. محمد خير يوسف الرفاعي
أستاذ الدراما- جامعة اليرموك
alrefaidrama@yahoo.com
سعى نادر عمران، ومن خلال فرقة مسرح "الفوانيس"، إلى دراسة الوجدان الشعبي والاحتكام إلى الذاكرة الجماعيّة وذلك من أجل إيجاد مسرح يمتلك لغة جديدة تقوم على استنطاق الموروث ومسرحته وإعادة تركيبه وقراءته وفق نهج نقدي، مع مشاركة الجمهور في الحدث، وهذا التوجُّه يصبُّ في صميم نظرية التغريب البريشتية. ويمكن القول إنَّ مسرح الفوانيس عمل على الخروج من دائرة النَّقل والاقتباس والتَّعريب إلى الارتكاز في الإبداع على مُعطيات الواقع الأردني المعيش.
عندما نتكلَّم عن المحليّة في المسرح، فإنَّنا نقصد بها الطريقة الفنيّة الخاصة ببيئة محدَّدة من العالم وهي هنا الأردن، وكذلك السمات الاجتماعيّة الخاصة بشعب هذه المنطقة من العالم، وطريقة تفكيره وعاداته وتقاليده وقيمه وطرق استقباله للمعرفة وتعبيره الخاص عنها. أمّا عندما نتكلَّم عن الأصول العالميّة للمسرح، فتلك إشارة إلى الأسلوب الفني للمسرح كما هو معلوم ومُراعى في كل أنحاء العالم، والذي يتنقَّل ما بين الكلاسيكية أو الاتجاهات الحديثة بتنوُّع شروط تحقيقها نتيجة الاختلافات العديدة لطبيعة البشر من بيئة إلى أخرى ومن حالة مزاجية إلى أخرى أو من عصر إلى آخر، وذلك كله يفرض طرقًا فنيّة في التعبير تتمشّى بالضرورة مع هذه الاختلافات والمتغيّرات.
مرَّ المسرح الأردني بعدَّة مراحل متطوِّرة على مستوى الحرفة أو الفن في النص وفي العرض من حيث الإخراج وفي الأداء التمثيلي وكذلك من حيث النقد.
وإذا كنتُ أرى ما يراه "فان تيغيم" من أنه "لا مسرح دون نص ولا مسرح دون ممثلين"، فإنَّني أرى أنَّ المسرح الأردني قد حقَّق خطوات واسعة على درب المسرح بشكله العربي، عبر مراحل عديدة بدأت بالموهبة ولم تنته بالدراسة الأكاديمية لفنون المسرح والتمثيل، ولكنها بدأت في التشابك.
تأثَّر المسرح الأردني بظاهرة المسرح الملحمي البريشتي، شأنه شأن الحركة المسرحيّة العربيّة، ولقد ظهر هذا التأثر جليًّا في عروض فرقة مسرح "الفوانيس".
وشأن كل لون من ألوان التجديد، نشأت وجهات نظر نقدية تدعم هذا التوجُّه، الهادف إلى توظيف العناصر الملحميّة في العروض المسرحيّة الأردنيّة، لكن وفي المقابل كانت هناك وجهات نظر انتقدت الفنان (نادر عمران) -مؤسس فرقة مسرح الفوانيس- بأنه اتَّجه بكتاباته، سواءً المُعدَّة أو المُقتبسة أو المؤلَّفة، إلى الأساليب الملحميّة البريشتيّة، في الوقت الذي توقَّع منه بعض المسرحيين الأردنيين، استخدام الظواهر الشعبيّة، وإبراز العناصر الشرقيّة، بشكل أكبر في عروضه.
إذن، هناك أسلوب مسرحي، مرتبط بطبيعة المسرح العالمي، والعربي، والمحلي، ومواكب لطبيعة التطوُّر بالاعتماد على الطاقات والإمكانات الشعبية التعبيرية.
فإذا كان مسرح الفوانيس الأردني قد وظَّف العناصر الملحمية، إلا أنه يربطها بمظاهر شعبيّة محليّة وتراثيّة ليزاوج بين الشكلين التعبيريين (التعبير الملحمي والتعبير الشعبي)، ومعنى هذا أنَّ مسرح الفوانيس قد انتفع بأشكال من الأسطورة الشعبية وعناصر التعبير الشعبي والتراث على اعتبار أنَّ التراث الحضاري العربي يتضمَّن ما يصدر عن المواطن العربي العادي من فن شعبي يتوسَّل بالكلمة والإشارة والإيقاع وتشكيل المادة، وهو فن يحمل من عناصر الثقافة والأصالة ما يجعله أمينًا على القيم الإنسانية والمثل الأخلاقيّة والخصائص القوميّة.
