د. جورج طريف
باحث ومؤرخ أردني
tareefjo@yahoo.com
تظلُّ كتب الرحّالة من المصادر الأساسيّة لدراسة تاريخ منطقتنا بحيث لا يستغني عنها أيّ دارس أو باحث في تاريخ الأردن. لكن، وعلى الرّغم من أهميّة المعلومات التي توفّرها كتب الرِّحلات إلا أنه يتعيَّن على الباحث التَّعامل مع هذا المصدر التاريخي والجغرافي وحتى الأدبي بحذر شديد ودقة متناهية؛ إذْ نجد بينهم مَن يجانب الحقيقة أحيانًا بقصد أو بغير قصد، أو مَن يسيء فهم الأحداث التي شاهدها. ومن الضروري للباحث في هذه الكتب إخضاعها لمنهج البحث العلمي التاريخي ومقارنة المعلومات الواردة فيها مع غيرها من المصادر ومع ما يتمّ الكشف عنه من وثائق تاريخيّة بين الحين والآخر لتصبح الفائدة أعمّ وأشمل.
تُعدُّ كتب الرِّحلات أو كتابات الرحّالة من المصادر المهمة للباحثين والمهتمين والدارسين في تاريخ البلدان التي زاروها، وشهدت شرقي الأردن نشاطًا واسعًا للرحّالة الأجانب الذين جابوا المنطقة من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، وكتبوا ملاحظاتهم ومشاهداتهم عن كل مدينة أو بلدة أو قرية أو خربة أو موقع أثري، ونشروا نتائج أبحاثهم ورحلاتهم في كتب مستقلّة أو على شكل مقالات نُشرت في عدة مجلات من أهمها: Palestine Exploration Fund Quarter (مجلة صندوق التنقيب عن الآثار في فلسطين).
وتكمن أهميّة كتب الرِّحلات كونها تعطي معلومات قيّمة من النواحي السياسية والأمنية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والصحية والتعليمية حول المواقع والقرى والبلدات التي زارها الرحّالة، وتقدِّم وصفًا دقيقًا للحارات والمحلات والمساكن والبيوت والدكاكين والطواحين والمساجد والكنائس والمدارس، كما تذكر المحاصيل الزراعية بمختلف أنواعها والسلع التجارية وطرق التجارة والقوافل والصناعات والحرف اليدوية وغيرها.
وعلى الرّغم ومن أهميّة المعلومات التي توفرها كتب الرِّحلات إلا أنه يتعيّن على الباحث التعامل مع هذا المصدر التاريخي والجغرافي وحتى الأدبي بحذر شديد ودقة متناهية؛ إذ نجد بينهم مَن يجانب الحقيقة أحيانًا بقصد أو بغير قصد أو مَن يسيء فهم الأحداث التي شاهدها، ويجب ألّا يغيب عن بالنا أنَّ هؤلاء الرحّالة هم من الأجانب الذين لهم أهدافهم من زيارة تلك البلدان والتعرُّف على طرق معيشتهم وعاداتهم وتقاليدهم خاصة وأنَّ نسبة لا بأس بها منهم كانوا من الخبراء العسكريين أو من رجال الدين الذين كانوا يبحثون عن مواقع توراتية في شرقي الأردن تروِّج لادِّعاءاتهم الباطلة من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ الرحّالة الذين كانوا يجوبون مناطقنا يعتمدون على أدلّاء من أبناء تلك المناطق وهؤلاء أيضًا لهم أهدافهم وميولهم التي لا تعطي معلومات دقيقة وتجانب الحقيقة أحيانًا وربَّما يزوِّدون الرحّالة بها، ومن الضروري للباحث في هذه الكتب إخضاعها لمنهج البحث العلمي التاريخي ومقارنة المعلومات الواردة فيها مع غيرها من المصادر ومع ما يتمّ الكشف عنه من وثائق تاريخية بين الحين والآخر لتصبح الفائدة أعمّ وأشمل.
لكن، وعلى الرّغم من ذلك كله، تبقى كتب الرحّالة من المصادر الأساسية لدراسة تاريخ منطقتنا بحيث لا يستغني عنها أيّ دارس أو باحث في تاريخ الأردن، مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ وصف الرحّالة للمدن والبلدات والقرى التي مرّوا بها في شرق الأردن وأهلها كان يمثل وجهات نظر؛ وقد تختلف رؤية كل منهم عن الآخر تجاه مشاهداتهم وملاحظاتهم، مثلما تختلف هذه المشاهدات والملاحظات بحسب الفترة التي يكون قد زار فيها الرحّالة منطقة معيَّنة من شرقي الأردن، فزيارة رحّالة منطقة في الشتاء تختلف المشاهدات فيها عنها في فصول الصيف أو الربيع أو الخريف... وهكذا.
