د. أمجد أحمد الزعبي
أستاذ مشارك - جامعة فيلادلفيا
أسّس عبدالكريم غرايبة مدرسته الخاصة بالتاريخ التي أثَّرت بشكل مباشر وغير مباشر في التأريخ للدولة الأردنية؛ ضمن رؤية مختلفة عن التقليديّة ممزوجة بروح من الحداثة في إطار الشموليّة الإنسانيّة. ونظر غرايبة إلى الدولة الأردنيّة على أنها دولة داخليّة لا تستطيع أن تنفصل عن جوارها العربي، وله أيضًا نظرته في الحركة التي قادها الشريف الحسين بن علي التي تستند لها الدولة الأردنيّة، فقد أكَّد أنَّها نهضة وليست ثورة، فالملك المؤسس عبدالله الأوَّل جعل وسام النهضة أرفع وسام.
تُعدُّ حياة عبدالكريم محمود غرايبة (1923- 2014م) بحدّ ذاتها إنارات فريدة، فهو يقول: "لا أحقد ولا أعاتب ولا أكره، لكنّي ضعيف في الحب"؛ فمشروع حياته أو حلم حياته أطلق عليه "إنارات فريدة"، وهو مشروع يتجايل مع عمر الدولة الأردنية التي تحتفل بمئويّتها؛ فنُضج عبدالكريم ترافق مع استقلال المملكة الأردنية الهاشمية، ومسيرة حياته محطّات تؤرّخ في سيرتها الذاتية لكل محطات الدولة، ففي كل محطة حكاية مشوّقة امتزج فيها الشخصي العاطفي بالتطوُّر التاريخي لهذا البلد، وقد ساقها موشّحةً بمسحة جميلة من الطّرافة وخفّة الظلّ، حيث لازمت شيخنا المعلم طوال سني حياته، ليؤسِّس مدرسته الخاصة بالتاريخ التي أثَّرت بشكل مباشر وغير مباشر في التأريخ للدولة الأردنية؛ ضمن رؤية مختلفة عن التقليدية ممزوجة بروح من الحداثة في إطار الشموليّة الإنسانيّة.
سُئل شيخنا عن هويّته فقال: "أنا عربي سوري حوراني من الأردن"، فقد وُلد شيخنا الحوراني كما يسمّي نفسه أحيانًا كثيرة (الحوراني بالنسبة للشامي فلّاح خشن، وتأتي أحيانًا من باب التقليل من الشأن مقارنة بالشامي المدني) في قرية المغيّر من قرى شمال مدينة إربد، حيث بدأ دراسته الأولى فيها، ليتنقل في تعليمه من مدينة أردنية إلى أخرى: مادبا، وعجلون، والسلط، حيث تخرّج في مدرسة السلط سنة 1941م، ليلتحق بعدها بالجامعة الأميركية بكلية الطب نزولًا عند رغبة والده؛ إلا أنه لظروف صحيّة لم يكمل مشوراه فيها في السنة التحضيرية التي كان عليه أن يعيدها، لكنه رفض الإعادة ليلتحق بالتخصُّص الذي يعشقه وهو التاريخ. التحق بعدها بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن The School Of Oriental and African Studies على نفقة وزارة التربية والتعليم؛ حيث يذكر: "نلتُ البعثة بسبب خطأ بروتوكولي في الديوان الملكي، فقد أدخلني رئيس التشريفات هزاع المجالي مع مجموعة كان المفروض أن لا أعرفها ولا تعرفني، كانت المجموعة سورية الطابع تعمل على مشروع سوريا الكبرى وتنقل الأخبار، ويفترض أن تكون سريّة. ولمّا أدركوا أني عرفت ما لا يجب أن أعرفه، سألوني عن طلباتي، فقلت: إيفاد إلى لندن، ولديّ قبول...".
عاد عبدالكريم بعد إنهاء دراسته مباشرة إلى الأردن ليكون أوَّل أردني يحصل على شهادة الدكتوراه في حقل العلوم الإنسانية، وفي هذا يذكر حادثة طريفة، حيث يقول: "أخذني والدي لأقبّل أيادي الملك عبدالله المؤسس. وسألني: مَن هو السلطان التركي العثماني الثالث عشر؟ وأجبتُ فورًا: لا أعرف. مع أني كنتُ آنذاك أعرف، ولكن ركبني عناد. قال: كيف لا تعرف وأنت تقول إنّك دكتور تاريخ! قلتُ: إننا لا نهتم بالملوك والسلاطين بل نهتم بالشعب...". ليبدأ مشواره الطويل بحثًا عن موقعه الذي يستحقه، حيث بدأ عمله موظف درجة رابعة براتب 32 دينارًا شهريًّا، وكان قد وصله أوَّل عرض للعمل من جامعة بغداد بضعف الراتب، لكنَّ والده ومتصرف إربد منعاه من السفر لأنه ملتزم بالعمل مع الحكومة، حيث عُيِّن في دائرة الآثار، وأستاذًا زائرًا في جامعة دمشق لاحقًا، ثم رئيسًا لدائرة المظالم، وعاد مرة أخرى إلى دائرة الآثار.
