الزبير مهداد
كاتب مغربي- باحث في التربية والثقافة
mahdad.zober@gmail.com
تُؤدّى رقصة البارود في عدة دول بالبلاد العربيّة والمغاربيّة، وهي مستمدَّة من التقاليد الحربيّة، وتُعرف باسم "التعشير" في الحجاز بالسعودية، و"البواردية" ببلاد المغرب الكبير. وهي رقصة جماعيّة، تؤدّى بلباس تقليدي محلّي، كما تكون مصحوبة بآلات الإيقاع من طبول ودفوف ومزامير، ويردِّد الراقصون خلالها أشعارًا وأهازيج تستحضر القيم الدينيّة وقيم النجدة والشجاعة والشهامة. بعض هذه الرقصات تستعمل السيوف والخناجر، وأخرى تستعمل العصي، ورقصات غيرها تستعمل البنادق، وكلها تتم على أنغام الآلات الموسيقيّة.
تبادل المغاربة التأثير والتأثر الثقافي مع الشعوب العربية عبر العصور، من خلال الرحلات والهجرات والمبادلات التجارية، وتجلَّت مظاهر ذلك التبادل في كثير من أساليب وطرق الأداء والتعبير الفنّي، وقد ساعد على تحقيق هذا التثاقف، وحدة الجغرافيا وانعدام الحواجز الطبيعية وسهولة التنقل في أرجاء بقعة جغرافية واسعة تمتد من الشام إلى المحيط الأطلسي(1). وعلى ضوء ذلك، يمكن تفسير وجود فنون وعادات وتقاليد متشابهة إلى حد التطابق بين هذه الشعوب. ومن هذه الفنون رقصة البارود التي تُعدُّ قاسمًا مشتركًا بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
تُعدُّ الرقصات الحربيّة في كثير من البلدان فولكلورًا ترفيهيًّا وتعبيرًا فنيًّا عن ثقافتها وتقاليدها الحربيّة وشجاعتها؛ فالرقصات الحربيّة تنطق بتاريخ هذه الشعوب، ومقاومتها للأطماع، وصدّها للغزوات الخارجيّة، وتعبِّر عن قيم الانضباط والتضامن والتكافل التي تسودها.
بعض هذه الرقصات تستعمل السيوف والخناجر، وأخرى تستعمل العصي، ورقصات غيرها تستعمل البنادق، وكلها تتم على أنغام الآلات الموسيقية.
وفي المقالة التالية، سنتناول بالعرض والتعريف رقصة البارود التي تُعرف باسم "التعشير" في الحجاز بالسعودية و"البواردية" ببلاد المغرب الكبير.
• التعشير
فن التعشير يمثل هويّة أهالي الحجاز، وبالخصوص منطقة مكة المكرمة، يعرف بأنه رقصة حربية قديمة، يشارك فيها الرجال الذين يقدمون في صفين أشبه بالطابور العسكري حاملين أسلحتهم "المقمع" ومرتدين اللباس التقليدي للمعشرين المسمى "المذولق"، والمجند، ويتوج رؤوسهم العقال "المقصّب"، تعلو وجوههم مشاعر الفخر والاعتزاز بهذا الموروث الذي يمثل إرثًا ثقافيًا تاريخيًا أصيلًا لأهالي المنطقة.
التعشير أشبه ما يكون بالعرض العسكري من حيث الترتيب والاحترافية والمهارة العالية وطريقة الأداء. يدخل المعشرون إلى الساحة بالتناوب. يمشون بطريقة معيّنة وبخطوات مرتبة واستعراضية تتناسق فيها الأدوار والمهام، وتؤدّى من شخص أو شخصين أو أكثر في وقت واحد(2).
هناك طرق متعددة للتعشير الحجازي، منها ما هو سهل يمكن للجميع استخدامه، ومنها ما هو صعب يتطلب احترافيّة وممارسة عالية للمعشر، ومن أشهر تلك الحركات حركة الجنب لليمين أو اليسار، وحركة الكفت وهي بإنزال البندق من أسفل الأقدام، وحركة الخلف وهي حركة صعبة لا يؤدّيها إلا المحترفون(3).