• رحّالة زاروا شرقي الأردن
لم يستطع أحد من الرحّالة الأجانب اجتياز نهر الأردن باتجاه الشرق قبل بداية القرن التاسع عشر الميلادي، وتركَّز اهتمامهم على السواحل والمدن الرئيسة التي يتوفّر فيها الأمن غرب النهر، خصوصًا وأنَّ منطقة شرق الأردن لم تكن آمنة ولم تتمكَّن الدولة العثمانية من إخضاعها لسيطرتها المباشرة بما لديها من قوات وإمكانات، وإنَّما كانت خاضعة لزعماء القبائل الذين سيطروا على الطرق والممرّات التي تصل بين المدن والقرى وطرق التجارة.
زار عدد كبير من الرحّالة الأجانب(1) شرقيّ الأردن في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين على فترتين متباعدتين، الأولى: قبيل مجيء محمد علي باشا للمنطقة (1830-1840) والثانية: بعد خروجه منها. وكانت رحلاتهم بدعمٍ من "صندوق الكشف عن فلسطين" Palestine Exploration Fund.
مرَّ على منطقة شرقي الأردن قبل مجيء إبراهيم باشا إليها وإخضاعها لحكم محمد علي باشا كل من الرحّالة الألماني "سيتزن" عام 1806 والسويسري "بيركهارت" عام 1812 والبريطاني "بكنجهام" عام 1816، ثم انقطعت الرِّحلات إلى شرقي الأردن، لتنشط من جديد بعد مرحلة التنظيمات العثمانية وتستمر حتى بداية الحرب العالمية الأولى، ويبدو أنَّ السبب في ذلك يعود إلى أنَّ فترة الخمسين سنة من 1816 إلى 1866م كانت مليئة بالأحداث السياسية على المستوى العالمي والحروب التي شاركت فيها الدولة العثمانية وكان صراعها مع القوى الكبرى في تلك المرحلة (فرنسا وبريطانيا). وشهدت سنوات الحرب العالمية الأولى وما تلاها، أحداثًا كبرى على مستوى العالم والوطن العربي حالت دون قدوم المزيد من الرحّالة إليها.
كان الألماني "سيتزن" Seetzen أوَّل رحّالة أوروبي يزور شرقي الأردن، وهو أوَّل مَن لفت نظر العالم الغربي لمدينة جرش، وزار الكرك وتحدَّث عن المدينة الصخرية (البتراء) وقدم إلى مدينة السلط من جهات حوران وعجلون في آذار عام 1806-1807م، وقال: "إنَّ مدينة السلط هي البلدة الوحيدة المأهولة بالسكان من نهر الزرقاء شمالًا وحتى بلاد الكرك جنوبًا وإنَّ البلدان والقرى الأخرى مهجورة وخربة"(2).
وتلا "سيتزن" الرحّالة السويسري الشهير "جون لويس بيركهارت" الذي مرَّ على شرقي الأردن عام 1812 وسجّل ملاحظات في غاية الأهميّة عن القرى والمدن الأردنية في تلك الفترة المبكرة، وكيف كانت أحوالها، وتفاصيل حياة أهلها في مناطق غور الأردن وسهل حوران، وجرش وإربد والحصن وأم قيس، وعجلون، والسلط وعمّان والفحيص والكرك والطفيلة والقرى والخرائب التابعة لها، كما زار وادي موسي ومعان ودخل البتراء كأوَّل أوروبي يكتشفها، ثم جاء بعده الرحّالة الإنجليزي "بكنجهام"(3) الذي زار شرقي الأردن في شباط- آذار 1816، وزار الكاهن البروتستانتي "ف. كلاين" Klein شرقي الأردن قادمًا من القدس، وتواجد فيها منذ عام 1851 أي بعد 35 سنة من زيارة الرحّالة الذي سبقه للمنطقة، وتبعه عدد كبير من الرحّالة نذكر منهم: "نورثي" Northey.A.E وهو صاحب كتاب "بعثة إلى الشرق من الأردن" Expedition to the East of Jordan، الذي زار شرقي الأردن في عام 1872، وذلك بتمويل من صندوق الكشف عن فلسطين P.E.F(4). وهناك كتاب "أرض