وبعد تأسيس الجامعة الأردنية التحق بها ليحمل الرقم 100101 "إنني أقدم مَن فيها وما فيها"، ليكون مؤسِّسًا لقسم التاريخ، حيث ترك أثره وبصمته فيها، كأوَّل عضو هيئة تدريس، واستمرّ فيها لحين انتقاله إلى الجامعة الإسلامية وفي نفسه غصّة كبيرة تجاه مشروعه "إنارات فريدة" الذي كان يحلم في أن يكون في جامعته التي عشقها وأفنى حياته فيها، فقد أسهم إلى جانب التدريس والبحث العلمي في إدارة الجامعة رئيسًا للقسم وعمادة كلية الآداب: 1966-1968م، 1973-1977م، 1978-1980م، 1984-1989م. تاركًا بصماته الكبرى، فقد كان له دور في تأسيس مؤتمر تاريخ بلاد الشام بالشراكة ما بين جامعة دمشق والجامعة الأردنية، وفي تأسيس مركز الوثائق والمخطوطات في مكتبة الجامعة الأردنية، وتأسيس متحف الآثار ومتحف التراث الشعبي الأردني وتأسيس نادي أعضاء الهيئة التدريسية. تخلَّل ذلك إجازات البحث العلمي التي عمل فيها في تركيا 1969-1970م بدراسة الوثائق العثمانية، وسافر إلى الولايات المتحدة باحثًا في الوثائق الأميركيّة 1977-1978م.
ترك الغرايبة أثره على كل مَن عرفه وزامله بخاصة أنه تنقَّل أستاذًا زائرًا في العديد من الجامعات العربية: دمشق وبيروت والرياض، ومن أبرز الأساتذة الذين أثّر فيهم نذكر على سبيل المثال: قسطنطين زريق الذي أطلق على عبدالكريم لقب "النبّاشة" لأنه كثير التحرّي والنَّبش، ومنهم: نبيه فارس ونيقولا زيادة، ونورالدين حاطوم وغيرهم. ومن طلابه -الذين كان يُحبّ أن يطلق عليهم طلابه وليس تلاميذه- كبار مؤرخي الأردن وعلى رأسهم: خيرية قاسمية وعلي محافظة وعبدالعزيز عوض وغيرهم. كان شيخنا من المقلّين في التأليف فكتب بنوعيّة كتبًا وأبحاثًا منها: "تطور مفهوم النضال ضد الاستعمار"، "مقدمة في تاريخ العرب الحديث"، "العرب والأتراك"، "أفريقيا العربية في القرن العشرين"، "قيام الدولة العربية في السعودية"، و"تاريخ العرب الحديث 1780-1925م". وله نظرة تاريخية في حاضرنا: حديث المفاوضات وتخفيف الخلطة. وله العديد من المقالات المنشورة في رؤيته للأحداث وتطوُّرها في الأردن.
قامت فلسفة التاريخ لدى الغرايبة على أنه الدارس والهائم والباحث والكاتب، فالتاريخ من وجهة نظره غيبة ونميمة؛ أي أنكَ تكتب عن أحداث ماضية تقول وتدّعي حدوثها؛ وهناك مَن يلجأ إلى لَيِّ عنق الحقيقة باتِّجاه معيَّن، فالبحث التاريخي هو بحث قائم على الشكّ؛ فإذا كان القول القانوني: "المتَّهم بريء حتى تثبت إدانته" فقد قال الغرايبة بالنقيض: "عدم براءة الذمة"، فالتاريخ هو مادة متفجّرة، تنمي الغرور، وتشجِّع العداوات بين الشعوب، وتؤدّي إلى إشعال الحروب وتشيع وتعرّض البشرية لأخطار أشد من الإشعاعات النووية. واستخدم كلمة "هائمًا" لأنها وصف دقيق لعشق يصل الجنون، وفائدة عمل المؤرخ وعلمه من وجهة نظره أن يعلم (الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون)؛ فشمس رواياتهم الحارقة لا يسترها سحاب ولا سطوح. ويبرز موقفه الإنساني في التاريخ عند حديثه عن السَّلام؛ فالسَّلام لن يحدث إلا إذا كُتب تاريخ يمهِّد للسَّلام ويؤكد على الإنسانيّة أكثر من الدول المتفوقة. فهو يذكر في لقاء صحفي: "لا نريد أن يكون التاريخ عبئًا علينا، ولا نسمح له ولا نسمح لأنفسنا أن نكون عبئًا عليه".
