د.عبد الفتاح شهيد
أستاذ تحليل الخطاب في جامعة السلطان مولاي سليمان- المغرب
أنثربولوجيا الحواس هي إحدى السُّبل المتعددة للأنثربولوجيا، تطرح علاقات الناس من مختلف المجتمعات الإنسانيّة مع مسألة النَّظر والإحساس واللَّمس والسَّمع والذَّوق، لأنَّ الإنسان منغمس في محيط يتشكّل ممّا يدركه عبر حواسه. ويدعو "دافيد لوبروطون" في كتابه "أنثربولوجيا الحواس: العالمُ بمذاقات حسّيّة" إلى ارتياد آفاق الحواس والمعنى، ذلك أنَّ الإحساس لا يتمّ أبدًا من غير تدخُّل الدّلالات. إنَّ أنثربولوجيا الحواس عالم غير متناه، وبهجة الاستكشاف فيها لا تنقضي، ولا تكاد تقبض عليها حتى تنفلت من جديد.
انطلق "لوبروطون" في مشروعه الأنثربولوجي حول الجسد مع كتابه "أنثربولوجيا الجسد والحداثة" في العام 1990، ومنذ ذلك الوقت وهو يسعى إلى بلورة أنثربولوجيا واضحة للحواس، يبني من خلالها نظرية للمعنى تراعي الاختلاف والتعددية الثقافية. إذْ ليست الحواس وحدها التي تُفهِم أسرار العالم، وإنَّما ما يضفيه عليها الفرد من خلال حساسيّته وتربيته وثقافته؛ فالإنسان "ليس فقط عينًا وأذنًا ويدًا وفمًا وأنفًا، وإنَّما هو نظر وسمع ولمس وتذوُّق وشمّ، أي أنه نشاط للمعنى"، ويضيف "لوبروطون" في تقديمه للترجمة العربية لكتابه "أنثربولوجيا الحواس"(*): "إنَّ هذا الكتاب عبارة عن خرائطيّة أنثربولوجيّة للعلاقات التي تقيمها البشريّة مع الإدراكات الحسيّة، وهو يسائل الشرط الإنساني في تنوُّعه وتخومه". فلا يوجد الإنسان خارج الإحساس بالعالم، والانصياع للانغماس فيه، وبينهما استمراريّة حسيّة دائمة الحضور؛ لأنَّ العالم الذي نعيش فيه يوجد من خلال الجسد الذي يسير نحو لقائه.
ليست هناك الحساسية نفسها نحو "الغابة" من طرف الأشخاص المختلفين، لأنه ليست هناك حقيقة واحدة للغابة، وإنَّما ثمّة إدراكات مختلفة لها تبعًا لزاوية المقاربة والانتظارات والانتماء الاجتماعي والثقافي. إنَّ عمل الأنثروبولوجيا هو استكشاف هذه الترسُّبات المختلفة، لأنَّ كل مجتمع يرسم لنفسه "تجربة حسيّة خاصة"، هي بمثابة توجُّه ثقافي لا يلغي الحساسية الفردية. وأنثربولوجيا الحواس هي إحدى السُّبل المتعددة للأنثربولوجيا، تطرح علاقات الناس من مختلف المجتمعات الإنسانية مع مسألة النظر والإحساس واللمس والسمع والذوق، لأنَّ الإنسان منغمس في محيط يتشكّل ممّا يدركه عبر حواسه، غير أنَّ هذه الحواس ليست نوافذ على العالم ومرايا محايدة، بل هي مصفاة تحفظ ما تعلّم المرء أن يضعه فيها. والأشياء دائمًا مسكونة بنظرة ما، لأنَّ "تشكيلة الحواس وحدودها أمر ينتمي إلى الخطاطة الرمزية الاجتماعية". وإحساس المرء بالعالم هو إدراكه في قلب تجربة ثقافية معيّنة؛ فمثلًا استعمال مفهوم الرُّؤية للعالم بوفرة يترجم هيمنة البصر في المجتمعات الغربيّة، بينما تتحدَّث مجتمعات أخرى عن تذوُّق العالم ولمسه وسمعه وشمّه؛ فالناس يسكنون عوالم حسيّة مختلفة. يفكِّك الأنثربولوجي بداهة حواسه وينفتح على ثقافات حسيّة أخرى، والتجربة الأنثربولوجية هي "دعوة إلى ارتياد آفاق الحواس والمعنى، ذلك أنَّ الإحساس لا يتمّ أبدًا من غير تدخُّل الدّلالات".