مؤاب، رحلات واستكشافات في الأردن والجانب الشرقي للبحر الميت" للرحّالة الإنجليزي "تريسترام" وصدر لأوّل مرّة عام 1873(5)، ويتناول رحلة تبدأ من القدس إلى الخليل، ومن هناك إلى عين الجدي ثم غور الصافي والكرك والربة وشيحان، وصولًا إلى ذيبان وأم الرصاص وخان الزبيب وقصر المشتى وزيزيا والقسطل وماعين والبحر الميت ومادبا، وصولًا إلى عرب البلقاء وعودةً إلى حسبان ثم القدس، والمهم في هذا الكتاب ليس الوقوف عند مرجعيّته التوارتيّة التي تبدو في التفاصيل كافة، بل ما يقدِّمه المؤلف من وصف دقيق لبعض الأحوال الاجتماعية والديموغرافية أهمها حديثه عن الكثافة السكانية وما يصفه من كثرة الناس في منطقة البلقاء والأغوار والسهول، علاوة على ما يقدِّمه من معلومات عن مهن الناس وأنماط إنتاجهم وعلاقاتهم الإنتاجية، ومعلومات أخرى حول التكوين الجيولوجي للمناطق التي زارها وأحوال المناخ وسطح الأرض. وهناك الرحّالة "سيلاه مِرِل" Selah Merril المتخصّص في الآثار وهو أحد أعضاء "الجمعية الأميركية لاستكشاف فلسطين"، وقد عيّنته الجمعية للقيام بأبحاث أثرية في فلسطين وجوارها، فأبحر من الولايات المتحدة إلى بيروت صيف عام 1875، وقضى في سوريا ثلاث سنوات، قام خلالها برحلات مُتعدّدة مسح خلالها فلسطين وجزء كبير من شرقي الأردن. وألّف كتابًا تناول فيه مناطق عديدة من شرقي الأردن(6). وهناك أيضًا الرحّالة الإنجليزي "جورج آدم سميث" Smith.G.A الذي زار الأراضي المقدسة (فلسطين وما حولها) في عام 1880 تقريبًا، وكتب عنها كتابًا ضخمًا مليئًا بالتفاصيل عن الأرض والسكان، والكتاب بعنوان "الجغرافيا التاريخية للأرض المقدسة" The Historical Geography of The Holy Land(7)، والرحّالة "لورنس أوليفانت" الذي زار شرقي الأردن عام 1880(8)، والكولونيل البريطاني "كوندر" الذي زار شرقي الأردن عام 1882(9)، وهناك القس البروتستانتي الإنجليزي الذي جاء هو وزوجته إلى الكرك في 16 أيلول عام 1885 وأمضى فيها ما يقارب 10 سنوات وغادرها عام 1894م عندما دخلها الأتراك، وألّف كتابًا بعنوان lethaby of moab جمعه وأصدره باللغة الإنجليزية في لندن عام 1910 "توماس دورلي" ونشره في لندن "مارشال بروذرز"، والكتاب عبارة عن رسائل متبادلة بين عائلة "ليثيبي" وأصدقائها من رجال الإرساليّات البريطانية التي كانت تعمل في فلسطين وسوريا ولبنان يتحدَّثون فيها عن حياتهم في الكرك بالتفصيل مع العائلات الكركيّة، وقد قام كل من الأستاذ وديع القسوس والأستاذ جورج مصلح بترجمة الجزء الخاص بالكرك، وحصلتُ على نسخة منه Lethaby, Lethaby Of Moab, London, 1910. أما الرحّالة الألماني "جوتليب شوماخر" 1857-1925 وهو مهندس مدني وعالم آثار، فقد زار أكثر من منطقة عربية، ومنها منطقة شرقي الأردن، وبدعمٍ من "صندوق الكشف عن فلسطين" ودوّن هذا الرحّالة جَوْلاته عن شرقي الأردن خلال الفترة 1890-1891(10)، وهناك أيضًا الإنجليزي "روبنسون ليز" R.LESS الذي تجوّل في مناطق متعددة من الأردن ومن ضمنها عجلون وعمّان والسلط وذلك في الفترة 1890-1900، وسجّل جولاته هذه في كتاب بعنوان Life and adventure Beyond Jordan أو "ما وراء الأردن: حياة ومغامرات"(11).
