عرفة عبده علي
كاتب ومؤرخ مصري
في فلسطين خزائن كتب عامة وخاصة كثيرة، يقع معظمها في مدينة القدس، أمّا خزائن الكتب العامة فأشهرها مكتبة المسجد الأقصى في القدس، ويبدو من مراجعة فهرسها أنها تحوي كتبًا دينيّة مخطوطة قُدِّر عددها بألف مخطوط كالمصاحف والربعات، وكُتِبَ أكثرها في العصرين المملوكي والعثماني. وتُعدُّ المكتبة الخالدية في القدس أهمّ خزائن الكتب الخاصة في فلسطين وأغناها، وفيها عشرة آلاف كتاب؛ ثلثاها مخطوط وثلثها الآخر من نوادر المطبوعات القديمة في العلوم العربيّة والإسلاميّة.
كان فتح السلطان "صلاح الدين الأيوبي" لمدينة القدس سنة 583هـ/ 1178م بداية سعيدة للحياة العلمية التي عمّت ديار الشام عامة وفلسطين خاصة. ولم تمنع صلاح الدين مشاغله الحربيّة وهمومه السياسيّة من الاهتمام بالعلم وأهله، وإعادة بناء ما خرّبه المغول والتتار والصليبيون من دور علم، وما أحرقوه من خزائن كتب، وما هدموه من مدارس وجوامع ومنشآت حضاريّة تمثل الوجه الناصع للحضارة العربية الإسلامية.
استهلَّ صلاح الدين عهده في فلسطين بعملين جليلين هما إنشاء المدارس والعمل على تزويد المسجد الأقصى بالكتب الدينية والعلمية. فقد عمد إلى تحويل الدار التي بناها فرسان المنظمة الصليبية العسكرية المسمّاة "الاسبتارية" إلى مدرسة كبرى (هي المدرسة الصلاحيّة) يُدرَّس فيها الفقه الشافعي. وعن ذلك كتب العماد الأصفهانى: "فاوض السلطان جلساؤه من العلماء الأبرار والأتقياء الأخيار في مدرسة للفقهاء الشافعيّة ورباط للعلماء الصوفيّة فعيّن للمدرسة الكنيسة المعروفة بصند حنّة عند باب الأسباط وعيّن دار البطرك للرباط ووقف عليهما وقوفًا"، كما كتب مجير الدين العليمي مشيرًا إلى حرص صلاح الدين على تزويد هذه المدارس بالكتب: "إنَّ السلطان صلاح الدين أمر بهدم البناء الذي أقامه الصليبيون في الصخرة، وأعادها كما كانت ورتّب لها إمامًا حسن القراءة ووقف عليها دارًا وأرضًا وحمل إليها وإلى محراب المسجد الأقصى مصاحف وختمات وربعات شريفة".
وقد سار الأيوبيون على سنّة صلاح الدين في تأسيس المعاهد العلمية وتزويدها بالمدرسّين والكتب المخطوطة، كما جدّد الملك المعظم عيسى بن أحمد بن أيوب بناء المدرسة الناصرية، أو الغزالية، وجعلها زاوية لقراءة القرآن والاشتغال بالنحو ووقف عليها كتبًا في جملتها "إصلاح المنطق" لابن السكِّيت وهو بخطّ الإمام النحوي ابن الخشّاب، ويقول العليمي إنه وقف على كراسة من هذا الكتاب وعلى ظهرها الوقف وهو مؤرخ في التاسع من ذي الحجة سنة 610هـ/ 1214م.
وفي فلسطين خزائن كتب عامة وخاصة كثيرة، فأمّا العامة فأشهرها مكتبة المسجد الأقصى في القدس، ويبدو من مراجعة فهرسها أنها تحوي كتبًا دينيّة مخطوطة قُدِّر عددها بألف مخطوط كالمصاحف والربعات، وكُتب أكثرها في العصرين المملوكي والعثماني، وفي الخزانة أيضًا كتب متفرقة في الأدب والفقه على المذاهب الأربعة والتفسير والحديث، ولعلّ أنفَس ما حوته الخزانة المذكورة وأشار إليه مفهرسوها مخطوط كتاب "نشق الأزهار في عجائب الأقطار" للمؤرخ المصري ابن إياس (852- 930هـ)، ومخطوط "تلخيص المتشابه في الرسم وحماية ما أشكل منه عن بوادر التصحيف والوهم" لأبي بكر الخطيب علي بن ثابت البغدادي المتوفى سنة 464هـ/ 1072م ومخطوط "طبقات الشافعية" لتقي الدين ابن قاضي شبهة الدمشقي المتوفى سنة 851هـ/ 1448م ومخطوط "كتاب الأقاليم" للإصطخري المتوفى سنة 340هـ/ 952م ويقال إنَّ المخطوط يرجع إلى القرن الخامس وأوائل السادس، وفي الخزانة نحو عشرة آلاف كتاب أكثرها مطبوع.