ولو توقفنا عند تجربة الفنان الراحل نادر عمران وعروضه التي تأسَّست عليها صحوة المسرح الأردني ونهوضه، وبَنَتْ عليها سمعته الحسنة في مجالات التَّجديد، تلك التي مثَّلت الأردن في المهرجانات المسرحيّة العربيّة ونقصد بها (حلمة طوط طاط طيط) و(فرقة مسرحيّة وجدت مسرحًا فمسرحت هاملت) و(لعبة دم. دم. تك) و(زريف الطول) وغيرها من العروض المسرحيّة التي انبنت على منهج التغريب الملحمي البريشتي.
لو توقفنا عند هذه التجربة، لوجدنا تأثير الدعوة إلى إيجاد شكل جديد للمسرح العربي، بعيدًا عن الشكل الأوروبي، ماثلًا مثولًا شديدًا؛ حيث استخدم مسرح الفوانيس عناصر شرقيّة بديلة لعناصر "الشكل المسرحي الأوروبي"؛ فاستخدم (الكورس الغنائي) ومظاهر أعمال المهرجين وفناني الأفراح والموالد والعروض الشعبية، وقد كان هدفه من ذلك أن يكسر أو يحول دون الاندماج العاطفي أو النفسي بين المتفرج والممثل، ليحقق عنصر التغريب الملحمي البريختي، مع أنَّ اللجوء إلى تلك المظاهر كان القصد منه -في نظر جماعة فرقة الفوانيس- مختلفًا، فكسر الاندماج العاطفي والنفسي عند الممثل وعند المتفرج هدف من أهداف نظرية المسرح الملحمي، على حين أنَّ بيان جماعة الفوانيس يجد نفسه مع بيان "الاحتفاليين المُغرِّبيين" وكتاباتهم حيث جاء فيه: بما أنَّ المسرح فن جماعي يقوم على تكامل الاجتهادات والأبحاث والتجارب، فقد كان ضروريًّا أن يتَّسع المجال ليستوعب البحث ما وصلت إليه التجربتان "الفوانيس" و"الاحتفالية" على المستوى النظري والتطبيقي، من أجل تعميق الحوار وإغنائه من خلال تواصل التجارب وتكاملها، لإخصاب المسرح العربي حتى يتجاوز القوالب الجاهزة والأنماط السائدة التي تسيطر على الحقلين الجمالي والمعرفي. وكلا الاتجاهين يرفض المسرحي العربي والمسرحيين العرب شكلًا ومضمونًا. وبعد معاينة الاحتفالية والفوانيس للواقع تبيَّن لهما إفلاس المهيمنين على المسرح في الوطن العربي فكرًا وتصوُّرًا وأدوات تعبيريّة، ولذلك فإنَّ "الاحتفالية" و"الفوانيس" يتفقان على عدة مبادئ جاء في أولها:
"المسرح علم وفن وأدب وصناعة وتظاهرة شعبية عامة، تظاهرة يحياها الجميع ويسلم فيها الجميع بعيدًا عن ممارسة التعليم والتحريض والتوجيه الدعائي والإضحاك المجاني المبتذل. وهو ما يؤكد رفض هذين الاتجاهين للشكل الملحمي الذي نظر له (بريشت) وفق نظريته في المسرح الملحمي والقائمة على (حكي) الحدث، والاتجاهان يرفضان الشكل الأرسطي الدرامي لأنه (يحاكي) عن طريق الحدث إذ إنهما مع اختلاف الأساليب يعتمدان على حدث قد تم: أحدهما "يحاكي" (المسرح الدرامي) والثاني "يحكيه" (المسرح الملحمي).
أمّا عمران، ومن خلال فرقة الفوانيس، فقد سعى إلى دراسة الوجدان الشعبي والاحتكام إلى الذاكرة الجماعية وذلك من أجل إيجاد مسرح يمتلك لغة جديدة تقوم على استنطاق الموروث ومسرحته وإعادة تركيبه وقراءته وفق نهج نقدي ينطلق من "الآن" والـ"نحن" والـ"هنا".