وفي أوائل القرن العشرين كتب باحثان أميركيّان في أوَّل بعثة أميركيّة تزور الأردن عام 1902 وهما "وليم ليبي" و"فرانكلين هوسكين" تفاصيل رحلتهما إلى شرقي الأردن التي استمرّت مدة شهرين في كتابهما بعنوان "وادي الأردن والبتراء"؛ ما يمنحنا اليوم ثقة بأنَّ حجم الاهتمام بالمواقع الأردنيّة لم يكن مجرَّد اكتشاف معاصر، بل يبدو لمن تصفَّح هذا الكتاب حجم الوعي الغربي المبكر بأهمية هذه الأرض، ليس بالبُعد الديني فقط، بل أيضًا بالبُعدين السياحي والحضاري(12). وزار شرقي الأردن "جودريش فرير" الذي مرَّ به عام 1904(13)، والإنجليزي "فوردر" الذي زار المنطقة خلال فترة الحرب العالمية الأولى(14)، والفرنسيّان "جاسان" و"سافيناك" اللذان كتبا ملاحظاتهما نتيجة لسياحتهما المتكررة لمنطقة شرقي الأردن قبل الحرب العالمية الأولى عام 1914 وتعطي فكرة عن الأحوال العامة التي كانت سائدة في تلك الفترة في الكرك ومادبا وعمّان والسلط والقرى والبلدات التابعة لها(15)، و"ألويس موزيل" Alois Musil(1868- 1944) الذي ذاع صيته بوصفه مكتشفًا ومستشرقًا ورحّالة وكاتبًا تشيكيًّا، لكنَّ شهرته تعود باعتباره من أهم العلماء الأنثروبولوجيين الذين كتبوا عن البدو والبادية من خلال كتابه "الحجاز الشمالي"(16) بعد أن أعطته الأكاديمية التشيكيّة للعلوم والفنون منحة عام 1896 ترمي إلى القيام بأبحاث اكتشافية في بلاد البتراء العربية، تبعتها بعثة أخرى عام 1908، وتُعدُّ كتاباته من المصادر الأساسية للتعرُّف على تاريخ هذه البلاد وأحوال سكانها، وكَتَبَ عن العقبة والقويرة والحميمة ومدينة معان الحجازية والشامية وأهميّتها كونها تقع على ملتقى طرق مهمّة تؤدي إلى الديار الحجازية، كما تناول قبائل الحويطات وزعيمهم عودة أبو تايه وعلاقاتهم مع بني صخر والقبائل الأخرى والدولة العثمانية قبل قيام ثورة الكرك عام 1910(17). وتمثِّل السيدة الإنجليزية "جرترود بيل" صورة واضحة لروح المغامرة والتحدي والشجاعة، حيث جابت مناطق عديدة من سوريا ومن ضمنها شرقي الأردن ابتداء من عام 1899 وحتى عام 1922 وعاشت فترات مع قبيلتي بني صخر وبني حسن في مادبا والطنيب وحسبان والكرك ووادي موسى وعمّان والمفرق وأم الجمال، ودوَّنت ملاحظاتها عن عادات وتقاليد أهل المنطقة من خلال رسائلها(18). وهناك أخيرًا "سيبروك" الكاتب الأميركي الذي زار منطقة البلقاء والتقى بشيوخ بني صخر ودوَّن ملاحظاته عن عادات وتقاليد البدو في المأكل والملبس والأفراح والأحزان بشكل مفصَّل عام 1926(19).
وفيما يلي نماذج من كتابات الرحّالة في المجالات المختلفة:
• أوَّلًا: في المجالات السياسيّة والأمنيّة والإداريّة
أشار بعض الرحّالة الذين مرّوا في شرقي الأردن إلى التقسيمات الإداريّة والسياسية وتطوُّرات الأوضاع الأمنيّة فيها، وذكر الرحّالة الإنجليزي "بكنجهام" الذي زار شرقي الأردن عام 1816 التقسيمات السياسية الواقعة حنوبي دمشق وحتى نهر الزرقاء، حيث سمّى القرى والحدود التابعة لمناطق الغوطة، وبلاد حوران، وجيدور، والجولان، والقنيطرة، والكفارات، والسرو، وبلاد بني عبيد، والكورة، والوسطية، وجبل عجلون، ومعراض، والزويت، وذكر أنَّ جميع المنطقة الواقعة من القنيطرة وحتى الزرقاء واقعة في حكومة آغا طبريا(20). وزار منطقة جبل عجلون رحّالة أجانب كُثر، وخاصّة في الفترة 1864-1900(فترة ضعف الدولة العثمانية)، وكان اسم "عجلون" آنذاك يُطلق على المنطقة الواقعة بين نهر الزرقاء جنوبًا ونهر اليرموك شمالًا، وبين نهر الأردن غربًا وأطراف البادية شرقًا، وكانت تشمل المناطق الفرعيّة التالية :جبل عجلون، الكورة، الوسطية، بني جهمة، بني عبيد، السّرو، الكفارات، المعراض(21).
ونقل "روجان" عن الرحاله "كلاين" أيضًا وصفه للأوضاع الأمنية في منطقة البلقاء والتي كانت تمتد من نهر الزرقاء شمالًا إلى وادي الموجب جنوبًا ومن نهر الأردن غربًا إلى سكة حديد الحجاز شرقًا، أي أنَّ عمّان ومادبا والقرى التابعة لها كانت ضمن حدود قائمّقاميّة السلط(22)، وقوله: "إنَّ المنطقة كانت موحشة وتخضع لسيطرة شيوخ البدو، وخاصة البلقاء التي كانت منطقة المتمردين وقطّاع الطرق وترفض دفع الضرائب للدولة، وهي في الوقت نفسه ملجأ آمن للقتلة والمجرمين الذين يتهرّبون من الجيش التركي، ولا وجود لسلطة الباشا أو الحكومة فيها"(23).