كان الغرايبة يعتقد أنَّ البحث الجيِّد يحتاج نوعين من البشر: عالِم كبير سنًّا له خبرة، إلّا أنَّ عمره خفَّف من نشاطه، وشاب يساعده يتميَّز بالنشاط والصَّبر، قادر على العمل لساعات طويلة، فيكتشف نتيجة بحثه أو بالصدفة أمورًا قد لا يفهم قدرها، فيتدخَّل العالم الكهل ليوضِّح الأمور. أي أنَّ البحث الجيِّد هو نتيجة جهد اثنين مختلفين بالعمر والنشاط والخبرة. وينال الشاب عادةً شهادة عالية على إنجازه وقد يُمنح الكهل تقديرًا وجائزة. فالباحث عليه أن يبحث عن الحقيقة ومعرفة خفاياها وتمكين الإنسانية منها لخير البشر ورفاهيتهم. فالمعرفة من وجهة نظره يجب أن تكون مشاعيّة ولا حقوق ملكيّة فكريّة فيها.
نظر الغرايبة إلى الدولة الأردنيّة على أنها دولة داخليّة لا تستطيع أن تنفصل عن جوارها العربي، ولا يمكن أن تكون أسوأ ولا أفضل؛ فهي كما يقول عنها: "من وجهة نظر الأمير عبدالله كان مؤمنًا بالنهضة العربية لهذا أسماها الشرق العربي، أمّا من وجهة نظر بريطانيا فهي تهدف لخلق دولة لاستيعاب ما يهجّر من الفلسطينيين لبناء الدولة اليهودية، لذا فقد استثنى الإنجليز الأردن من وعد بلفور".
وله أيضًا نظرته في الحركة التي قادها الشريف الحسين بن علي التي تستند لها الدولة الأردنيّة، فقد أكَّد أنَّها نهضة وليست ثورة، فهو كما يقول: "تألَّمت كثيرًا لأنَّ رئيس وزراء غَيَّر الاسم الجميل وسمّاه عيد الثورة العربية الكبرى وقَرَنه بعيد الجيش... وهذا ما أراه أمرًا غير مقبول لم يكن ليرضى عنه الشريف حسين والملك المؤسس عبدالله الأوَّل الذي جعل وسام النهضة أرفع وسام... وقدمت احتجاجات سنوية إلى جلالة الملك الحسين على هذا الإخلال الكبير بالواجب. وتشرَّفت بمقابلة الملك المرحوم بحضور الرئيس الذي شوّه الذكرى الجميلة. وقلتُ له: إنَّ الجيش لا يحتفل بالثورات لأنه وُجد لمنعها وسحقها إنْ حدثت". ومن الطريف قوله لرئيس الوزراء زيد الرفاعي حول إسقاط حرف The من اسم المملكة عام 1952م من قِبَل السفير البريطاني "كركبرايد" واللورد "هاردنج" إنه كان له هدف شيطاني، فقد قال للرفاعي: "إنَّ الحرف يدلّ على أنَّ المملكة هي مملكة حوض نهر الأردن؛ فإذا حذفنا The أصبحت مملكة الأردن غير مرتبطة بالنهر، وكنتُ مطلعًا على الوثائق السريّة حول الأمر".
• مشروع "إنارات فريدة"
"إنارات فريدة" هي نتاج عمل حياة شيخنا على مرّ السنوات، تلك الطريقة الفريدة التي بدأها في بيروت منتصف الأربعينات، في كيفيّة ترتيب وتنظيم المادة التاريخية التي يجمعها، وقد نظّمها بداية على بطاقات للمراجع والأحداث، ثمّ سرعان ما بدأت بالنمو والتكدُّس لتصبح مشكلة وتحتاج إلى مجهود لإعادة ترتيبها. وفي لندن سرعان ما تكيَّف مع عصر البطاقات والتقنين، حيث يذكر حول ذلك: "قابلتُ الأستاذ المشرف في معهد الآثار وكلية الدراسات الشرقية -المستشرق المعروف "برنارد لويس"- وأعجب أستاذ التاريخ في الكلية ببطاقتي ولامني لأنَّ اسمه لم يكن في البطاقات. ونصحني بتغيير الأسلوب واتِّباع نظام الملفّات ذات الأوراق المتحركة على أربعة ثقوب...".
