د.حسين علي محافظه
أستاذ التاريخ- جامعة البلقاء التطبيقية
تسعى هذه الدراسة الموجزة إلى الكشف عن أبرز ملامح شخصيّة الموسى ومنهجيّته في كتابة تاريخ الأردن والثورة العربيّة الكبرى، من خلال دراسة كتب سيرته ومؤلَّفاته. وهو أحد الأوائل الذين أخذوا على عاتقهم التأريخ للأردن الحديث والمعاصر، واتَّبع في كتابته لتاريخ الأردن منهجًا حُرًّا استمدَّه من خبرته وتجربته الذاتيّة، ومن خلال ثقافته التاريخيّة الواسعة، فساهم في التأسيس للحركة الأدبيّة والثقافيّة عبر جوانبها المختلفة، ممّا جعله علمًا بارزًا في ميادين الكتابة التاريخيّة والآداب العربيّة.
"الكاتب الحق شاهد عصره، والمؤرِّخ الحق شاهد ضميره"
سليمان الموسى
كان أبرز ما عني به سليمان الموسى تدوين تاريخ الأردن السياسي والعسكري والفكري، وعُرف عنه ولعه الشديد بالمصادر التاريخية الوثائقية المحلية والعربية والأجنبية والمقابلات الميدانية. ولمّا كان من المؤمنين بالنهضة العربية الحديثة، فقد أصبح مغرمًا بربط تاريخ الأردن بمنطلقات الثورة العربية الكبرى وأهدافها بالتحرُّر والاستقلال والنَّهضة والتقدُّم.
ومن الجدير بالذكر، أنَّ مؤلفاته في تاريخ الأردن والثورة العربية الكبرى اتُّخذت ولا تزال مصادر لا غنى عنها للدارسين المختصين والمثقفين على حدٍّ سواء، ولعلَّ هذا ما يعطي لهذه الدراسة أهميّتها وهي تحاول تسليط الأضواء على سيرة المؤلف ومنهجيّته بالكتابة لما تشتمل عليه من موجبات مثل: تدوينه لمعلومات استمدَّها من وثائق نادرة ومعاصرته للأحداث التي كتب عنها وبراعته في تناولها وعرضها بأسلوب أدبي شيّق وتسلسل دقيق واضح.
أمّا فيما يخصّ منهج الدّارس الحالي، فقد قام على اعتماد أعمال المؤلِّف مراجع لبحثه، وانتقاء بعضها لتدلّ على غيرها، مع الإشارة لمنهجيّة مؤلّفها وأسلوبه باختصار شديد، استجابةً لشروط وقواعد نشر هذا البحث في المجلة الموقرة. وسوف يتم ذلك من خلال المحورين الآتيين:
• أوَّلًا: سيرة المؤلف
إنَّ أوَّل معالم ذكاء الموسى وحسّه التاريخي العميق، انتباهه إلى ضرورة تدوين سيرته الذاتيّة؛ ممّا سهَّل على الدّارسين التعرُّف إلى أدق تفاصيل حياته منذ ولادته عام 1919م وحتى وفاته عام 2008م، وقد كتبها بكتابين الأوَّل عنوانه (خطوات على الطريق، سيرة قلم) والآخر عنوانه (ثمانون، رحلة الأيام والأعوام) وفيهما استعرض مجمل مراحل حياته وطبيعتها وأثرها على سيْر تطوُّر تفكيره وأعماله وطموحاته وإنجازاته، وهي تُعدُّ من أوفى كتبه وأضخمها في مجال كتابة السير والتراجم الشخصيّة والغيريّة التي تخصَّص بها إلى جانب الحقول الدراسيّة الأخرى السياسيّة والأدبيّة والثقافيّة.
يحدِّثنا الموسى عن نفسه؛ اسمه ومولده وأسرته، فهو "سليمان بن موسى بن سليمان بن خليل الناصر" وُلد عام 1919 في قرية "الرفيد" شمالي مدينة إربد، وهو من أسرة مسيحيّة من الطائفة الأرثوذكسيّة التي تعود أصولها إلى جبل لبنان، واستقرَّت في الرفيد حوالي منتصف القرن التاسع عشر، وعملت في الزراعة وبعض الحرف اليدويّة، وعانت من الفقر الشديد، إلا أنها امتلكت الرغبة بالتعلُّم والمعرفة حيث سعت لتدريسه عند شيخ كُتّاب قريته، ثم أرسلته والدته إلى مدرسة "الحصن" جنوب شرق إربد عام 1934م وأقبَلَ على التعلُّم حتى أتمَّ دراسته الابتدائيّة، لكنه اكتفى بهذا المستوى من التحصيل لعدم قدرة أسرته على دفع تكاليف دراسته بعد أن فقد والده عام 1919 وتولت أمه الإنفاق عليه وعلى شقيقاته.