• أنثروبولوجيا الحواس
نظرًا للظروف الطبيعية التي تحدّ من إمكانية الإبصار لدى الأسكيمو في المحيط الفريد للشمال الكبير، فإنهم لا يتحدثون عن الفضاء بمفهومه البصري، بل يولون أهمية أكبر للسمع والشم، لأنَّ العالم لديهم خُلق من صوت، فتنصاع جغرافيتهم للتغيرات الجذرية التي تأتي بها الفصول وطول الليل والنهار والثلج والجليد؛ التي تحدّ من فعالية الرؤية، وتمدّ في فعالية السّمع. ذلك لأنَّ العالم لا يمنح نفسه إلا في شكل محسوس، وكل شيء في الروح يكون قد مرّ أولًا بالحواس بحسب "ميرلوبونتي". لأنَّ الجسد مثل اللسان، منبع مستمرّ للدلالات، غير أنَّ الإدراكات الحسيّة تظلّ رهينة بالرّمزيّات المكتسبة. وللّغة في بلورة الإدراكات دور حاسم، على الرغم من صعوبة ترجمة الإدراكات الحسيّة إلى كلمات.
لدى الصبيّ تغدو الأحاسيس عوالم من المعاني، ودون شك أنَّ الانطباعات اللمسية والسمعية هي الأولى، ثم يأتي البصر لاحقًا، والتماهي ولعبة اللغة هي التي تؤسس لقدرة الطفل على التواصل مع محيطه بصدد أحاسيسه، فالآخرون هم شرط المعنى؛ "إنَّ عالمًا من دون الآخرين عالم من دون رابطة، منذور للّامعنى". وهكذا تتوسَّع المعرفة المحسوسة بالتعلم والتجربة المتراكمة.
نسجِّل الهيمنة الغربيّة للبصر، وعلى الرغم من أنَّ التقليد اليهودي والمسيحي قد منح سموًّا للسمع فهو لم يحطّ من قيمة البصر، وقد جعل أفلاطون من البصر الحاسة الشريفة بامتياز، وظلّ هذا الأمر سائدًا لقرون طويلة في المجتمعات الغربية، وتكرَّس هذا الوضع مع اختراع المطبعة حيث حُرم السّمع من امتيازاته لصالح البصر. وهو ما جعل الغربيين ينحون إلى تأويل خاطئ للثقافات الأخرى التي لا تضع البصر في أعلى لائحة الحواس، حيث غالبًا ما يلغون البُعد الرمزي الذي يندرج لدى هذه الثقافات ضمن تجربة مشتركة.
ما يهمّ الإشارة إليه هنا أنَّ الحواس تتضافر في الإدراك، وهي موجودة دومًا في كليّتها، حيث كل شيء يتمازج، "تصحح الحواس بعضها بعضًا، وتتناوب وتتمازج وتُحيل على الذاكرة وعلى تجربة تمسك بالإنسان في تمامه لمنح التماسك".
• أنثربولوجيا البصر، السمع، واللمس
نركز على البصر في علاقتنا بالعالم، ممّا يجعل العمى أسوأ العاهات، غير أنَّ البصر هو حاسة السطح لوحده، حاسة ساذجة لأنها محبوسة في المظاهر، على عكس الشم والسمع، غير أنه من اللازم، على الرغم من ذلك، تعلُّم الرُّؤية، لأنَّها تمكِّن من النَّظر، لأنَّ كل بصر تأويل ومنهج وفكر، يظلّ متشبعًا بالاعتبارات الأخلاقية والثقافية. فأحيانًا نرى الأشياء ظلمة بهيمة، وأحيانًا نراها عالمًا ورديًّا. وكثيرًا ما تعجز لغتنا عن التعبير عن الألوان وتدرُّجاتها الدقيقة.
بينما يخترق الصوت الإنسان، كما يخترق الإنسان ممرّات له في صخب العالم الهادر، ويظلّ السمع هو الحاسة الجامعة للرابطة الاجتماعية، لأنه موطن اللغة، والحاسة التي تبرز حين يغيب البصر، وهو ما يمنح كثافة العالم لحمَه ودمه. فبالصوت الجماعي يحس الإنسان بقوة الانتماء، في هتافات الجماهير وشعاراتها، يفصح عمّا وراء المظاهر، وينسج وجوده في سيلان الزمن؛ فحين تكون الرؤية مستحيلة يصير كل مسموع معلومات مهمة. والأصوات كذلك مثل المرئيات ترتبط بالعاطفة وبدلالة تصفّيها، وبالثقافة التي تتشكل فيها، إذْ إنَّ كل صخب للحياة هي مظاهر مكتومة للجسد. الضجيج شذوذ مرضي للصوت، يمارس الإكراه ويسبب الإزعاج، لأنه لا يقبع في مكانه، بل هو شكل ماكر من التلوث. غير أنَّ له وجهًا آخر، فحين لا يحظى الآخر بالاعتبار يصبح لسانه ضجيجًا وأصواتًا مزعجة متداخلة. فالعلاقة بالضجيج كما العلاقة بالصَّمت تنمّ عن سلوك اجتماعي وثقافي جماعي وأيضًا فردي. فالصمت يخفف من قبضة المعنى ويثير الخوف أحيانًا كثيرة، والصوت يملك قدرة على درئه، فيصير ضبطًا لمعنى يهدّد بالتفكّك، وأداة للسلطة، ورد فعل على فوضى العالم، وتجاوزًا لعتباته المرهقة، يُلحم الجماعة حول مرجع مشترك، ويحوّل بقوة واقعها وأحداثها.
