د. أمجد ممدوح الفاعوري
محاضر غير متفرِّغ- الجامعة الأردنية
مدير الخدمات المكتبية والإيداع- دائرة المكتبة الوطنية
شهدت العقود الأخيرة الماضية اهتمامًا متزايدًا بالسجلّات التي تشكِّل دراستها مصدرًا مهمًّا لكتابة تاريخ الأردن المحليّ، فبعد فتح باب السجلّات (سجلّات المحاكم الشرعيّة ودفاتر الطابو وسجلّات التسوية وسجلّات الأديرة والكنائس والأوراق المحليّة ودفاتر مقرّرات المجالس البلديّة والوقفيّات والمدارس) بدأ الباحثون يتعرَّفون إلى مصادر جديدة ساعدت على تقديم رؤية محليّة مباشرة كانت تغيّبها دراسات التاريخ التي تعتمد الوثائق الغربيّة فقط. وتمثَّلت هذه التجربة بتحقيق وطباعة ونشر السجلّات المتنوعة والتي تكتنز بتفاصيل الحياة اليوميّة، وتحمل الخصوصيّة التي لا نجدها عادة في المصادر التقليديّة.
تُعتبر الوثائق الرَّكائز الأوليّة في الكتابة التاريخيّة، ومن هذا المنطلق نقول دومًا: "لا تاريخ من دون وثائق"، والوثيقة بحدّ ذاتها لا يدرك قيمتها إلا مَن عرف التاريخ ومواضيعه، ومنهجه وأدوات بحثه، فكم من وثيقة أُتلفت، أو لم يهتمّ بها أحد، وهي مفتاح لأمر ما، سواء كان ذلك من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الإدارية. وفي العُرف التاريخي تبقى الوثيقة أو المادة التاريخيّة بشكل عام ميتة إلى أن يأتي المؤرِّخ والباحث فيبعثها من جديد، ويضع الحياة فيها بالدراسة والتحليل والنقد إلى غير ذلك من الأمور. وقد جاءت دراسات "برنارد لويس" B.Lewis في مطلع الخمسينات من القرن الماضي عن الأرشيف العثماني، وأهميّته كمصدر لتاريخ الولايات العربية في العهد العثماني، علامة فارقة في توجيه أنظار الباحثين نحو أهمية هذه الوثائق منبهرين بما يتوافر فيها من معلومات تاريخية، فهذه الوثائق على تنوُّعها وحقبها تحمل مصداقيّة كبيرة لدينا، فهي أقدر على تقديم النبض اليومي لحياة الناس، وعلاقتهم بالدولة، وفهمهم لطبيعة الحكم المحلّي. فمن خلالها تمكَّن الباحثون من قراءة الواقع الاقتصادي والاجتماعي والعمراني والإداري بدقة وعمق من خلال فحواها الذي يعكس الصورة الحقيقية للحياة اليوميّة والتي تغفلها عادة المصادر الأخرى، فتفسّر لنا المعطيات على الأرض بدرجة كبيرة من الاطمئنان عن تاريخنا.
لقد شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا بالغًا بدراسات التاريخ المحلّي في الأردن، وجاء هذا الاهتمام متزامنًا مع البحث عن المصادر المحليّة ونشرها ودراستها، وكان للمؤسسات الأكاديمية الدور الأكبر في توجيه الطلبة والدارسين نحو هذا التوجُّه المحمود. وبعد فتح باب السجلّات، وعلى رأسها سجلّات المحاكم الشرعيّة ودفاتر الطابو وسجلّات التسوية وسجلّات الأديرة والكنائس والأوراق المحلية ودفاتر مقررات المجالس البلدية والوقفيات والمدارس ظهرت مجموعة من الدراسات الأكاديمية تمكَّن الباحثون والطلبة خلالها من المزاوجة بين المصادر المتعددة ودراستها بعمق ومنهجية، وبذلك بدأنا نتعرَّف إلى مصادر جديدة ساعدتنا على تقديم الرُّؤية المحليّة المباشرة التي كانت تغيّبها دراسات التاريخ التي تعتمد الوثائق الغربيّة فقط. وتمثَّلت هذه التجربة بتحقيق وطباعة ونشر هذه السجلّات المتنوعة والتي تكتنز بتفاصيل الحياة اليوميّة، وتحمل الخصوصيّة التي لا نجدها عادة في المصادر التقليديّة.