وتحدَّث "بيركهارت" عن النزاع على الأراضي والمراعي والمياه بين قبيلتين أساسيتين هما العدوان وبنو صخر(24)، وتؤشِّر هذه الرواية إلى أنَّهما كانتا القوتين الرئيستين في البلقاء وأنَّ علاقات الجانبين كانت عدائيّة في معظم الأوقات على المراعي والمياه(25)، وعانت مدن وقرى شرقي الأردن كثيرًا من الفوضى وعدم الاستقرار وانعدام الأمن كونها تخضع لسيطرة القبائل البدوية(26) التي تتنازع فيما بينها على مناطق الرعي والماء كما تشنّ من حين لآخر غزواتها على الفلّاحين في قُراهم(27). وفي الوقت الذي لم تستطع فيه الدولة إخضاع مناطق شرقي الأردن للسيطرة حتى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، قامت بالأمر الذي دفع الدولة إلى عقد اتفاق مع شيوخ القبائل القويّة التي تقيم على مقربة من طريق الحجّ الشامي، منحتهم بموجبه جوائز مالية تُسمّى "الصُرّة" مقابل حفاظهم على الأمن والإشراف على تخزين مياه الأمطار في البِرَك التي أقامتها الدولة على طريق الحجّ(28)، إلّا أنّ مشكلة الأمن لم تُحلّ حيث كان المسافر العادي المارّ في المنطقة بحاجة إلى دليل وحماية حتى يصل إلى غايته، مقابل مبلغ من المال(29)، ووصف "بيركهارت" السلط بقوله: "وسكانها يتمتعون باستقلال كبير وقد حاول باشاوات دمشق التغلب عليهم ولكن محاولاتهم باءت بالفشل"(30). أمّا "كوندر" فقد زار السلط بمعيّة أمير ويلز سنة 1882م وقال: "إنَّ السلط الآن مركز قائمّقام وفيها حامية عسكرية ولا ينتظر أن تتراخى قبضة الحكومة عنها بعد الآن أمّا في السابق فكانت شبه مستقلّة ولا تدفع الضرائب"(31).
وجرت أولى المحاولات لإخضاع البلقاء عام 1866، من أجل ترسيخ الأمن وحماية طريق الحجّ الشامي وأرسلت الدولة العثمانية حملة أخرى بعد هذا التاريخ(32)، ومنذ ذلك الحين بدأ نوع من الاستقرار يسود المنطقة بشكل تدريجي، ونزح عدد كبير من الفلّاحين من فلسطين والمناطق المجاورة الأخرى إلى البلقاء، فانتشرت الزراعة انتشارًا واسعًا وتمّ إنشاء المخافر ورابطت مفارز الجند في عدد من المواقع(33).
وقد عبّر "ترايسترام" عن التطوُّرات التي حصلت في السلط بعد إنشاء حامية عسكريّة بقوله: "عندما زرت المنطقة قبل ثماني سنوات 1865م كانت تشبه الكرك الآن، الحياة صعبة والسفر صعب.... ويدفع المسافر الخاوة، أمّا الآن "1873م" فقد أوجد والي دمشق حامية عسكرية... الفلّاحون وضعهم أفضل... التجارة جيّدة والأمن مستقرّ كفلسطين"(34).
ووصف "أوليفانت" وضع رجال الدرك وجباة الضرائب وتعاملهم مع أهالي المنطقة بقوله: "إنهم يسرقون القرى التي يحرسونها لأنَّ رواتبهم قليلة جدًا ولا يمكنهم الاعتماد عليها وإنهم عندما يدخلون القرى يُصاب الأهالي بالذعر والخوف، فيهرب الأطفال وتختبئ النساء عند دخولهم قرية من القرى، بينما يلجأ الرجال يصانعونهم ويتملقونهم ويقدّمون لهم الطعام والمبيت طيلة مدة إقامتهم ويقدّمون الأعلاف لخيولهم"(35)، في حين يقول "ميرل" إنه "شاهد في الحصن كوكبة من الجنود تتألف من ضابطين وثلاثين جنديًّا خيّالًا كانوا عائدين من سوف، ذلك أنَّ شيخ تلك القرية حاول أن يرفض دفع الضرائب الباهظة التي فرضتها الدولة مؤخرًا بسبب الحرب، ولكنه لم يلبث أن أذعن بعد أن استيقن أنَّ أهل قريته لا قبل لهم بمقاومة هذه القوة العسكرية"(36).