أمّا خزائن الكتب الخاصة فكثيرة منها:
- مكتبة آل أبي اللطف في القدس.
- مكتبة آل البديري في القدس، وأسرة البديري أسرة عريقة كانت لديهم خزائن كتب مخطوطة تبدّدت بعد أن اقتسموها، وآلَ قسم من مخطوطاتها إلى الشيخ محمد البديري فجعلها في جناح من أجنحة المسجد الأقصى.
- مكتبة آل الترجمان في القدس.
- مكتبة آل الجوهري في نابلس.
- مكتبة آل الحسيني في القدس.
- مكتبة آل الخالدي في القدس.
- خزانة آل الخليلي في القدس، وقد وقفها الشيخ محمد بن محمد الخليلي مفتي الشافعية المتوفى سنة 1147هـ/ 1734م، ويُقال إنَّ الشيخ الخليلي أوَّل مَن بادر بفكرة إيجاد مكتبة عامة في القدس استنادًا إلى وقفيّة كتبه، وقد حفظت الكتب المذكورة في المدرسة البلدية التي كان قد أنشأها بباب السلسلة نائب السلطان الأمير سيف الدين منكلي بغا الأحمدي المتوفى سنة 782هـ/ 1381م.
- مكتبة آل الدّاودي في القدس.
- مكتبة آل صوفان في نابلس، وفيها مخطوط نفيس عنوانه: "مناقب الإمام أحمد بن حنبل" من تأليف الحافظ بن الجوزي مؤرخ سنة 599هـ.
- خزانة عبدالله مخلص (1878- 1947م) في القدس في حيّ الشيخ جرّاح، وقد حوت نفائس المخطوطات، ويبدو أنَّ المكتبة نقلت بعد حوادث 1948 إلى بعض الأديرة التي بقرب سور المدينة ونهبها الصهاينة إبّان معارك 1948.
- خزانة آل قطينة في القدس بباب العمود: آل قطينة أسرة حنبليّة يقال إنهم الحنابلة الوحيدون في القدس، وفي الخزانة مخطوطات نفيسة في الرياضيات والفلك والتنجيم لم يبق منها اليوم شيء.
- مكتبة محمد إسعاف النشاشيبي في القدس.
- خزانة محمود اللحام بضاحية سلوان (شرقي القدس)، وفيها أربعة آلاف مصنَّف.
- خزانة آل فخري، وقد وقفها القاضى فخر الدين أبو عبدالله محمد بن فضل ناظر الجيوش الإسلامية المتوفى سنة 732هـ/ 1332م، وهذه الخزانة قسم من الخانقاه الفخرية المجاورة لجامع المغاربة، وكانت تحتوى على عشرة آلاف مجلَّد اقتسمها أفراد الأسرة فتفرّقت كتبها.
- مكتبة آل الموقت في القدس.
وفي القدس وغيرها من مدن فلسطين خزائن كتب مسيحيّة عربيّة وأجنبيّة أكثرها تابع للطوائف الدينية والبعثات الأثرية والتبشيرية الفرنسية والإنجليزية والأميركية، ومنها:
- مكتبة دير الكرملين في الضاحية الشرقية من حيفا، وفيها صكوك قديمة ذات علاقة بالدير.
- مكتبة القبر المقدَّس.
- مكتبة دير الروم، وفيها 2.733 مجلدًا باليونانية وغيرها بينها مخطوطات يونانية مؤرخة في القرن العاشر للميلاد.
- مكتبة دير الدومينيكان.
- مكتبة الآباء البيض.