ولذلك قام بالبحث عن العمل، فدرَّس مؤقتًا في المدرسة التي تخرّج فيها، ثم ذهب للعمل في يافا في فلسطين، وعمل في إحدى المكتبات وهو ما وافق ميوله في المطالعة بنهم شديد، فأخذ يفكر في ما كان يكتبه من مقطوعات شعرية وبعض القصص القصيرة، كما قام بجمع ما كان يقرأه عن أحداث الثورة العربية الكبرى 1916م، وفكَّر بكتابة مؤلَّف قصير عن قائدها الشريف حسين بن علي، لكنه لم يوفَّق في مسعاه، إلى أن أعاد كتابته مرَّة ثانية ونشره بعد مدة طويلة.
عاد الموسى إلى قريته ليرعى أسرته بعد أن أمضى ثلاث سنوات في يافا (1936- 1939) وقد تزوَّد بحصيلة معرفيّة وثقافيّة أهّلته للعمل في ورشات عمل الجيش البريطاني العاملة في الأردن في بلدة المفرق، فتقوَّت لغته الإنجليزية، وحفّزته علاقته بالموظفين الإنجليز على القراءة والكتابة، فأخذ بكتابة المقالات لتنشر في الصحف والمجلات العربية، وهذا ما ساعده في الحصول على وظيفة في الإذاعة الأردنية في عام 1957 في عمّان، وتنقّل بين الوظائف إلى أن استقرَّ في (دائرة المطبوعات والنشر) وأصبح محرِّرًا لمجلة "رسالة الأردن" التي تصدرها الدائرة، كما عمل في وزارة الثقافة، وظلَّ عاملًا فيها إلى أن تقاعد من العمل عام 1983.
أمضى الموسى حياته كلها بالعمل في الشؤون الكتابيّة والنشاطات الثقافيّة، وهو ما حلم به طوال حياته، وانشغل بالهمّ الثقافي والكتابي الذي رأى فيه أهمّ مجالات الحياة التي تعبِّر عن صدق الحياة نفسها وسعادته الشخصيّة.
تميَّز الموسى بعمق التفكير وسعة الثقافة، وإنَّ الناظر إلى أعماله يجدها منظّمة مرتّبة أحسن ترتيب لغةً وأسلوبًا، وأنَّها تقوم على أربعة مرتكزات هي:
- التفكير البسيط الواقعي.
- المنهج الوصفي السردي.
- الانتماء القومي العربي.
- الحس الإنساني المرهف.
وهذا عائد إلى نمط تربيته وظروفه وثقافته المستندة إلى مفاهيم الانتماء الصادق لوطنه الأردن وأمّته العربيّة.
أمّا صفاته، فقد كان من المميّزين بالطبع الهادئ ودماثة الأخلاق والتسامح، وتجلّت صفاته الذهبيّة بالطموح والصبر والإرادة والمثابرة، فقد عدَّت هذه الصفات المسؤولة عن نجاحه وإنجازاته بما قدَّم عطاءً لنفسه ولوطنه من خلال الشِّعار الذي تبنّاه ((كم أعطيتَ لا كم أخذتَ)).
• ثانيًا: مؤلَّفاته ومنهجه في الكتابة التاريخيّة
إنَّ نقطة التحوُّل في حياة الموسى الكتابيّة في مجال التاريخ بدأت بعد تأليفه كتابه الأوَّل "تاريخ الأردن في القرن العشرين"، فقد تحوَّلت رغبته في كتابة التاريخ بعد نجاح هذا الكتاب إلى ما يشبه الفيض العارم الذي لا يُقاوَم، فتقوَّت عزيمته وأخذ يجمع المعلومات من المصادر كافة المتاحة له، وانشغل في البحث والتقصّي والكتابة والطباعة والنشر.
بلغ عدد مؤلَّفاته أكثر من أربعين كتابًا، إضافة إلى عشرات الدِّراسات والمقالات، تركّزت كلها على تاريخ الأردن الحديث والمعاصر والثورة العربية الكبرى، وهنا يمكننا طرح بعض الأمثلة من مؤلفاته للتدليل على أهميّتها؛ يُعدُّ كتابه "تاريخ الأردن" من أهمّ كتبه وأشملها، وهو الذي منح مؤلفه شهرته مؤرِّخًا، وانطوى على جهة المؤرِّخ المدقِّق الضّابط لتفاصيل الأحداث التي شهدها الأردن منذ ما قبل قيام الدولة في عام 1921 إلى سنة تأليفه عام 1957، وكانت غاية الكتاب الحديث عن تأسيس الدولة الأردنية، التي عدَّها المسؤولة عن كل تطوُّر شهدته البلاد بعدما عاشت حالة الفوضى والتخلُّف في أواخر عهد الدولة العثمانيّة.