كان لي الشرف -حين كنتُ طالبًا عنده- بالاطلاع على طريقته المبدعة، فقد كانت عادته أنه يدعو طلبته إلى بيته في نهاية الفصل الدراسي ليطلعهم على طريقته في الكتابة وجمع المادة؛ حيث كانت الدهشة تعلو وجوهنا جميعًا عندما دخلنا البيت الذي هو عبارة عن مكتبة تجمع كل ما هو نفيس من أمهات الكتب والوثائق، كان البيت كبيرًا لدرجة أننا لم نهتدِ لغرفة الضيوف، حيث قال: "الأماكن التي يمكن استخدامها فقط غرفة الضيوف الواسعة، وغرفة النوم والباقي كما رأيتم مكتبة...". في الجولة القصيرة اطَّلعنا على طريقته في البطاقات التي أرانا فيها كشّاف الموضوعات والفهارس بداية وكلها بخط يده. حيث سحب لنا أحد الملفّات الكبيرة حول تاريخ الحكومات الأردنية المتعاقبة بتاريخ كل حكومة وشخوصها وكتاب التكليف وملاحظاته عن كل اسم فيها وسيرة مختصرة عن كل واحد فيهم. وهكذا باقي البطاقات والملفات.
بدأت فكرة "إنارات فريدة" في سنة 2011م، بهدف واضح يتمثل في أن لا يضيع ما جمعه عبر سنوات حياته، وأن لا يصبح كصندوق العرس "ينباع خلق بالي" عندما تمضي السنين كما يقول مظفر النواب، فقد رتَّب بطاقاته وملفّاته بطريقة غير تقليدية وليست بحسب الموضوع أو الجهة أو المؤلف، وإنَّما بصنع جداول للأحداث تُظهر ترابطها واتِّساقها مع بعضها بعضًا على الرغم من اختلاف مواضيعها، فمثلًا: ما أثر حطين على الأحداث في الأندلس؟ وتوضيح الفرق والارتباط بين الحروب الصليبية في الأندلس وبلاد الشام. وبيان أثر نضوب مناجم الذهب في وادي العلالي على إنهاء دولة المماليك، وجعل الشام ومصر ولايتين عثمانيتين.
ضمن هذه الرُّؤية تقدَّم الغرايبة لإدارة الجامعة الأردنية -متبرعًا بكل تعبه مجانًا وبحب- بمشروعه "إنارات فريدة"، حيث ناقشه مجلس العمداء في الجامعة، وفي الوقت نفسه حاول الحصول على تمويل من القطاع الخاص كي لا يحمِّل الجامعة كامل النفقات، وبالفعل اتَّفقت مؤسسة عبدالحميد شومان والجامعة على إنجاز المشروع بحيث تدفع مؤسسة شومان ثلث النفقات، وبدأ العمل بالمشروع ولكنه توقف، وكما يقول غرايبة: "لكن عجلة التغيير والتخريب أطاحت بالرئيس وتوقف اهتمام الجامعة". حيث تقدَّم الغرايبة باستقالة قُبلت بشكل سريع؛ فخرج غاضبًا أسِفًا باحثًا عن أمل جديد. فكان الاحتضان من قبل الجامعة الإسلامية ورئيسها عبدالناصر أبو البصل الذي تعاون مع ثابت الطاهر على استكمال المشروع؛ حيث يقول غرايبة: "من واجبي أن أشكر الصديقين لأنهما أحييا آمالي".
هذا المشروع ما زال مادة خام تصلح للتصنيع وإعادة التشكيل؛ فالمشروع وإن تحقَّق لم يكن كما أراده الغرايبة لأنَّ المنيّة لم تسعفه لإكمال ما بدأه بتلك الرُّؤية التي أرادها، والأمل معقود على طلبة الدراسات العليا في الجامعات الأردنية وبخاصة في الجامعة الإسلامية لإخراجه بأفكار جديدة وقوالب حديثة.
• المصادر والمراجع:
1. ندوة عبدالحميد شومان: "الشيخ عبدالكريم غرايبة مؤرخًا، ومعلمًا، وإنسانًا". مراجعة وتقديم: عبدالعزيز الدوري، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2006.
2. رؤوف أبوجابر، عبدالكريم غرايبة: سيرة حياة حافلة، عمّان، الجامعة الأردنية، 1988.
3. عبدالمجيد الشناق، ذاكرة وطن: عبدالكريم غرايبة مؤرخًا عربيًّا، عمّان، منشورات الجامعة الإسلامية، 2014.
4. مقالات ومقابلات للدكتور عبدالكريم غرايبة منشورة في الصحافة الأردنية في مناسبات مختلفة.