تمثِّل دراسة هذه السجلّات، بكافة أوعيتها المعرفيّة، توجُّهًا مدروسًا لإسناد الدراسات السابقة وتعميقها بمعلومات مباشرة ودقيقة وغنيّة للواقع الاجتماعي والاقتصادي والإداري والعمراني للبلاد، كما تمثِّل هذه المصادر محاولة لكتابة تاريخ البلاد في بداية تكوين الدولة الحديثة. ولأهمية ما سبق شهد عام 1990 بداية الخطوة الحاسمة والرّاسخة في توجه أقسام التاريخ في الجامعات الأردنيّة طلبة الدراسات العليا لاختيار موضوعات تتناول تاريخ الأردن اعتمادًا على الأرشيف العثماني. ويعود الفضل في تشكُّل هذه المدرسة إلى الدكتور محمد عدنان البخيت، الذي كان الطلبة يعملون تحت إشرافه.
إنَّ خطَّ هذه المدرسة الجديدة بدأ بفتح الأرشيف العثماني، المُصوَّر جزء كبير منه في "مركز الوثائق والمخطوطات" بالجامعة الأردنيّة، ودراسته، والمزاوجة بين هذه المصادر التي فُتحت أمام الباحثين للمرَّة الأولى، ومنها سجلّات الطابو العثمانية، وسجلّات تسوية الأراضي، والمحاكم الشرعيّة، والنّفوس. وجاءت النتيجة بتأسيس مدرسة راسخة تقوم على دراسة عميقة للمكان وللأهالي والسلطة في فترة التنظيمات العثمانية، بحيث يمكن أنْ نقول: إنَّ تاريخ الأردن في العهد العثماني بدأ خطًا جديدًا وراسخًا، على أصول أكاديمية، بفتح الأرشيف العثماني، واتِّباع منهجيّة واعية، أصبحت هي المدرسة التي تابعتها الدراسات اللاحقة في العقود الثلاثة اللاحقة، وعُرفت بأنها مدرسة الدكتور البخيت.
بدأت جهود هذه المدرسة باهتمام الأكاديميين بالبحث عن مصادر تاريخ الأردن في العهد العثماني، فبدأت جهود لاحقة بنشر سجلّات المحاكم الشرعية، وسجلّات البلديات والنفوس ودفاتر الطابو.
وبحسب الدكتورة هند أبو الشعر، فإنَّ دراسات لطلبة الماجستير والدكتوراه، ظهرت لاحقًا في كل من الجامعة الأردنية وجامعة اليرموك وجامعة مؤتة وجامعة آل البيت، لدراسة تاريخ الأردن، على خطى المدرسة السابقة، وصارت تسمية "القصبات وجوارها" نموذجًا للدراسات اللاحقة، مثل "الفحيص وجوارها"، "مادبا وجوارها"، "المفرق وجوارها"، أو دراسة النّواحي؛ "ناحية المعراض" مثلًا وجرش. وقالت أبوالشعر: إنَّ المدرسة التاريخية التي تشكّلت بجهود البخيت، تمكّنت من ترسيخ قواعد جديدة، وذلك بفتح الأرشيف العثماني والبحث في المصادر المحلية، والاعتماد على دراسة السجلّات التي تقدّم مادة أوليّة ومباشرة ورسميّة، ومنها دراسة ملكية الأرض والضرائب والأهالي والحياة الاقتصادية والاجتماعية، بدراسة الحارات والمرافق والأسواق وملكيات الأراضي الزراعية والعقارات والضرائب والرسوم والمدارس والأوقاف والعلاقات الاجتماعية، مؤكدة أنّها مدرسة تجاوزت التركيز على الدراسات السياسية التي سادت في الخمسينات والستينيت. كل هذا على الرغم من أنَّ تلك الدراسات اتَّبعت منهجيّة واحدة ومصادر متقاربة، لكن سجلّات الطابو بقيت عصيّة على الدارسين نظرًا لصعوبة الحصول عليها، ولأنَّها باللغة العثمانية ويصعب التعامل معها، ولم يستخدمها غير هند أبوالشعر وجورج طريف والمرحوم نوفان الحمود السوارية.