- مكتبة دير الفرنسيسكان.
- مكتبة دير الأرمن.
- خزانة الآثار الأميركية.
- خزانة الآثار الإنجليزية.
- مكتبة المجمع العلمي الأثري البروتستاني.
• المكتبة الخالديّة
تُعدُّ المكتبة الخالدية في القدس أهمّ دور الكتب الخاصة في فلسطين وأغناها. وكانت المكتبة مدرسة قد آلت ملكيتها إلى السيدة خديجة الخالدي ابنة القاضي موسى أفندي الخالدي قاضي عسكر بر الأناضول، فأوصت ولدها الحاج راغب الخالدي رئيس المحكمة الشرعية بيافا (المتوفى سنة 1951) أن يقفها وينقل إليها كتب الأسرة الخالدية. فنفَّذ وصيّتها سنة 1318هـ/ 1900م بمشورة ومعونة الشيخ طاهر الجزائري مؤسس المكتبة الظاهرية بدمشق والشيخ أبي الخير محمد بن الحبال الدمشقي، فوضعا فهرسًا بأسماء كتبها. وقد جاء في "برنامج المكتبة الخالدية العمومية" وصف للظروف التي تم بها تأسيس المكتبة وجعلها دار كتب عامة: "وفَّقَ الله جانب الفاضل راغب أفندي الخالدي وموسى شفيق أفندي الخالدي إلى تشييد غرفة رحبة على جادة باب السلسلة في القدس الشريف وضعوا فيها كمية وافرة مما وجد عندهم من بقية كتب آبائهم وأجدادهم، وأضافوا إليها بعضًا من الكتب الموجودة عندهم أيضًا، وجعلوا الغرفة المذكورة دار علوم عمومية لمن يرغب المطالعة من أيّ فرد كان، وشرّطوا أن لا يخرج منها كتاب حرصًا على المنفعة العامة، وهي مفتوحة الأبواب لجميع الطلاب كل يوم من الصباح إلى المساء، وعيّنوا لها محافظًا أمينًا".
وتحتوي المكتبة على عشرة آلاف كتاب ثلثاها مخطوط وثلثها الآخر من نوادر المطبوعات القديمة في العلوم العربية والإسلامية. وقد ضمّت إليها خزانتا الشيخ يوسف ضياء باشا الخالدي ومحمد روحي الخالدي، وضمّت بعدئذ إليهما خزانة الشيخ أمد بدوى الخالدي بالإضافة إلى ما أُهدي إليها من نفائس مطبوعات المستشرقين. وتبيَّن من مطالعة فهرست المكتبة أنها تحوي كتبًا في التفسير والتجويد والقراءات والرسم والحديث والأصول والفتاوى والفقه الحنفي والفقه على المذاهب الأربعة والفرائض والتوحيد والتصوّف والمواعظ والحكم والنحو واللغة والأدب والسياسة والقوانين والدواوين والمدائح النبوية والسيرة النبوية والمناقب والتراجم والفلك والطب والروحانيات، وفيها عدد كبير من المجاميع في مختلف العلوم الدينية والدنيوية.
هكذا كانت القدس الشريف -مدينة التاريخ والمقدسات- بروائع عمارتها الإسلامية، وبمكتباتها ومدارسها وعلمائها، منارةً للعلوم والثقافة الإسلامية أيام مجدها العربيّ.
• المصادر والمراجع:
1- ابن الجوزي: فضائل القدس، تحقيق وتقديم جبرائيل سليمان جبور، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1980.
2- ابن واصل، أبو عبدالله المازني التميمي: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق جمال الدين الشيال، حسنين ربيع، سعيد عاشور، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة 1957- 1961.
3- دانيال الراهب (الحاج الروسي): وصف الأرض المقدسة في فلسطين، ترجمة سعيد البيشاوي، داود أبوهدبة، دار الشروق، عمّان، 2003.
4- العماد الكاتب الأصفهاني: الفتح القسي من الفتح القدسي، دار المنار، القاهرة 2004.
5- مجير الدين العليمي الحنبلي: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، مكتبة دنديس، عمّان، 1999.
6- عواد مجيد الأعظمي: معالم التراث العربي والإسلامي في فلسطين، جامعة بغداد، 1975.