاص وسهير عماري وخلود طوطح وفخر عبنده وثروت برقاوي وغيرهن، الا أنَّ نسبة كبيرة من خريجات فنون اليرموك في مرحلة الثمانينات لم يعملن في المسرح وإنَّما اتَّجهن إلى التعليم المدرسي وذلك لأسباب عديدة تحتاج إلى بحث آخر.
فيما شهد عقد التسعينات، انتشار فرق مسرحية قدَّمت العديد من العروض المسرحية التي أسهمت بمشاركة واسعة للمرأة فيها وانتشار الحضور النسائي في المسرح، وتعزَّز ذلك مع بداية الألفية التي فيها أعيد الاهتمام بالمسرح الجامعي ومسرح الشباب ومسرح الطفل علاوة على مسرح الكبار، وظهر العديد من المهرجانات التي تعنى بالمسرح؛ مما أسهم بتعزيز حضور التجربة النسائية في المسرح والتوسُّع في الكشف عن وجوه أخرى وإظهارها وانتشارها خصوصًا بالتساوق مع التحوُّلات الاجتماعية الثقافية التي شهدها الأردن والتي تجاوزت العديد من "التابوهات" حول عمل المرأة في المسرح بشكل خاص أو الدراما بشكل عام.
وشهد حضور المرأة الأردنيّة كـ"ممثلة" مراحل عديدة، إذْ أنها شاركت، كما أسلفت، في البدايات كممثلة في الأدوار الدرامية التقليدية والمكمّلة للمتطلب الدرامي، ثم مع التطوُّرات والتحوُّلات والسياقات التي لحقت بالمجتمع الأردني على مختلف الصعد التعليمية والثقافية وخصوصًا المجتمعية (الاجتماعية والحريات) توجَّهت المرأة الأردنيّة ضمن تلك السياقات إلى تقديم أدوار تمثيلية على خشبة المسرح قدَّمت من خلالها أعمالًا طليعيّة تتناول قضايا الشأن العام وبوصفها إمرأة منخرطة فيه علاوة على تقديمها شخصيات تتناول قضايا المرأة وحريّاتها من منظور نسوي بوصفها إحدى قضايا المجتمعات العربية الرئيسة التي ما زالت المرأة تناضل فيها لاكتساب حقوق توازي وتكافئ الحقوق التي يتمتع بها الرجل بعيدًا عن التهميش والإقصاء.
أمّا على صعيد حضور المرأة في الإخراج المسرحي فقد اتخذ عدة أشكال وصور وتوجُّهات ارتكزت في البداية على المسرح المدرسي ومسرح الطفل واتخذت منه مدخلًا وتوجُّهًا ابتدائيًّا للمرأة، ومن أبرز الرائدات في هذا المجال في حقبة السبعينات والثمانينات مارغو ملاتجليان وجولييت عواد وفيسنا مشارقة، ومنهن مَن قامت بإعداد نصوص عالمية أو عربية للعروض التي تم تقديمها. وأسهم انطلاق المهرجانات التي تعنى بمسرح الطفل في فتح آفاق واسعة للمرأة الأردنيّة بأن تعمل على إعداد نصوص عالمية أو تكتب نصها المحلي وتقوم بإخراج عروض مسرحية للأطفال، بالإضافة للمشاركة بالتمثيل، لتتسع الدائرة بعد ذلك من خلال هذين الأفقين؛ المسرح المدرسي ومسرح الطفل، للمشاركة الواسعة للمرأة الأردنيّة من خلالهما ممثلة وكاتبة ومخرجة ومصممة أزياء وديكور وغيره.
ومن ثم انتقل حضور المرأة كمخرجة إلى توجُّه آخر بدأت من خلاله تقدِّم أعمالًا للكبار تتناول نصوص عالمية أو قضايا عامة يقترب ممّا يُطلق عليه "مسرح المرأة" حيث الحضور النسائي المكثف، وتبلور هذا التوجُّه في تسعينات القرن الماضي وسنوات الألفية، ومنها انتقلت المرأة إلى توجُّهين آخرين؛ إذ بدأت تقدِّم أعمالًا تتناول المرأة كمحور للقضية ودورها الطليعي، والآخر تقدِّم فيه أعمالًا تتعلق بقضايا المرأة؛ مقتربًا من المسرح النسوي، ومن الأسماء التي برزت في هذا التوجُّه من الحضور الفنانات الدكتورة مجد القصص وسوسن دروزة ولينا التل.