وهنا يتوجَّب التفريق والتمييز بين الدراسات الأكاديميّة المنهجيّة وبين ما يُنشر من كتب تحت مسمّى "تاريخ الأردن"، فالمنهجية مطلوبة في كتابة التاريخ، وهي لا تتوافر إلا للأكاديميين المدرّبين، خصوصًا أنَّ الكثير من الكتب المنشورة باعتبارها تاريخ الأردن، تحاول الترويج لعائلات أو لشخصيّات. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها الأكاديميون لإلقاء الضوء على الواقع الاجتماعي والسياسي والجغرافيا السكانية للمنطقة في العهد العثماني، إلا أنَّ تاريخ الأردن في العهد العثماني ما يزال في بداياته، ذلك أنَّ الأرشيف العثماني لم يُفتح تمامًا، وهو أساس القراءة المنهجيّة، جنبًا إلى جنب مع الوثائق الغربيّة، وعلى رأسها الوثائق البريطانية.
تُعتبر السجلّات الشرعيّة من المصادر المهمّة في التاريخ الحديث والمعاصر نظرًا لما تحويه من معلومات متعددة ما بين إدارية وعمرانية واقتصادية واجتماعية وتربوية. وقبل الحديث عن أهمية السجلّات الشرعيّة لا بد من الإشارة إلى الأمور التالية: أن جزءًا من هذه السجلّات فُقد ولم يصل إلينا؛ إمّا فُقد نهائيًّا أو فُقد عدد من صفحاته، كما إنَّ عدد عقود النكاح (الزواج) لا يتناسب وحجم بعض المدن؛ وربّما يأتي هذا من أنَّ عددًا من الناس لا يوثِّقون عقود الزواج لدى المحاكم الشرعيّة ويكتفون بالإجراءات التي يتطلّبها الشّرع من حيث الطلب والقبول وشهادة الشهود وبيان الصداق (المهر).
إنَّ دراسة هذه السجلّات تؤِّشر على تاريخ البلاد بالأوضاع كافّة. ففي الجانب الاجتماعي هنالك إمكانية لدراسة فئات المجتمع وطوائفهم (مسلمون ويهود ونصارى)، وأصولهم والأماكن التي جاءوا منها، والمحلات والحارات التي سكنوا فيها، والتقاليد والعادات التي كانوا يؤمنون بها. كما أنَّها تزوِّدنا بمعلومات عن العشائر والحمايل والزواج والطلاق والمهور والإرث والوصاية والأوقاف والرعاية الاجتماعية للفقراء والمساجد والمرضى وأبناء السبيل والصلة بين المتزوجين. كما أنَّ هذه السجلّات مصدر مهم لمن يريد البحث في التاريخ الاقتصادي لدى الأفراد من خلال مبلغ المهر. وتقدّم لنا معلومات وفيرة عن أشكال الأراضي وطبيعتها الزراعية، ونوع التربة، والأشجار المغروسة فيها، وأثمانها والعيون والبساتين. وفي المجال الصناعي تشير هذه السجلّات إلى الطوائف والحرف والصناعات التي تشتهر بها البلد وذكر أثمانها. وفي المجال التجاري تشير السجلّات إلى الأوزان والمكاييل وإلى أنواع العملة المستعملة وأسعارها، والتجار الوافدون، والمواد المستوردة والمصدَّرة، كما تشير أيضًا إلى أنواع الحيوانات وأجرتها وأثمانها والقاعدة المتَّبعة في بيعها. وفي المجال العمراني تتحدَّث السجلّات عن الحارات والمحلات والإيجار والاستئجار وعدد الدكاكين وعن قنوات الصرف الصحي وشبكات المياه، والطراز المعماري وعدد الأوض –الغرف- والساحات والحمامات والمساجد والأديرة والكنائس والمدارس وغيرها. وفي المجال الإداري تزوّدنا السجلّات بأسماء الحكام الإداريين والقضاة ومدراء المال والكُتّاب ومجالس الإدارة، وأسماء