قصص ليلى أبو زيد
محمد معتصم
ناقد مغربي
القصة القصيرة سردٌ منظمٌ ومحكمٌ، وهي أيضًا الكيفيّة التي يحكي بها القاص مواقفه ومشاهداته ويرتب انفعالاته ومشاعره، بحيث يتلقاها القرّاء باندهاش وإعجاب، ويجدون فيها جديدًا مختلفًا على مستوى الموضوعات والقضايا المطروحة، أو على مستوى طرائق ترتيب الوقائع وتنضيدها، بحيث تخلق حسًّا جماليًّا ظاهرًا أو شعورًا باطنيًّا خاصًّا، أو على مستوى اللغة السردية التي تقدّم للقارئ وقائع ومشاهد ومواقف مكرّرةً، لكنها صُبّت في قوالب جديدة تناسب الأذواق المتنوعة والمختلفة؛ وهو ما تبدو عليه قصص الكاتبة المغربية ليلى أبوزيد كما يرى كاتب هذا المقال.
ليست القصة القصيرة خطابًا ملغزًا [لغزًا] يتطلّب من الكاتب فيه إخفاء الحقائق والمواقف وتصنُّعَ الانفعالات واستدرار العواطف واستمالة المشاعر واستيلاد الأفكار، ولا يتطلب من المتلقي فيه شحذ ذكائه لتفادي المطبّات أو لحل القضايا الشائكة والأزمات الفنية والجمالية أو الاجتماعية والسياسية المبطنة في النص، إنها بكل بساطة، سردٌ منظمٌ ومحكمٌ، متنوعةٌ ومختلفةٌ وجهات النظر فيه، بحسب المواقف الشخصية أو الجماعية من الحياة وأيضًا من أفعال ومواقف مختلفة ومضادة، والمشاهد من الحياة والتجربة الشخصية كذلك والجماعية، أو من نسج الخيال المبدع الخلاق استباقًا للوقائع والأحداث زمنيًّا، أي أنَّ القصة في النهاية، هي: كيف يحكي القاص مواقفه ومشاهداته ويرتب انفعالاته ومشاعره، بحيث يتلقاها القرّاء باندهاش وإعجاب، ويجدون فيها جديدًا مختلفًا، على مستوى الموضوعات والقضايا المطروحة [القصة/ المحتوى]، أو على مستوى طرائق ترتيب الوقائع وتنضيدها [السرد]، بحيث تخلق حسًّا جماليًّا ظاهرًا أو شعورًا باطنيًّا دفينًا وخاصًّا [حميمًا]، أو على مستوى اللغة السردية التي تقدّم للقارئ وقائع ومشاهد ومواقف مكررةً، لكنها صبّت في قوالب جديدة، بألفاظٍ وأساليبَ جديدةٍ، تناسب الأذواق المتنوعة والمتعددة والمختلفة. لأنَّ الجمال يختلف معناه باختلاف ثقافة وتكوين المتلقين والاستعداد النفسي والذهني لأغلبهم.
هكذا بدت لي قصص الكاتبة المغربية ليلى أبوزيد في كتابها "عام الفيل وقصص أخرى"، وهو كتاب يضم رواية "عام الفيل" إلى جانب ثماني قصص، التي أعادت نشرها في كتابها "الغريب، قصص من المغرب"، وقد أضافت إلى الأولى ثماني قصص أخرى، كما غيرت في بعض العناوين، مثلًا، أصبح عنوان قصة "رحلة استجمام"، "عطلة"، وقصة "الصمت"، "الشقيقتان"، وقصة "عشاء في السوق السوداء"، "عشاء غال"، وتُعدُّ القصص الثمانية الأولى كما تقول الكاتبة "باكورة إنتاجي الأدبي"(ص8، عام الفيل)، وتضيف: "أردتُ لها بذلك ألا تضيع، لأنها غير كافية للنشر على حدتها ولأنني كنتُ أعتقد أنني لن أعود إلى كتابة القصة"(ص8، عام الفيل). فما الذي جدَّ، حتى تكتب ليلى أبوزيد ثماني قصص أخرى، ستكتب كلها في سنة واحدة (1999م)، كسابقاتها التي كتبت سنة 1978م، تقول الكاتبة في مقدمة "الغريب": "كانت الترجمة الفرنسية للكتاب قد بدأت والمترجم قد رفض الجمع بين الرواية والقصص، للسبب نفسه، ولأنَّ ناشرًا فرنسيًّا لن يقبل بحال الجمع بين جنسين أدبيين في كتاب واحد. وقال إنَّ عليّ، إنْ أردتُ لهذه القصص أن تُنشر في الترجمة الفرنسية، أن أكتب المزيد منها. وبذلك رجعتُ إلى كتابة القصة"(ص6، الغريب).