• ثانيًا: في المجالات الاجتماعيّة والاقتصاديّة
تناولت كتب الرحّالة أعداد السكان ودياناتهم وحاراتهم ومساكنهم وعاداتهم وتقاليدهم في مختلف المناسبات الدينية والاجتماعية في المناطق التي زاروها، وفيما يلي بعض الأمثلة لكتابات الرحّالة في بعض المدن والمناطق التي زاروها، ووردت أوَّل إشارة لعدد السكان لدى الرحّالة الألماني "سيتزن" الذي مرَّ في المنطقة عام 1806م و1807م وقدَّر عدد سكان السلط ما بين 1400-1500 شخص بينهم نحو 350 من المسيحيين، وقال إنَّ أهل المدينة لا يدفعون أيّ نوع من الضرائب في تلك الفترة ولم تطلها يد الجباة لفقدان الأمن وسيطرة العشائر في تلك الفترة على المنطقة(37)، أمّا السويسري "بيركهارت" الذي مرّ في المنطقة عام 1812م فقدّر عدد سكان السلط بـ400 عائلة من المسلمين و80 عائلة مسيحية(38)، وبذلك يكون عدد المسلمين نحو ألفي شخص بينما بلغ المسيحيون 400 شخص أي ما يقارب خمس السكان، وقدّر "تريسترام" الذي زار الكرك عام 1872م عدد سكان الكرك بثمانية آلاف نسمة بينهم 1600 مسيحي(39)؛ بمعنى أنَّ عدد سكان الكرك لم يتغيّر من عام 1872 وحتى عام 1885م كما أنهم تضاعفوا مرّة واحدة خلال 73سنة، أي منذ قدوم "بيركهارت" عام 1812م وحتى قدوم "ليثيبي" عام 1885م وهو الرقم نفسه الذي ذكره "ليثيبي"(40) الذي زار الكرك بعد ثلاث عشرة سنة من مرور "تريسترام" في المنطقة، في حين قدَّر "كوندر" عام1881 عدد خيام بني صخر بـ1505خيمة، أي أنَّ عددهم يتراوح ما بين 7500 و9000 نسمة، وأنَّ مضاربهم امتدّت بين جبل حوران شمالًا حتى أطراف جبل طويق القريب من عرب الحويطات جنوبًا ووصلوا في تنقلاتهم إلى وادي السرحان شرقًا(41) وطبريا غربًا.
وركَّز الرّحالة الذين مرّوا في المنطقة على العيش المشترك الذي يميّز حياة الأردنيين من المسلمين والمسيحيين الذين تركّزوا في مناطق شرقي الأردن كالسلط والكرك وعجلون وقراها(42)، وأكد "بيركهارت" على المساواة التامة التي يتمتع فيها أهل شرقي الأردن من مسيحيين ومسلمين بقوله: "وهم يعيشون سوية بمودّة ومساواة تامتين"(43) ويمارسون مختلف المهن التي كانت سائدة وتولوا الوظائف الحكومية، وتولى بعضهم مناصب عليا في الإدارة، وعملوا في التجارة والزراعة بكل حرية وتعاون(44)، وأكّد القس "كلاين" الذي زار قضاء عجلون عام 1868م(45) والعديد من الرحّالة الذين زاروا المنطقة على هذا الأمر.
وفي الجانب الاقتصادي انتشر في معظم أراضي شرقي الأردن نوعان من الزراعة؛ الأوّل الزراعة المرويّة ويتركّز في الغور وبالقرب من الينابيع وعلى جوانب الأودية، كما يتميّز الغور بتربته الخصبة التي تختلط بالحجارة والأتربة الرسوبية التي تجرفها الوديان القادمة من الشرق(46)، ووصف "تريسترام" أراضي الشفا بقوله على سبيل المثال إنَّ أراضي مأدبا خصبة وهي طينية حمراء اللون خصبة جدًا برهنت على مرّ السنين المتعاقبة قدرتها على إنتاج كميات هائلة من الحبوب دون استخدام السماد، كما أنه يمكن غرس العصا فيها قدمين في أعماق التربة، كما زرع أهل المنطقة الحبوب بمختلف أصنافها كالقمح والشعير والعدس والكرسنة والأشجار المثمرة ومنها التين واللوز والبطم والنخيل(47) والخضار ومنها البندورة والبصل والثوم والبامية والباذنجان والقرنبيط والفجل والقرع والكوسا والبطيخ والخيار والفقوس، والدخان والذرة(48). ويقول "أوليفانت" عن الزراعة في السلط: "وجد السكان أنّ الاستقرار جذب إلى بلدتهم الغرباء من أصحاب رؤوس الأموال، فتحوّلت السلط بالتدريج إلى مستودع يوفّر البضائع لكل المنطقة الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن... وأنّ كل بوصة مربعة في وادي شعيب مستغلة ومزروعة ببناء السلاسل الحجرية المنظمة على المنحدرات"(49).