المعلمين والمعلمات، ومدراء الأراضي والمساحة، والمخاتير والوجهاء. وفيما يتعلق بسجلّات تحرير النفوس فقد كان قيد النفوس في الدولة العثمانية يُسجَّل في الدفاتر وفق أرقام متسلسلة للعائلات بشكل عام، ومعها أرقام متسلسلة بأسماء الذكور وأسماء الإناث بالإضافة إلى خانات كثيرة موزَّعة على صفحة السجلّ تتضمَّن اسم رب العائلة واسم والده وجدّه وعائلته، وتاريخ الميلاد لكل واحد، وهل هو حيّ أو ميت، واسم الزوجة واسم الوالدة وتاريخ الميلاد، والأوصاف الجسمانية، وكيفية التسجيل إلى غير ذلك. وكانت الدولة العثمانية قد قامت بتدوين سجلّات النفوس لكل ولايات الشام منذ عام 1905م، ممّا أدّى إلى قيام ثورات في السلط وعجلون والكرك ومعان والطفيلة ممتدّة إلى العربان والتي كان أعنفها في منطقة الكرك. ويبدو أنَّ سكان هذه المناطق قد أتلفوا هذه السجلّات أيام ثوراتهم لأنَّ ثمة ما يشير إلى حصول التسجيل في المناطق التي قامت بها حركات احتجاج؛ فنرى أنَّ أهل الكرك رضوا بالتسجيل شريطة إعفائهم من رسوم التسجيل. وعلى أيّ حال فإنَّ سجلّ الشوبك يُعتبر سجلّ النفوس الوحيد الذي وصل إلينا في الأردن، ويتبعه السجلّات التي أطلق عليها اسم السجلّات الفيصلية في السلط، والتي تم إجراؤها أيام المملكة العربية بزعامة فيصل بن الحسين، ملك العراق فيما بعد. تقع السجلّات الفيصلية في ستة دفاتر، وفيها مسح شامل للعشائر المقيمة في السلط.
تنبع أهميّة هذه السجلّات من فحوى المعلومات المهمة التي تكتنزها من حيث الأنساب والجماعات السكانية ومهنهم وأوضاعهم. ومع أنَّ هذه السجلّات لا تُظهر الأرقام الدقيقة لعدد السكان، إلا أنها كانت مؤشرًا اجتماعيًا، بل واقتصاديًا يدلّ على معرفة السكان وأنسابهم، بالإضافة إلى دلالتها بشكل واضح على وضع الزيادة السكانيّة أو نقصانها، ففي حالة الزيادة لا بدّ من معرفة أسبابها هل هي زيادة طبيعية، أم أنها جاءت عبر الهجرات. أمّا في حالة النقصان فربّما يعود ذلك إلى الهجرات منها أو بسبب الأمراض والأوبئة والكوارث، وهو الأمر الذي يصعب التحقُّق منه إلا في حال وجود الوثائق المتعلقة بذلك.
وجاءت أهميّة دفاتر الطابو لما تتضمّنه من معلومات قيّمة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية. ففي الجانب الاجتماعي تقدِّم معلومات دقيقة لعدد السكان في القرى والنواحي، وعدد المسلمين والنصارى، وعدد العزّاب والأئمة والمؤذنين، وفئاتهم: فلاحين وبدو، والمعلومات الواردة فيه عن القبائل البدوية في شرقي الأردن على درجة من الأهمية، فهي تمثِّل الإطار العام للوجود القبلي في المنطقة، من خلال تعداد الجماعات التي تنتسب لكل قبيلة، وعدد الخانات، والمواشي، والرسوم المفروضة عليهم.
وفي الجانب الاقتصادي تساهم الدفاتر في رسم ملامح الحياة الاقتصادية للمناطق منذ مطلع القرن السابع عشر، وتتيح لنا معرفة ملكية الأرض وأنواع الضرائب والرسوم المفروضة على السكان ومقدارها، وأنواع المحاصيل الزراعية من الأشجار والحبوب والثروة الحيوانية، وتقدِّم لنا معلومات، وإن كانت شحيحة، عن الأسواق التجارية.