وعن طريق هذا الفهم تصوَّر عمران الخروج بالمسرح العربي من أزمته، وذلك عن طريق ما أسماه تجاوز الكائن إلى الممكن والمحتمل، واستنطاق الموروث ومسرحته، وإعادة تركيبه وقراءته –كما أسلفنا- وفق نهج نقدي بمشاركة الجمهور في الحدث لكسر بعض الحواجز العقليّة والنفسيّة، وهو أمر في صميم نظريّة التغريب البريشتية، وهو لبّها.
وسواء انطلق عمران من الفكرة فجسَّدها بالشخصيّات والأحداث، وعبَّر عنها بالحوار، أم انطلق من الجوّ الذي يترك لمزاجه تصوير شخصيّات وحوادث، أم انطلق من شخصيّة جعلها محورًا لأحداث ومركز لصراعات شخصيّات أخرى، أم انطلق من حدث ووظَّف له شخصيّات تجسِّده، فإنه بكل الأحوال قد اجتهد وثابر وتشبَّث بقناعته المسرحيّة.
ولم يكن عمران هو المسرحي الوحيد الذي خلط في بعض نصوصه بين عدد من المناهج المسرحيّة في النص الواحد، فإذا ما توقفنا أمام العروض التي قدَّمتها فرقة الفوانيس على وجه الخصوص نجدها نصوصًا تمتزج فيها أساليب الملحمية والعبثية والمسرح الشامل، فمسرحيّة (حلمة سنابل) على سبيل المثال مزيج من المسرح الغنائي والمسرح الملحمي والمسرح التسجيلي والمسرح العبثي، وفيها شيء من الدراما.
لذلك فقد كان حلم عمران –أحيانًا- ترسيخ الفعل المسرحي على الطريقة البريختية من خلف ستارة المسرح بفوانيسه التي هي إشارة واضحة للمشاهدين بأنَّ ما يُعرض على المسرح إن هو إلّا عمل فني مكشوف أمام المشاهدين، بعيدًا عن الخدع والحيل المسرحيّة، دون إنزال ستارة والغياب خلف كواليس المسرح، فكان الفعل المسرحي على مرأى من مشاهدي المسرحيّة، عبر أسلوب إخراجي قادر على مزح المناهج الأدائيّة والتجسيديّة، إذْ إنَّ وجود الرّاوي واستخدام الأقنعة ونزول الممثلين إلى الصالة، وإظهار الموسيقيين، وعدم استخدام الستارة كفاصل بين الصالة والخشبة، وكسر الحائط الرابع، جميعها عوامل تقول إنَّ المسرحيّة ذات نظام بريختي.
كل هذا كان يحيلنا إلى مخرج متمرِّس، صاحب رؤية ودربة، يهيمن على تجسيد حركة الفكر في العرض المسرحي، وهو ليس دور المخرج بشكل عام، ولكنه كان دور المخرج في مسرح الفوانيس على وجه الخصوص، لذلك جاءت مسرحيّة (فرقة مسرحيّة وجدت مسرحًا فمسرحت هاملت) كوسيلة (مسرح الفوانيس) لطرح مفاهيمه المسرحيّة الخاصة -شكلًا ومضمونًا- حيث خرج منها بمفاهيم جديدة فرزتها التجربة التي أثرت المفاهيم الأساسية الأولى ودعمتها. ولا شكَّ أنَّ هذا الاتجاه نحو الكشف عن دور المخرج وأسلوبه من خلال الكشف عن أسلوب النص الذي هو تجسيد لمفهوم نظري للمسرح، هو عمل شبيه بالأطروحات التنظيرية للعديد من رجال المسرح، من أمثال "بريشت" و"أنتونان أرتو" اللذين تعرَّضا لدور المخرج في اتّجاه كل منهما المسرحي.
وقد ظهر هذا التوجُّه الإبداعي المسرحي جليًّا في نص (فرقة مسرحيّة وجدت مسرحًا فمسرحة هاملت)؛ حيث جاء اختيار (الفوانيس) لهذا العمل في مرحلة تنوي خلالها طرح مفهومها المسرحي، بشكل مسرحي مكثَّف ومدعوم نظريًّا بالبيان التأسيسي لمسرح الفوانيس، والذي أُعدَّ ليصدر توأمًا متزامنًا مع عرض هذه المسرحيّة.
ولا شكَّ أنَّ الأسلوب الفني للمسرحيّة نَحا بشدَّة نحو الشكل الفني في المسرح الاحتفالي مستخدمًا عناصر مسرح القسوة، وهذا ما أكّده آنذاك مخرجها (خالد الطريفي) وهو أحد أعمدة مسرح الفوانيس.