ويقول "ميرل" إنه يُنتَج في المنطقة المحيطة بالسلط أشهى أنواع العنب وألذها طعمًا، ويقول: "الحق يُقال إنني لم أذُق في أوروبا ولا في أميركا عنبًا أحلى وأطيب نكهة من عنب هذه البلاد ،ولم أرَ عناقيد في تينك القارتين بمثل حجم عناقيد العنب التي رأيتها"(50). في حين وصف "فرير" عنب السلط بقوله: "اكتشفنا أنَّ الزَّبيب الذي نستعمله في قوالب الكعك والمعجّنات في بلادنا والذي يسميه البقّالون (سلطي) يأخذ اسمه من السلط وهذا النوع من الزبيب صغير الحجم خالٍ من البذور... وأضاف: "وفي مطلع القرن العشرين كان من بين الصناعات المشهورة في المدينة نسيج البُسُط من صوف المواشي، بالإضافة إلى صناعات أخرى قليلة الأهمية ألا وهي صُنع المسابح من نوع من الشجر الشديد الصلابة والذي يكثر في جهات السلط.. لم يكن تجار السلط مَن يعملون فحسب في التوزيع والبيع في المفرَّق كما يُقال، بل كانوا وكلاء عالميين، ولعلَّ فلسطين هي أوسع أسواقه"(51).
أسهب الرحّالة "بيركهارت" الذي عاش في السلط من 3- 14 تموز 1812م في وصف الحياة الاقتصادية فيها ونوردها كنموذج عن الحياة الاقتصادية في شرقي الأردن حيث يقول: "القسم الأكبر من سكان السلط يعملون في الزراعة، وهناك بعض الأفراد الذين يشتغلون بالحياكة، وتتركّز الزراعة على الحنطة والشعير ويباع فائض الإنتاج إلى البدو.. وهناك مساحات كبيرة من كروم العنب ويُجفَّف العنب (الزَّبيب) ويُباع في القدس وتمتدّ الحقول المزروعة إلى مساحة ثمانية أميال". ويقول أيضًا: "ومن موارد الرزق الأخرى لأهل السلط في شهري تموز وآب يجمعون من جبال البلقاء أوراق السُمّاق ويجفّفونها وينقلونها إلى أسواق القدس"، أمّا عن تجارة القلو أو القلي (رماد الصابون) "فكانت تُجمع من نبات يدعى الدردار موجودة في الصحراء الأردنية خاصة في معان"، يقول "بيركهارت" إنَّ البدو كانوا يجمعون المادة ويؤتى بها إلى سوق يوشع وتقدَّر الكميات التي تصل سنويًّا إلى يوشع بحوالي ثلاثة الآف حمل جمل، كما أشار إلى أنه كان في السلط حوالي عشرين حانوتًا تبيع بالجملة بضائع لتجار الناصرة ودمشق ونابلس والقدس، كما تزوِّد البدو بأصناف اللباس والأثاث(52). أما "نورثي" فتحدَّث عن عجلون وقال: "يوجد في عجلون العديد من السهول ذات التربات الخصبة الصالحة للزراعة، والتي غالبًا ما تقطعها المرتفعات الحرجيّة من غابات البلوط والبطم، وقد عرفت هذه السهول منذ القدم بشهرتها في زراعة الأشجار المثمرة، وقد تعامل السكان مع الأرض معاملة جيدة وذلك بزراعة كل بقعة منها بما بناسبها من محصول وخاصة الكرمة والزيتون، حول مجاري الأودية توجد أنواع خاصة من الأشجار تسمى بالنباتات المائية مثل الحور والطرفا والصفصاف والدفلى"(53).
• الهوامش:
(1) ويأتي في مقدّمة هذه الكُتب:
كتاب الرحّالة بيركهارت 1227هـ/1812م.
Burckhardt, travellers In Syria and the holy land, London, 1822/1237.
Merrill (1270-1875), East of the Jordan London (1887 / 1299)
H-B- Tristram (1865-1282/1873-1290) the land of Mo,ab London, 1873/1290..
Oliphant, Lawrence(1879/1297) the land of Gilead, London "no date".
- Goodrich Freer, In a Syrian saddle (1903-1321) London 1905/1323…
- Arabis in Tent and town New York, 1924/1343..