وفي الجانب العمراني تتيح دفاتر الطابو معرفة بعض المرافق العامة التي أقيمت في المنطقة، من خلال ما أوردته عن الجوامع وما أوقف عليها ليصرف في وجوه العمارة وفي دفع أثمان القناديل والحصر، وما أوردته عن الزوايا والمقامات والأضرحة والإشارات العديدة للطواحين التي تُدار بالماء وتتركّز في الأودية.
وتنفرد دفاتر الطابو من بين المصادر جميعها في المعلومات القيّمة التي قدَّمتها عن المعاصر التي كانت تستخدم لعصر الزيتون، وربّما لعصر قصب السكَّر الذي اشتهرت به منطقة الغور. ومن باب أهميّة المادة التي توفرها دفاتر الطابو نشير إلى ما له علاقة بالتقسيمات الإدارية، وأسماء البلدان والقرى وأسماء السكان بما في ذلك أبناء العشائر والجماعات. كما يدوَّن بها أسماء المزارع وقطع الأراضي، هذا بالإضافة إلى بيان أسماء أصحاب الإقطاعات. وترفدنا هذه الدفاتر بأسماء المحاصيل الشتوية والصيفية وأنواع الأشجار المثمرة ومن أهمها الزيتون الروماني والإسلامي، وتأتي على تعداد المواشي من الماعز والأغنام، ومقدار الرسوم التي كانت تجبيها الدولة ومَن يمثِّلها.
أمّا سجلّات البلديات، فتُعد سجلّات مقّررات المجالس البلدية من أهم المصادر المباشرة لدراسة قصبات المدن في الأردن في أواخر العهد العثماني ومطلع عهد إمارة شرق الأردن، وتلقي هذه السجلّات الضوء على العمران وعلى تركيبة السكان وفعاليّاتهم، وتبيِّن العلاقة بين الإدارة -الحكم المحلي- والأهالي؛ فهي من المصادر المباشرة التي تناولت تاريخنا المحلّي في العقدين الماضيين، وقد غيَّرت من الرُّؤية التقليدية لكتابة تاريخ الأردن، فبعد أن كانت الوثائق الغربيّة وعلى رأسها البريطانية، هي مصدر رؤيتنا لأنفسنا، وجدنا أمامنا الكمّ الهائل والمُعتبر من الوثائق المحلية التي لم يكن لها الحضور الذي تلاقيه المصادر المحليّة لدى الشعوب الأخرى. ومن خلال هذه السجلّات يمكن تقديم الحياة اليوميّة والإداريّة والتطوُّر الذي عايشته مؤسسات الحكم المحلي الأردنية، ضمن الحياة السياسية، وهو ما يعطي الباحث مدى من الرؤية المحلية لمتابعة الفعاليات المحلية عن قرب.
إنَّ دراسات هذه السجلّات تؤسِّس لحالة أكاديمية مستقبلية، فالبحث عن المصادر وتقديمها للباحثين مدروسة ومحقَّقة -كما تقول الدكتورة هند أبوالشعر- يساعد بالتأكيد على تشكيل رؤية شمولية ومباشرة ودقيقة نحتاجها في حياتنا الأكاديمية، خدمة للمنهجية وللوطن ولمتابعة المؤسسية في تجربتنا في هذا الوطن الغالي.
وتنبع أهميّة هذه السجلّات كونها توفر فرصة ثمينة لقراءة آمنة ومتوازية ومتنوعة لدراسة المكان والإنسان على حد سواء، نظرًا لثرائها بالمعلومات المباشرة والتي احتفظت بخصوصية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ومعرفة أحوال السكان وأعدادهم، ومساهمتها بتوفير دائرة معلومات متكاملة لأنواع الملكيات والأراضي ومصادر المياه والمرافق العامة من دور عبادة (مساجد وأديرة وكنائس) ومدارس وأسواق ودكاكين ومخابز وطوابين ومعاصر ومطاحن ومصانع ومقابر.