أمّا كتابه الثاني "لورنس العرب: وجهة نظر عربيّة"، فهو الذي منح المؤلف شهرته العالميّة، إذ تُرجم إلى معظم اللغات العالميّة، وفيه دحَضَ الموسى آراء "لورنس" حول الثورة العربية الكبرى، وبيَّن المغالطات التي قام بها "لورنس" ومبالغته حول دوره في حروب الثورة العربية الكبرى. ووضَّح الموسى أنَّ الثورة بقيادتها كانت واعية لأهدافها وهي المسؤولة عن تحرير البلاد من السيطرة العثمانية.
وأمّا كتابه المعنون بـِ"أيام لا تنسى، الأردن في حرب 1948"، فهو أشهر كتبه في مجال التاريخ العسكري، وفيه وضَّح دور الجيش العربي الأردني ودفاعه البطولي عن القدس وفلسطين. والكتاب أشبه ما يكون بكتاب يوميّات للحرب، ولذلك يُعدَّ من أفضل المراجع عن حرب عام 1948.
وحول طريقة الموسى في التأليف، فيمكن القول إنها كانت مستمدّة من مفاهيم أدبيّة، إذْ عدَّ التاريخ في مجمله ((قصة جديرة بالرِّواية))، وهو برأيه عبارة عن كتابة محدَّدة تُعرَّف فيها الأحداث كما وقعت بحسب تسلسلها الزمني، وما على المؤرخ أو الكاتب الحصيف إلا أن يسجِّلها ويدوِّنها كما هي أو كما وردت بمصادرها ومراجعها. وفي رأي آخر له يشبِّه عمل المؤرِّخ بعمل القاضي الذي يفرض عليه واجبه محاكمة الأشياء المطروحة عليه بعدالة ونزاهة ليكون حُكمه أقرب ما يكون إلى الحقيقة.
أمّا دوافعه للكتابة في مجال التاريخ، فقد جاءت تعبيرًا عن حيويّة ذهنيّة لدى المؤلف واستجابةً منه لتحدّيات طبيعية ووظيفية ساهمت في تفجير طاقاته؛ إذ كان يشعر بنفسه أنّه قادرٌ على ملء فراغ في الكتابة حول تاريخ الأردن، وأنَّ واجبه يفرض عليه أن يتصدّى للمهمّة الكبرى التي أنيطت به، وأنّه بذلك يكون قد أسدى خدمة جليلة لوطنه وأمته مثلما يحقِّق لنفسه المجال لإثبات الذات والشعور بالرضا والسعادة.
ويمكن القول في نهاية هذا المحور إنَّ سليمان الموسى اتَّبع في الكتابة منهجًا حُرًّا استمدَّه من خبرته وتجربته الذاتيّة، من خلال ثقافته التاريخية الواسعة.
لقد تعرَّف الموسى إلى أسس وقواعد الكتابة التاريخيّة، وتعرَّف إلى مصادر المعلومات وبخاصة الوثائقيّة منها العربية والأجنبية، إضافة للدراسات الميدانية والمقابلات الشخصية، فاستنبط الأدلّة من شواهدها الكتابيّة، وأحاط بالظاهرة المدروسة من مختلف جوانبها السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية.
واتَّسم أسلوبه في الكتابة بأعلى مستويات الدقة والوضوح والشمول بسبب موهبته الأدبية، فجاءت كتاباته متسلسلة شيّقة ممتعة، وبذلك يكون قد استوفى غالبيّة شروط الكتابة التاريخيّة المشهورة، وحقَّق ما استطاع بتميُّز أعماله ومؤلفاته، فهي أصيلة في موضوعاتها، وحازت الأفضليّة في ميدان السّبق والرِّيادة.
• المراجع:
استندت هذه الدراسة إلى مؤلفات سليمان الموسى نفسه مثل:
- خطوات على الطريق، سيرة قلم: تجربة كاتب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2003.
- ثمانون، رحلة الأيام والأعوام، ط2، وزارة الثقافة، عمّان، الأردن، 2008.
- منيب الماضي وسليمان الموسى: تاريخ الأردن في القرن العشرين، 1900-1959، الجزء الأول، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، طـ3، عمّان، 2017.
- الحركة العربية، سيرة المرحلة الأولى للنهضة العربية الحديثة، 1908-1924، الأعمال الكاملة، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، ط4، عمّان، 2013.
- وجوه وملامح، صور شخصية لبعض رجال السياسة والعلم، منشورات وزارة الثقافة، عمّان، الأردن، طـ1، 1980.
- نوافذ غربية (كتب وكتاب وقضايا عربية)، وزارة الثقافة والشباب والآثار، عمّان، الأردن، طـ1، 1984.