(2) سيتزن، رحلة، ج 1، ص42. مقتبس من:
N.Lewis, Nomads and settlers in Syria and Jordan,1800-1890, Cambridge,1987,. London, p21
وانظر محمود أبوطالب، مصطفى الحياري، محمد عبدالقادر خريسات، تاريخ مدينة السلط عبر العصور، السلط، 2000م ص203.
(3) أبوطالب والحياري وخريسات، تاريخ مدينة السلط، ص216.
(4) Northey.A.E" Expedition to the East of Jordan" P.E.F London.jan1872.p68-71
(5) Tristram, The land of Moab p159
(6) Merrill, East of the Jordan, PP) 207، 405-408
- Smith.G.A(1896)"The Historical Geography of the Holy Land"Hodder and Stoughton
(7) ltd.London,pp322.336,521-522
(8) Oliphant, Lawrence , The Land of Jelead,P246-252
(9) ترجمة سليمان الموسى، عمّان، 1974، ص107.
(10) Shumacher.G."northern Ajlun Within the Decapolis" Palestine exploration fund, London,1890 , pp24-60
(11) Less.R(1906) " Life and adventure Beyond Jordan" charles H.Kelly.London,pp.111-1197
(12) قام بتعريب وتحقيق هذا الكتاب أحمد عويدي العبادي ونشره في عمّان 1-1-2005.
(13) Freer, in a Syrian saddle, P) 155.
(14) A Forder, Petra Phoenieia, Marshal Brothers Ltd, London and Edinburgh, , P10-72
(15) سليمان الموسى(مترجم ومؤلف)، غربيون في بلاد العرب، عمّان، 1969، ص55-62.
(16) The Northen Hejaz by Alois Musil,New Yourk,1926)
(17) الموسى، غربيون، ص30-46.
(18) The Letters of Gertrude Bell,2Volumes,by Lady Bell, London,1927.) الموسى، غربيون،ص78-102.
(19) الموسى، غربيون، ص142- 152.
(20) أبوطالب والحياري وخريسات، تاريخ مدينة السلط، ص216.
(21) -Northey.A.E.""Expedition to the East of Jordan" Palestine Exploration Fund) (Qurterlystatment.London,1972.p.68
(22) سالنامة ولاية سورية،1299هـ/1881م،ص234-235،وسنة 1315هـ/1897م ص265وسنة 1317هـ/1899م،ص361.
(23) Rogan, PP26-27.
(24) Burckhardt,p367-369
(25) Conder, PP292-293, Tristram , Pp191,399
, Rogan, Al Salt , Jabal Ajlun and the advent of Direct Ottoman Rule, 1286-1868, 1988 Vol"X P32-33 Tristram,
(26) The land of Moab , P159-192-193,
Merrill, East of the Jordan, London, (1887) P378
(27) Burckhardt, , P348
(28) جورج طريف، السلط وجوارها، ط1،عمّان 1994م، ص195-202. Condor P170
(29) Conder, PP 166-167, Tristram , P45
(30) بيركهارات، ص79.
(31) ترجمة سليمان الموسى، عمّان، 1974، ص107.Conder, Heth and Moab,
(32) Valentine, P282, Rogan, P40
(33) Conder, , P138 Tristram, P159
(34) Tristram, ,P159
(35) Oliphant, the land of Gilead,p120-126
(36) Oliphantthe land of Gilead,"p 104-105Merrill, East of the Jordan,p375
(37) جورج طريف، السلط وجوارها، ص195 وما بعدها.
(38) Burkhart, PP349-351
(39) Tristram,The land of Moabp 159
(40) ليثيبي، ص41-59.
(41) Conder297-298,295
(42) محمد عدنان البخيت ونوفان الحمود، دفتر مفصل لواء عجلون (970) منشورات الجامعة الأردنية، 1990م، ص101. وانظر أيضًا هند أبوالشعر، تاريخ شرق الأردن، ص50، محمد عبدالقادر خريسات، المسيحيون في قضاء السلط 1869-1920م، 2012، ص148.
(43) رحلات بيركهارت في سوريا الجنوبية،ج2، ترجمة أنور عرفات، 1969، عمّان، ص78. يشار إليه بيركهارت.
(44) Burkhart, PP349-351
(45) Rogan, Al Salt PP.31-37
(46) Taimeh, Awny, Land Resources in Jordan.Amman,1990, P.113-120
(47) Tristram,p272-273
(48) Tristram,p271.302, 303-323
(49) أبوطالب، الحياري، خريسات، ص251-255.
(50) سيلاه ميرل، إلى الشرق من الأردن، ص19-20.
(51) Freer, in a Syrian saddle, P155
(52) بيركهارات، ص79.
(53) Northey.A.E" Expedition to the East of Jordan".p68-71