فسجلّات البلديات وقراراتها تحفظ لنا التاريخ المحلّي بخصوصيته وتنوعه وتميزه، وهي بذلك تؤرِّخ لحياة الناس اليوميّة وللمرافق والمحلات والبيوت، وتقدِّم لنا بالتالي علاقة الناس بالسلطة، وأسلوب إدارتهم للمكان والإمكانات، وتعاملهم مع الانتخابات، وظهور النُّخب الإدارية، وتحوُّلها إلى نخب سياسية. إنَّ أقدم تجربة في تأسيس المجالس البلدية لدينا هي قصبة إربد، وهي مع الأسف أتلفت. وتُعدُّ سجلّات بلديات السلط والكرك وعمّان ومعان ومادبا والزرقاء من أغنى المصادر، وقد تمَّ تناول بعضها من قبل الدكتور هاني العمد والدكتور محمد خريسات والدكتوره هند أبوالشعر والدكتور عبدالله العساف.
هذا ولا تقل سجلّات الكنائس في الأهميّة في رفد مصادر تاريخ الأردن، فهي إحدى دفاتر الديوان الهمايوني في الدولة العثمانية. إنَّ هذه الوثائق هي، في حقيقة الأمر، أحكام أو أوامر كانت تصدر في العادة ردًّا على طلب يتقدَّم به بعض المواطنين المسيحيين، أو اليهود في قرية أو مدينة ما من بلاد الشام أو العراق، أو يتقدَّم بهذا الطلب رئيسهم الروحي المباشر، أو غير المباشر. وهي ذات أهمية قصوى، بوصفها مصدرًا أوليًا لدراسة أوضاع العرب المسيحيين في الولايات العربية من الدولة العثمانية، وسياسة الدولة تجاههم. تشتمل هذه السجلّات على التراخيص الممنوحة للطوائف المسيحية في كافة أرجاء الدولة للقيام بأعمال بناء كنائس جديدة، أو إعادة تعمير، أو ترميم الكنائس القائمة، أو القيام ببعض التعديلات، أو الإضافات كبناء برج للناقوس، أو غرفة للقس. كذلك تشتمل هذه السجلّات على التراخيص الممنوحة للطوائف، أو الأفراد المسيحيين لإنشاء مدارس، أو مستشفيات، أو مياتم، أو دور للعجزة، أو مقابر، أو أيّ مؤسسات خيريّة أخرى. وتشتمل أيضًا على التراخيص الممنوحة للهيئات التبشيرية الأجنبية المختلفة، من كاثوليكية وبروتستانتية، للقيام ببناء الكنائس والمدارس والأديرة والمستشفيات، أو أيّ مؤسسات خيريّة أخرى.
كذلك، تُعتبر قرارات غرف التجارة من المصادر المهمة عند دراسة تاريخنا الاقتصادي، فهي تؤشِّر لمدى التطوُّر الاقتصادي الذي وصلت إليه المدينة في منطقة الأردن أبان الحكم العثماني، وذلك من خلال إيراد أسماء التجار، وأصحاب رؤوس الأموال، والأشخاص المتنفذين في المدينة، ومقدار ثروتهم، فضلًا عن انتماءاتهم، والكفالات التجارية، التي تشكل القسم الأكبر من القرارات. إضافة لما سبق تحتوي قرارات الغرف التجارية معلومات تفصيلية وفريدة عن التجار، والمشاكل التي واجهوها، إضافة للأوزان والمكاييل التي استُخدمت في المدينة، خاصة في الفترة التي سبقت التحوُّل إلى اعتماد النظام المتري، وبيان موقف التجّار من هذا التحوُّل. كما تضمَّنت القرارات معلومات تفصيليّة عن المنتجات الزراعية مثل: الحبوب والخضار والثروة الحيوانية، وبيان الكميات المصدَّرة منها للخارج، والمستهلكة داخل المدينة، وأسعار تلك المنتجات في أوقات مختلفة. وضمن قرارات سجلّ غرف التجارة يلاحظ أنواع العملات المتداولة وأسعارها في المدينة.