فالرقص بسلاح "المقمع" بطريقة أهل الطائف يتطلب إتقانًا فائقًا لطريقة حمل السلاح بشكل يضمن سلامة العارض، وأيضًا يتطلب احترافية في طريقة الاستعراض به. يقوم العارض بلف السلاح بمهارة عالية، ثم القفز إلى أعلى بشكل جمالي مسافة تضمن عدم تعرُّضه للأذى(4).
على العارض ألا ينحني من جسمه سوى حركات الركبتين وأسفل الجذع وأثناء الوثب في الفضاء، ثم يوجّه فوّهة بندقيته باتجاه الأرض بكلتا يديه، وبسرعة خاطفة يقوم بالضغط على الزناد، لينفجر البارود من تحت قدميه بصوت قوي ونار ملتهبة، مع تصاعد دخان يغطّي العارض بعض الوقت(5).
الأهازيج المصاحبة لفن التعشير، وخاصة في منطقة الطائف، تتلخص في لون شعبي مشهور بالرجز، يتغنى من خلاله الشاعر بكلمات تدعو إلى الفخر والاعتزاز، وتُؤدّى بلحن معيَّن مشهور في الحجاز(6).
• بوارديّة جبالة شمال المغرب
رقصة "البوارديّة"، وهي رقصة محاربين مشاة، يؤدّيها راقصون بالبنادق من قبيلة "الأخماس" الجبلية بشمال المغرب.
التقليد قديم تحييه القبيلة كل سنة، وهو طقس مكوّن لاحتفالات القبيلة بموسم الزاوية الريسونية، في ساحة "وطاء الحمام" بمدينة شفشاون، وتكون القبيلة عادة مصحوبة بـِ"البْوارْدية" و"الغيّاطة" وفرقة موسيقية تقليدية، وخلال سيرها متوجهة إلى الزاوية، ترفع أدعية وابتهالات. ويطلق الراقصون بين الحين والآخر طلقات البنادق، كلما وصلوا حيًّا أو تجمُّعًا سكنيًّا. حتى يبلغوا مكان الاحتفال "وطاء الحمام" في شفشاون، حيت يؤدّي راقصو قبيلة الأخماس لوحات استعراضية مُعبّرة عن روحهم القتالية العالية، وفق تسلسلات دائرية، يقوم بها "البْواردية".
عروض "البواردية" تقام في عدة ساحات وأماكن، وخلال عدة مناسبات ومواسم زوايا أو حفلات. وتتم الرقصة مصحوبة بأهازيج شعبية "طقطوقة أو عيطة جبلية" على أنغام "الغايطة" و"الطبل"، وتجري عبر مراحل بما فيها الإعداد النفسي الجيد للمقاتل.
وتبدأ رقصة البارود الجبلية، بتنسيق مسبق، إذ يعمل "مقدم" الفرقة، في تنسيق مع المشاركين، على تحديد زمان ومكان التقاء المقاتلين، خارج القرية التي يتم فيها الرقص، وهي مرحلة مهمة في التحضير المسبق للراقصين، من خلال تجميعهم وتحفيزهم وضبط صفوفهم وعدّتهم، قبل التوجه مصطفين إلى مكان العرض. في صف شبيه باللواء العسكري المنطلق نحو ميدان الحرب، مسبوقين بفريق العازفين والمقدِّم.
في الطريق نحو ميدان اللعب، يشرع المقاتلون في إطلاق البارود مثنى، وفي ذلك تأكُّد من صحة السلاح وصلاحية البارود، وكفاءة المقاتلين، واستنفار للناس لأجل حضور الرقصة. وفي ساحة الاستعراض يشكل "المقاتلون" حلقة مغلقة يتوسّطها المقدّم قائد الفرقة، ويتولى إعطاء الإشارات للمشاركين في الرقصة، والتأكد من استعدادهم.
ولرفع معنويّاتهم، تؤدّي الفرقة الموسيقية المصاحبة بعض المواويل والمقاطع الزجلية الغنائية الحاملة لمضامين تحثّ على الجهاد والشجاعة والصبر، وتتغنّى بالأمجاد الغابرة، هذه المقاطع يطلق عليها لفظ "العياع"، يتناوب المقاتلون على ترديد تلك المقاطع المتنوّعة لرفع المعنويات والهمم.