إذن، نستنتج التالي كقاعدة للتحليل والتأمل والتأويل في آن؛
- كتابة القصة القصيرة كانت بداية انفتاح الكاتبة ليلى أبوزيد على عالم التخييل الأدبي والإبداعي، إلا أنها كانت مرحلة انتقال لاختبار كتابة الرواية (عام الفيل والفصل الأخير) والسيرة الذاتية (رجوع إلى الطفولة)، وكتابة أدب الرحلة في (بضع سنبلات خضر وأمريكا، الوجه الآخر).
- كتبت القصص الملحقة برواية عام الفيل في غضون عام واحد (1978م)، وكتبت القصص المكملة لحجم كتاب الغريب في عام واحد كذلك (1999م)، أي بما يزيد عن عشرين سنة.
- السبب في العودة إلى كتابة القصة كان من ورائه المترجم والناشر الفرنسي.
- خارج البلاد العربية، وفي فرنسا كما تذكر الكاتبة، لا يمكن الجمع بين جنسين أدبيين مختلفين، هما القصة القصيرة والرواية.
- الملاحظ أنَّ الرواية تختلف عن القصة القصيرة، في الحجم وطريقة الصياغة وحتى في الوضعية بين جمهور المتلقين.
- الملاحظ أنَّ تغيير العناوين كان من ورائه كذلك المترجم والناشر، واللغة الفرنسية.
على الرغم من كل ذلك، فللقصة القصيرة عند ليلى أبوزيد وصفتها الخاصة، أو لنقل معناها الخاص، وبالتالي حدودها الفنية والجمالية، وأهمها؛
• البساطة، التي تعني هنا، الابتعاد عن التعقيد في البناء القصصي، أو التجريب في الصيغ الممكنة، أو التجريد الذي يخرج بالقصة القصيرة عن معنى "القص"، أي رواية وقائع أو واقعة حياتية متداولة في الحياة، يعيشها الناس، لكن الكاتبة تنقلها عبر الكتابة واللغة والتخييل إلى مستوى الظاهرة الاجتماعية أو في أحسن الأحوال وأرقاها إلى ظاهرة إنسانية.
• الميل إلى كتابة القصة القصيرة حجمًا، والتي تقتصد حتى في الكلام (السرد)، وهو اختيار ليس بالسهل، ويمكننا أن نقول عنه "السهل الممتنع"، ويتناسب تمامًا مع معنى البساطة البعيدة عن التعقيد والتجريب والتجريد. وخير مثال قصة "بطالة" [في صفحتين]، و"بيت في الغابة" [ثلاث صفحات]، ومثلها قصة "المتذمر"، وقصة "عشاء في السوق السوداء". أمّا باقي القصص فمتوسطة الحجم.
• الحجم في قصص الكاتبة حامل لدلالة وظيفيّة، أي أنه يمتد ويقصر بحسب ما يسمح به "السرد"، أي أنَّ الكاتبة تسرد وقائع ومواقف في حدود عدم الإخلال بأهم مكونات السرد القصصي، كما تراه، وبذلك يكون "السرد" القيمة الأساس في كتابة القصة القصيرة، أي أنَّ القصة القصيرة تتحوَّل إلى رواية بتركيب وتعقيد الصيغ السردية، وتعدُّد الرُّواة، وتعدُّد وجهات النظر والأصوات في النص السردي المطول، بينما قد تتقلص وتقصر القصة إلى الحد الذي يتحوَّل فيه النص إلى "شيء" خارج السرد، أي ما لا يمكن سرده.
• هكذا يكون الحجم مرتبطًا وظيفيًّا، ليس بجماليّة القصة القصيرة، ولكنه مرتبط بأهم أركانها أجناسيًّا.