إذا كانت الحواس الأخرى تتحدَّد مكانيًّا بشكل كبير، فإنَّ حاسة اللمس تشمل الجسد بكامله، ونظرًا لأنَّ كل إدراك يعود إلى تماس معيَّن، فإنَّ اللمس هو الأول في تكوين شخصية الفرد، فهو ذاكرة لا واعية للطفولة، وهو الصيغة الملموسة للعالم، وهو الحاسة الأقدم والأكثر تجذرًا. يدل على واقعيّة الأشياء، يتطلّب مثل غيره من الحواس تربية وتعليمًا وتوجيهًا. لأنَّ للَّمس دلالات كثيرة ومختلفة، فهو يعبِّر عن تفاعل وتواصل وشبقية وعاطفة، يجذّر الإنسان في العالم، ويأخذ أشكالًا مختلفة في الحب، وفي المرض، فكلما فشل الكلام تنبثق من اللمس أروع المعاني وأعمقها.
• أنثربولوجيا الشمّ والذّوق
في المجتمعات الغربية الثقافة الشميّة غير منتظمة، والشم مثير للانزعاج غالبًا، لكن بالمقابل يحظى الشم بأهمية خاصة في مجال الـ"ماركتينغ". لا يمكن الإفلات من الرائحة لأنها غلاف دقيق لطيف، تُستدعى خلال الطقوس الدينية والدنيوية، تُعبئ جغرافيةً وتاريخًا ذاتيين، وتتضمّن تعلمًا دقيقًا لدلالات العالم، وتتحمّل انتزاع شذرات حياة من النسيان، باستثارة أشباح الزمن الماضي وعواطفه. وللرائحة كذلك أبعاد متعددة اجتماعيًّا وثقافيًّا، فهي تكشف طوية الذات وميسمها الأخلاقي. وعادة ما تمنح قيمة للرائحة في المجتمعات، فتحمل أحيانًا خطابًا عنصريًّا، وحُكمًا مسبقًا، بتعزيز الحقد المنبثق عن "الرائحة الكريهة" في حقّ الآخر المختلف أو المعادي، وتحقيره باللجوء إلى المتخيّل الشمّي. كما أنَّ للروائح وظائف أخرى، فهي تساهم في انتشار المرض، كما قد تساهم في القضاء عليه، كما قد تكون مؤشرًا على تمدُّن مجتمع أو بداوته.
يتعزَّز الذوق في الطبخ بالبصر والشم، فتتصرّف عمليات ذوقية ولمسية وشمية وحرارية، في الإشباع والرضا أو الإهمال والتقزُّز، كما أنَّ للتماسك والصوت أهمية كبرى، وتظل المتعة الأولى بصرية، وبعد "وليمة العيون"، يأتي الشم، ثم الذوق، حيث النوتات هي النكهات وتمازجها. والذوق بدوره يستجيب للانتماء الاجتماعي والثقافي، وطريقة الفرد ذاته، فالنكهات تختلف باختلاف الثقافات، وهي حروف أبجدية لا نهائية تصرّف الإدراكات الذوقية المختلفة باختلاف المجموعات الاجتماعية والأفراد، وهي روابط سرية خالدة بالماضي والطفولة والجذور. فكل ثقافة مقتنعة أنَّ مطبخها واختياراتها الغذائية هي الأفضل؛ إذ إنَّ المذاق الأفضل هو منظور ثقافي يتم إسقاطه على الطعام، هو تقدير ثقافي، وحكم قيمة على الطبخ. فكما تمَّ الحديث قبل عن "الرُّؤية للعالم"، فيمكن الحديث كذلك عن "تذوُّق العالم". حيث يتغذى الإنسان أولًا بالحواس والمعنى، ويُعبِّر مجازيًّا عن طبيعة العلاقات الاجتماعية بنكهات مختلفة، فيتذوَّق الحياة ويجدها لذيذة أو باهتة؛ فبين المرارة والحلاوة، والجوع أو الشبع تتشكّل مذاقات الحياة من خلال مذاقات الأطعمة. وبين القِدم والحداثة، وبين اللذة والقرف، والكرم والشّح، تمتد الاختلافات بين الثقافات، لتتشكّل قوانين الطبخ المشبَعة بالمعاني والرموز.
وأخيرًا؛ فإنَّ أنثربولوجيا الحواس عالم غير متناه، وبهجة الاستكشاف فيها لا تنقضي، ولا تكاد تقبض عليها حتى تنفلت من جديد؛ "لكن ما ستكونه الحياة من غير مذاق النافل، هذا الذي يملك مع ذلك معنى ويُدخل الدهشة للعلاقة بالغير وبالعالم".
- - - - - - - - - - - -
(*) دافيد لوبروطون، أنثربولوجيا الحواس: العالم بمذاقات حسية، La Saveur du monde: Une anthropologie des sens، ترجمة: فريد الزاهي، الطبعة الأولى 2020، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، المغرب.