وفي مجال الكتابة للمسرح تأخر حضور المرأة الأردنيّة فيه عن مشاركتها كممثلة ومخرجة، إلا أنه بدأ يسير بخطى ثابتة نحو ولوجها هذا الميدان في السنوات الأخيرة، وكانت البدايات كذلك انطلاقا من الكتابة لمسرح الطفل، ومن أبرز الأسماء اللاتي شكّلن ريادة وعلامات بارزة في هذا المجال ومعظمهن جئن من خلفيّتهن الأدبية ككاتبات نذكر ناديا أبوطه ووفاء القسوس وروضة الهدهد والدكتورة نهلة الجمزاوي وليلى الأطرش وهيا صالح وأروى أبوطير وغيرهن، بالإضافة إلى عدد من الفنانات الرائدات في الإخراج للمسرح المدرسي ومسرح الطفل.
ومع زيادة الاهتمام بالمسرح وتوسُّع رقعة النشاطات والفعاليات المسرحية برز حضور المرأة الأردنيّة ككاتبة في المسرح وتطرَّقت -من خلال نصوصها الإبداعية- لقضايا عامة وقضايا المرأة، ومن أبرز أسماء اللاتي دخلن هذا المضمار الدكتورة هند أبوالشعر والدكتورة ميسون حنا وسميحة خريس وليلى الأطرش وبسمة النسور والدكتورة نوال العلي ومنيرة شريح وسوسن دروزة وغيرهن، علاوة على دور العديد من الفنانات الأردنيات في توليف أو تكييف أو إعداد نص سردي وتحويله لنص عرض مسرحي (معالجة دراماتورغية).
وعلى صعيد حضور المرأة الأردنيّة فيما يطلق عليه بفنون مكمّلات العرض المسرحي أو مهام مساعدة وفنية وتقنية تتعلق بسينوغرافيا العرض ومنها الديكور والأزياء، وتصميم وأداء حركي وراقص، ومؤثرات صوتية، وموسيقى وعزف وغناء، وإدارة خشبة، فإنّ المرأة الأردنية لم تقتحم هذا المجال إلا مع بداية عقد الثمانينات ومن ثم التسعينات من القرن الماضي، وكانت من أبرز الأسماء التي حظيت بالريادة في هذا المجال سهير عماري وخلود طوطح وهالا الصعوب وبشرى حاجو وابتسام المناصير وهالة الشهاب ورانيا قمحاوي.
أمّا حقل الكتابة في النقد والدراسات في المسرح الأردني، والذي يعاني أصلًا من ضعف ومعيقات، فما زالت الخطوات محدودة فيه لجانب حضور المرأة الأردنيّة لاعتبارات عديدة تتعلق معظمها بالحركة الفنية الدرامية بمجملها سواء أكانت مسرح أو تلفزيون أو سينما، علاوة على واقع الحركة النقدية، ولربما جاء تأسيس "منتدى النقد الدرامي" عام 2012 في عمّان ليسهم في إرساء أسس للحراك النقدي الدرامي وتكريسها، إلا أنه ما زال يعاني من الكثير من المعيقات والصعوبات في تكريس الهدف والغايات التي أنشئ من أجلها ومن أبرزها تكريس حالة الدراسات النظرية في مختلف صنوف الدراما عمومًا والمسرح بوجه خاص.
ولعلَّ أبرز مَن دخل مضمار الكتابة والإصدارات البحثيّة والدراسات من النساء الأردنيات المعنيات في الحركة المسرحية؛ القادمة من خلفيّة فنيّة الدكتورة مجد القصص، ومن خلفية أدبية الدكتورة صبحة علقم، إلا أنَّ ما صدر من كتب ودراسات وبحوث للعديد من الباحثات في هذا الشأن بقي مقيّدًا في أطر محدَّدة، ولم يقترب كثيرًا من النقد الفني المسرحي بمفهومه المنهجي الأشمل، وعدا ذلك من دراسات أخرى فلا تعدو كونها بضعة أبحاث ودراسات محدودة الانتشار لأغراض أكاديمية بحتة.