• التواتر؛ صفة من صفات السرد القصصي القصير عند الكاتبة ليلى أبوزيد، الأحداث تتنامى تصاعديًّا نحو الحل، والنهاية. وقليل من القصص القصيرة التي تسترجع أحداث الماضي، بوضوح، أو لنقل، بأنَّ اعتماد الكاتبة على الاستذكار والاسترجاع برز في قصتين قصيرتين مميزتين، لأنهما ترتبطان بظاهرة اجتماعية تدينها الكاتبة، وهي الطلاق. لكن الكاتبة تصعِّد الظاهرة لتتحوَّل إلى قضية إنسانية، تترتب عنها انعكاسات سلبية نفسية واجتماعية، مثلًا في قصة "الطلاق"، توظف الكاتبة الشخصية القصصية لإقناع القارئ، بأنَّ "الطلاق" ليس موقفًا ولا إجراء عمليًّا لعلاقات فاشلة، بل هو "نزوة" طائشة، وهنا يتحوّل الإقناع، كخطاب حجاجي، إلى ذريعة، تستخدم التأويل الذاتي، وهكذا ألبست الكاتبة الشخصية القصصية صورًا شتى من التدهور النفسي وتبعًا لذلك، الفشل في الحياة العملية (الفشل في الترقي المهني)، وفي الحياة الأسرية الخاصة (الفشل في حماية الأبناء من التشرُّد، ومن الآلام التي تكبدتها ذات الشخصيّة)، أي أنَّ الكائن الانفعالي والمستسلم لغرائزه ونزواته الذاتية والفردية يلغي التفكير العقلاني، وبالتالي يلغي قيمًا أخرى، كالتضحية والصبر والكفاح من أجل الترقي الاجتماعي والسلامة النفسية، والتفكير الإيجابي في الحياة.
• فكرة الطلاق، فكرة محفزة للسرد، وهي نواته، منها ينطلق وحولها ينسج حبكته، طبعًا بصيغ سلسة وبسيطة غير مركبة خالية من التجريب والتجريد. وفي قصة "الصمت" التي أصبحت "الشقيقتان"، تصور عبر الاستذكار، لأنَّ هناك محفزات خارجية ستثير ذاكرة العجوز الأولى (الشقيقة الأولى) التي سترى صورة زوجها (طليقها) الذي استحوذت عليه أختها (الشقيقة الثانية)، وقد أحسَّت بالظلم الذي تسبَّبت فيه لشقيقتها الأكبر منها. وفي لحظة غضب وبوح انفعالي تبرِّر الثانية نزوتها ورغبتها في تملُّك زوج أختها: "الطلاق سنّته الشريعة وقد كان سيطلقك حتى ولو لم يتزوجني"(ص116، عام الفيل).
• تتكرر موضوعة "الطلاق" في قصة بعنوان "قصتان"، في صورة تحايل ومكر وخديعة، تقول الزوجة للمرأة التي تسترت على حملها: "في أمان الله"، فقالت: "أنت التي في أمان الله!"، [هنا نلاحظ كيف أصبح التعبير "في أمان الله" بعيدًا عن دلالته الأصل، واتخذ دلالة ثانية، اكتسبها من "الاستعمال" الدارج، فقد أفرغ الاستعمال والتداول اليومي في اللغة اليومية المحلية والمحكية معنى مختلفًا لظاهر القول، فأصبح يعني: "اذهبي على حال سبيلك" أو "غادري المكان غير مطرودة"]، أو معنى: "لم تعد لنا بك حاجة، فتوأم سجّلا باسم الزوج ووضعا في كناش الحال المدنية على أنهما من صلبه، والآن، يجب أن تعودي من حيث جئت". وتتابع الضرّة: "أمّا أنا، داري ودار أولادي!" وأخرجت لي عقد النكاح.
- عقد عليها العجوز؟ [تقصد الشيخ]
- وطلقني.
- أي سفيه! ولكن الغلطة غلطتك!..." ص (106-107/ الغريب)
• نستنتج أنَّ الكاتبة تتخذ العناوين محفزات سردية، بالإضافة إلى أنها "عتبات" نصية، توحي بمحتوى القصة القصيرة، من جهة، و"بؤرة" سرد تحبك خيوط الحكاية.