بعد تأكُّد القائد من تأهُّب المقاتلين للمعركة، يطلق صيحته "وا هيا لولاد"، بصوت عال، إعلانًا منه لحالة الاستنفار العسكرية أو التعبئة الشاملة التي تكون مقرونة بحركات ورقصات معيّنة والأصبع على الزناد، وهو ينقل بخفة يديه الممسكة على السلاح من الجهة اليمنى إلى اليسرى.
ولمّا تنطلق الإشارة يصوِّب المقاتلون بنادقهم ويعملون ما في وسعهم لإخراج الطلقة في آن، وإذا تأخر أحدهم في إطلاق طلقته، تنطلق صيحات الاستهجان من قبل الجمهور إعلانًا عن الامتعاض.
حال البواردية إذن، ضرب البنادق والأصوات المرتفعة والتهليل والتكبير وترديد الأناشيد والصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إطلاق البارود في الاتجاهات المرسومة، تحت قيادة واحدة، في لحظات حاسمة، والقوم مرتدون زيّهم الجبلي التقليدي، الذي يتألف أساسًا من الجلابيب الصوفية البنية، والعمامة الصفراء والبلغة، وسائر مكوّنات الحلية الجبلية التقليدية اللطيفة.
• بارود المولد بصحراء الجزائر
تُعدُّ رقصة البارود عامل جذب سياحي مهم في صحراء توات بالجزائر، وتحظى فيها فرقة قصر "زاوية كنتة" بشهرة كبيرة بسبب أدائها المتميز، إلى جانب فرقة قصر "بوعلي"، ففي جميع المواسم والحفلات الدينية تحضر الرقصة التي يشارك فيها عدد من الفرق الوافدة من القصور المتقاربة، ويطلق عليها لفظ "الفزوع" وهو مصطلح حربي، يعني الفرق المقاتلة المتطوعة التي تدعم الجيش النظامي.
تمرُّ هذه الرقصة الجماعية الرجالية بثلاث مراحل:
في البداية يجتمع الراقصون بالزجّال "الصياغ" الذي يؤلف "الصيغة" وهي النص الزجلي الذي يردِّده المشاركون في الرقصة، وهو ليس قصيدة واحدة، بل عبارة عن أبيات منفردة، موزونة ومقفّاة، تتألف من صدر وجذع، ويجب أن تتلاءم القافية مع إيقاع الرقصة، ويكون سهل الحفظ، حتى يردِّده الراقص بسهولة، ويؤدّي معه "الركزة" (ضربة الرجل) بشكل جيد.
بعد حفظ أبيات "الصيغة" يبدأ الراقصون في التراص، ليشكلوا صفًّا واحدًا، ثم يتوجهون رقصًا نحو ميدان الفرجة، مردّدين الصيغة، وفي الميدان، يشكلون حلقة، يرقصون أثناء دورانهم من اليمين إلى اليسار، مواصلين ترديد الصيغة، بعد انقسامهم إلى قسمين، يردِّد كل قسم مقطعًا من البيت الزجلي، بالتناوب.
أمّا فرقة الزفافنة فتتوسَّط حلقة الراقصين، وتتولى الضرب على الدفوف، وتتكوّن في الغالب من خمسة أشخاص أو أكثر، بحسب عدد الراقصين، وتتكوّن من ضارب على "أقلال" أو الزفان الكبير، و"الخلاف" و"تبقاي" كما يكون من بينهم "الزمار" و"حامل لعلام" حامل الرّاية.
أما حاملو البنادق، الذين يتوسطون الحلقة أيضًا، فهم المتحكمون في الرقصة، وتنظيمها، ويرقصون في وسط الحلقة، ويكون من بينهم قائد الفرقة "القراص" الذي يمكث في الحلقة حتى آخر لحظة، يقود الراقصين، ويحفزهم، ويضبطهم، ويسرع إيقاع الرقصة، وحين يصل إلى الذروة، يتراجع العازفون إلى الخلق، وتتوجّه أنظار الراقصين حاملي البنادق إلى القراص، الذي يعطي الأمر بإطلاق البارود إيذانًا بنهاية الرقص، ويجب أن تكون طلقات جميع البنادق متزامنة، في لحظة واحدة يشارك فيها الجميع، وهو شرط نجاح الرقصة.