وجدير بالذِّكر أنَّ مثل هذا المنهج المتطوِّر في الأداء التمثيلي، لأداء الأدوار من خارج المعايشة بلا تعاطف، لم يكن ليتم دون تصدّي مؤلف مبدع مثل نادر عمران ومخرج متمرس كخالد الطريفي، لأنه نهض على رؤية للعالم والمسرح بتقنية مضبوطة، وتوظيف للتراث والأغنية والحكواتي والتعبير الجسدي وتحطيم الإيهام المسرحي كعناصر الفرجة التي تبحث من خلالها هذه الفرقة عن ذاتها داخل المسرح العربي المتحرك.
وفي ذلك دلالة على اجتهاد عمران في محاولة الخروج بالجديد من حيث الشكل، والبحث عن نهج مسرحي خاص، لذا حاول الدعوة لصيغة مسرحيّة جديدة انطلاقًا من فكرة صراع هاملت مع كلوديوس ومع نفسه (Play – Within-Play) في مشهد المصيدة Mouse- Trap Scene لخدمة القصة الرئيسة، حيث أصبحت "قصة هاملت" قصة ثانوية يمثلها الممثلون على طريقة المخرج المهيمن كتطبيق لنظرية الإخراج التي علَّمهم إيّاها، والتي يثورون عليها في النهاية، وطريقة (المخرج المهيمن)؛ طريقة قامت على التغريب وإحداث الدهشة.
ولذلك استخدم المؤلف تلك "المسرحيّة الجديدة" دعوةً للممثلين للتمرُّد على المخرج التقليدي؛ أي تمرُّد على قيم الإخراج، وعلى قيم التمثيل عند (ستانسلافسكي) حيث (المعايشة) والميل إلى التمثيل الواقعي الذي يضع المتلقي أمام الواقع، وقيم التمثيل عند (كوكيلان) و(سانت دينيس)، حيث النهج "الصوتي والجسمي".
من هنا جاءت عملية الامتزاج، ما بين العنصر الفني المحلي، بالعناصر الفنيّة الثابتة، في فنٍّ من الفنون -والمقصود هو المسرح- أمرًا متعارف عليه لدى جميع الشعوب، وما يعنيني هنا هو المسرح الأردني بالتأكيد. والأردن بلد عربي له تقاليده وعاداته وموروثاته وله مأثوراته الشعبية من حكايات وأمثلة وأغنيات وسِيَر ومرويّات... وجميعها عبارة عن طرق فنيّة التصقت بالشَّعب ولازمته عبْر تاريخه كله بمراحله المختلفة، والتي قد تضيف أو تحذف منها بما يتناسب مع منطق حياتها في كل مرحلة.
وبذلك، يمكن القول إنَّ مسرح الفوانيس بقيادة الراحل نادر عمران قد عمل على الخروج من دائرة النَّقل والاقتباس والتَّعريب واستلهام ما ليس عربيًّا أصيلًا، إلى الارتكاز في الإبداع على مُعطيات الواقع الأردني المعيش، وما يكمن في نفوسنا وعقولنا، وما احتفظت به ثقافتنا الشعبيّة من خبرة ومهارة. ذلك أنَّ "ما يصدر عنّا بطريقة تلقائيّة من تفنُّن بالقول والحركة والتشكيل، وزوال الشُّعور بالنَّقص أمام الفنون الغربيّة، سيضاعف من قدرتنا على الإبداع الأصيل، وسيجعلنا ننفذ إلى جوهر النَّفس الإنسانيّة مع الاحتفاظ بمقوّماتنا وخصائصنا العربيّة".
• قائمة المراجع:
- د.محمد خير الرفاعي، كتاب المسرح الأردني "بين المادة والشكل والتعبير" دراسة تحليلية، منشورات الهيئة العربيّة للمسرح، الشارقة، 2020.
- مخطوطة لمسرح الفوانيس، البيان التأسيسي، صدر في الأردن- عمّان 27-3-1984.
- مخطوط لبيان مشترك بين الاحتفالية والفوانيس "كتابات أولى" مسرح الفوانيس (جماعة المسرح الاحتفالي)، الرّباط في 25-4-1984.
- د.مفيد حوا مدة، البحث عن مسرح، سلسلة دراسات في المسرح الأردني(1)، ط1، دار الأمل، إربد- الأردن، 1985.
- وثائق المسرح الأردني، سلسلة دراسات في المسرح الأردني، ج1، مركز الدراسات الأردنيّة، جامعة اليرموك، إربد.
- جهود المسرحين الأردنيين (5)، منشورات جامعة اليرموك.