• أيضًا، من الملامح المميزة للسرد في قصص ليلى أبوزيد، بالإضافة إلى البساطة والتواتر، نجد التوتر، فأغلب القصص تنبني على "التقابل" بين شخصيتين مختلفتين في الوضعية، متشابهتين في الأصول، ونموذجها الأمثل قصة "المتذمر" وهي قصة جميلة، تضع فرّاشًا في طريق وزير، يقوم الفرّاش ببعث ذاكرة الوزير، وإعادته إلى ذكريات الطفولة البائسة وأيام الحاجة والفاقة التي ردمها البطر والغنى والرياش، لكن ما سيجعل الوزير متذمرًا، رفض الفرّاش، صديقه وقريبه، الوظيفة التي عرضها عليه، حتى يترقى اجتماعيَّا، لكن النص في سياقه العام يضع القارئ في لحظة التباس، فيصبح التذمُّر حالة تصف الطرفين معًا، كل من زاويته، وكأننا أمام حالة "الكائن" عندما يتجرّد من حالته كمفهوم علوي وعقلاني مجرّد، وبين حالة "الكائن" كجزء من الوضع الاجتماعي وكقطعة من عموم الحياة، فالوزير والفرّاش على المستوى اللغوي والفكري ليسا سوى قيمتين متقابلتين ومتناقضتين، أعلى وأدنى، بينما في النص القصصي وفي الجذور هما واحد، متصل بالبدايات ذاتها: الفقر الفاقة والضعة.
• إذن، فالمظاهر تخدع العين، وتميّل النفوس الضعيفة، وقد صوّرت الكاتبة ليلى أبوزيد هذه الخصلة الشائنة في الكائن المخدوع، في قصة "عشاء في السوق السوداء" التي تحول في كتاب "الغريب" إلى "عشاء غال"، حيث ستنخدع الموظفة بمظاهر زينة الزائرة، التي ستتحوَّل لاحقًا مديرة مكتب تأمينات، وسيتحوَّل كرمها إلى طريقة مثالية للخداع، واللعب بأذهان الناس، أو الكائنات المنخدعة بالمظاهر الخارجية، ومن هؤلاء، زوجا المرأتين، تقول الزوجة الموظفة تعليقًا على انبهار زوجها بالمرأة اللص، مثلًا: "الحمد لله أنك لم تنس نفسك!"(ص125، عام الفيل)، وسياق هذا التعليق، اكتشاف الزوجين أنهما سُرقا من قبل المرأة التي كانا منبهرين بجمالها ولباقتها ونشاطها وحركتها الدؤوب وتصنُّعها المرح، قد أرغمتهما على التخلي عن معطفيهما، بلباقة، حتى تسرق ما في محفظتي نقودهما. إنَّ المظاهر خدَّاعةٌ.
• أهم الملامح القصصية عند ليلى أبوزيد، إضافة إلى البساطة في السرد والتواتر والتوتر، والموضوعات الأثيرة كالطلاق وآثاره ودوافعه، نجد السخرية. اللغة السردية عند ليلى أبوزيد ساخرة، متهكمة، فتؤدي معاني متعددة، ومنها على سبيل التمثيل لا الحصر؛ التهكم، الضحك، والانتقاد، والمرح. تسوق الكاتبة السخرية في صيغ متنوعة ومختلفة، منها المثل أو الصورة الشعرية البليغة والحكمية: "فالفضائح في البلاد المتخلفة كالسمن البلدي لها رائحة نافذة ولو كانت في قيعان الجرار"(ص128، عام الفيل) من قصة "الغريب"، أو تأتي في صورة موقف كما مرَّ بنا في الحديث عن الزوجين المخدوعين بمظاهر المرأة اللص، أو تأتي في سياق سردي متكامل ومضحك، على الرغم من الموقف المأساوي، مثال: "أمسك بخنّاقي حتى رأيت الموت وقال لي وأنفه ينزف وعينه في عيني: (أرني أباك أيها الوغد!) وللرجال الذين هبّوا لاستخلاصي من بين يديه: (لا أتركه حتى أرى الكلب الذي أنجبه. فالحون في تعمير شوارع الدولة بقطاع الطرق!) فقال له أحد الرجال: (دعه! ستقتله! إنه ابنك!)"(ص57) [من مجموعة "الغريب"، لأن بها تصويبًا وتغييرًا عمّا كُتب في قصص "عام الفيل"].