تدوم الرقصة حوالي الساعة، أو أقل أو أكثر قليلًا، يستريح بعدها الراقصون، ليخلفهم راقصون آخرون من فرقة أخرى، وهكذا دواليك.
يجب أن يرتدي المشارك في رقصة البارود، اللباس التقليدي للمناسبة متمثلًا في العباءة والشاش الأبيض والحقيبة؛ التي يحمل فيها البارود والمعروفة بالزعبولية، بالإضافة إلى بندقية الفانتازيا.
• زقايرية الجنوب التونسي
في الجنوب التونسي، والمناطق المحاذية لها في الجزائر، تمارس رقصة الزقايري، ويؤدّيها راقصون ذكور، بشكل فردي أو ثنائي أو جماعي. الرقصة ذات إيقاع ثنائي، حين يكون الأداء جماعيًّا، فينقسم الراقصون إلى فرقتين، ويرقصون متقابلين، ثم يلتئمون، ويرقصون معًا على قدم واحدة، يرتكزون عليها، مشكلين عدة حركات، بالتقابل والتماثل والدوران، مع هزّ الأكتاف، والجثو واللعب بالسلاح بتوجيهه نحو الأرض، ثم نحو الأعلى، وتبلغ الرقصة ذروتها عند إطلاق الراقصين النار من بنادقهم مرة واحدة. على أنغام "الزرنة" أي المزمار والطبل، أو "البندير" أي الدف، و"المرجوع"، وهو مزمار عشاري به عشر فتحات.
إطلاق البارود من بندقية الصيد "المقرون" تعدُّ إحدى لوازم رقصة "الزقايري"(7)، وقد تؤدّى في مناطق أخرى أحيانًا دون بنادق، بل يستعيضون عنها بأغصان النخيل بعد نزع جريدها.
والراقصون يلبسون لباس الفرسان التقليدي، وهو سروال تقليدي أسود مطرّز بالأبيض، وقميص أبيض، وعمامة بيضاء، وحذاء أبيض، هذا اللباس يحقق وحدة الراقصين.
• الخاتمة
إنَّ رقصة البارود التي تؤدّى في عدة دول بالبلاد العربية والمغاربية، تعبِّر عن الشهامة والشجاعة، وقيم النجدة، والرقصات كلها تشترك في عدة عناصر، منها أنها جماعيّة، تؤدّى بلباس تقليدي محلّي، يتشابه من عدة أوجه، وتكون البنادق كلها تقليدية، والبارود يُصنع محليَّا بالمكوّنات والطرق نفسها، كما تكون الرقصة مصحوبة بآلات الإيقاع من طبول ودفوف ومزامير، ويردِّد الراقصون خلالها أشعارًا وأهازيج، تستحضر القيم الدينية، وقيم النجدة والشجاعة والمواطنة.
كل هذا يدلّ على أنَّ الرقصة بتصميمها وحركاتها وإيقاعاتها وأزياء الراقصين وغير ذلك كله، مستمدَّة من التقاليد الحربية للمنطقة التي وجدت نفسها عبر تاريخها الطويل في مواجهة خصوم أشاوس، ينبغي مواجهتهم بهمّة وشجاعة.
• الهوامش:
(1) محسب، حسام: نماذج من أهم أشكال الرقص الشعبي العربي، مجلة الثقافة الشعبية، البحرين، ع1، (يونيه 2008)، ص67.
(2) تقرير قناة العربية التلفزيونية: https://www.alarabiya.net/ar/saudi-today/2019/01/04/التعشير الحجازي من الاستعراض العسكري إلى فن للفرح.
(3) المرجع نفسه.
(4) صحيفة الحياة: http://www.alhayat.com/article/762254/-التعشير-رقصة-السلم-والحرب-تبدأ-ب-الطبول-وتنتهي-ب-البارود.
(5) تقرير قناة العربية التلفزيونية، مرجع سابق.
(6) صحيفة الحياة، مرجع سابق.
(7) صفية عزوز: مجلة الثقافة الشعبية، ع34.