• من حيث الموضوعات الأثيرة، كالطلاق والرفض، نجد الأنا والآخر، الذي برز في قصة "الغريب" الذي تَنَصَّرَ فتنكَّرتْ له أمه ومربيته (الخادمة ياسمين)، بعدما عاد لزيارة مدينته فاس وبيتهم وأمه وياسمين عند انقضاء ثلاثة عقود من رحيله إلى فرنسا مع رحيل المستعمر من البلاد. لكن أجمل الكتب التي وصفت فيها ليلى أبوزيد التصادم بين الأنا والآخر، كتابها "بضع سنبلات خضر" وعنوانه الفرعي يدل على ذلك، "أدب رحلة"، حيث تتعرض بالنقد للسلوك العنصري والمتناقض عند الإنجليز، والذي يختفي عند الخطاب الرسمي ويتجلى مقيتًا في السلوك اليومي، عندما يرفض السكان الأصليون الزواج من الملونين أو كراء شقق لهم، والملونون كما تشرح ليلى أبوزيد في عرف الإنجليز لا يقتصر على السود، إنما يضم الآسيويين والعرب، ومَن ليس إنجليزيًّا قحًّا. تقول ليلى أبوزيد في الجزء المعنون بـ"قروح في وجه وسيم": "لكن ذلك لم يكن ليستثنيهن من العنصرية التي يكنّها المجتمع الإنجليزي لمن يسميهم الملونين. وهي صفة لا تعني، كما في الولايات المتحدة، السود وحدهم ولكنها تشمل في بريطانيا السلالات غير الأوروبية من آسيويين وهنود وباكستانيين..."(ص69، بضع سنبلات خضر)، ولم تمنع تلك القروح العنصرية ليلى أبوزيد من الإعجاب ببريطانيا تاريخًا وعمارة واحتفاء بالفنون.
• أروع القصص القصيرة التي تستحق الوقوف مطولًا، لاستخلاص بلاغة السرد القصصي القصير، في المغرب وفي القصة القصيرة النسائية وفي التجارب المميزة قصة "بطالة"، قصة قصيرة اسم على مسمّى، تستوفي كل ما تحتاجه القصة لكي تكون مشوّقة ومؤثرة، أو لكي يتحقق فيها بُعدا الفن والجمال، وهما: الإمتاع والفائدة. فعبر مفهوم وحالة "بطالة" الشخصية القصصية استطاعت الكاتبة أن ترصد أهم التحولات التي طرأت حديثًا على الحي الذي كانت تقطن فيه، وقضت فيه زهاء العقدين من عمرها، وبالتالي، تتحول القصة القصيرة إلى مرآة تعكس تحجُّر المكان وغلظة قلوب أهله الجدد، وكيف تحوّلنا بعد الاجتياح التجاري أو اجتياح السلع ونظام السوق من كائنات آدمية متحضرة إلى كائنات عابسة يائسة مكفهرة تقع تحت طائلة الضغط الزمني ودورة السوق والتسليع، وتقول بصراحة فاضحة: "في السيارات أزواج وراء الواجهة، تنضح وجوههم بأحوال روحية محبطة. راهنت ألا أجد على اثنين منها بسمة مشتركة وربحت الرهان"(ص134، عام الفيل).
• هنا تتحوَّل القصة القصيرة إلى خطاب ثوري هادئ، يلاحظ ويرصد ويحلل ويستنتج، وتصبح القصة القصيرة مرآة تعكس الواقع وتتفاعل مع الذاكرة فتقارن بين ما كان وما آلت إليه الأحوال من تدهور وإحباط.
إنَّها قصص قصيرة بحجم الكفّ، لكنّها تضمّ المجتمع ومواطنيه بهمومهم وقضاياهم اليوميّة الضاغطة.
- - - - - - - - - - - - - - -
- أبو زيد، ليلى: عام الفيل وقصص أخرى، منشورات المتحدة للطباعة والنشر، مصر، ط4، 2000.
- أبو زيد، ليلى: الغريب، قصص من المغرب، منشورات المركز الثقافي العربي، ط1، 2002.
- أبو زيد، ليلى: بضع سنبلات خضر، أدب رحلة، منشورات بيسان، ط2، 2013.