د. عبدالله عبيدات
أستاذ الفنون الجميلة- جامعة اليرموك
ارتَبَطَ التَّعبير عن الهواجس الإنسانيّة في الفكر الأسطوري بالفعاليّات الفنيّة التي كانت جزءًا من الفكر العقدي، لذا كانت اللغة الفنيّة ترتكز على تكثيف المعاني في وصف العالم الذي تفسّره الأسطورة، وكانت لغة الرُّموز في الفن هي الأكثر استيعابًا لطموحات العقل الجمعي، لذا تمخَّضت الرُّموز في التشكيل الفني البدائي من صميم نظم العلاقات بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والآخر وبين الإنسان والقوى الغيبيّة، وجعلت المزايا التجريديّة للرَّمز في الفن البدائي أكثر تعبيرًا وفعاليّة.
• الميثولوجيا في الفنون الأردنيّة القديمة
إنَّ النتاجات الفنيَّة التي جسَّدها الإنسان القديم في شرق المتوسط، ومنها المجتمعات التي أنتجت المظاهر الفنيّة التشكيليّة في الأردن ودول الإقليم قديمًا، قد عملت مع الأسطورة في تمثيل قوانين الطبيعة ومصير الإنسان، وفقًا لمعتقدات غيبيّة، حيث يؤكد "كاسيرر" أنَّ دورات الفصول (وفقًا لتصوُّرات المجتمعات القديمة) -بالإضافة لخضوعها لقوى الطبيعة- تخضع للدَّور الإنساني، فالعلاقة مع الطبيعة حتميّة، وتعتبر حياة الطبيعة وموتها جزءًا لا يتجزأ من الدراما الكبيرة الخاصة بموت الإنسان وبعثه، وتتشابه في هذا الصَّدد طقوس الزَّرع التي نصادفها في كل الأديان على وجه التقريب مع طقوس الزَّرع التي نصادفها مع طقوس المولد. فالطبيعة ذاتها في حاجة إلى استمرار تجديد حياتها، وعليها أن تموت حتى تستطيع أن تحيا. وتؤيِّد شعائر أتيس وأدونيس وأُوزريس هذا الاعتقاد الأساسي الذي لا يتزعزع"(كاسيرر، 1975)، لذا فإنَّ الممارسات المستخدمة في الأعمال الفنية وفن العمارة وتقديس الأسلاف وطريقة دفن الموتى على مرّ التاريخ في الأردن آمنت بأنَّ الرُّموز المصاغة من خلال الفن هي مؤشّرات تؤكد حالة الاستقرار الفكري والديني والاجتماعي لمراحل طويلة.
تفاعَلَ النتاج الفني مع تحوُّلات الطبيعة وحالة التديُّن للإنسان القديم ومعتقدات الأسطورة حيث جسَّد بعل وأنكي وعشتار ودموزي، ووظَّف الفنان الرَّمز في حالاته الإيمائيّة أو المجرَّدة مع خواص المعتقدات والتصوُّرات والوظائف حول مهامهم كما في منحوتة "بعل" شكل(1)، فديموزي وفقًا لعقائد الكنعانيين أوكلت إليه مهمة مسؤولية الراعي والخصب في الطبيعة والحيوانات، وهو الذي يموت سنويًّا في أواخر الربيع وعلى حواف الأقنية والأنهار وما يلبث أن يولد من جديد، أمّا عشتار آلهة الخصب عند الكنعانيين فيرمز لها بالنجمة الثمانيّة والسداسية أحيانًا، واشترك كل من ديموزي وعشتار في الوظائف ذاتها وهي الخصب، وعشتار هي ذاتها وعرفت لدى العرب لاحقًا بالعزى والزهرة ويشار هنا للنبات والمعتقدات(الحوراني، 1978، 219). تجدر الإشارة إلى أنَّ مسمى الزراعات البعليّة ما زال حاضرًا في التعبير الشعبي إشارةً لاعتمادها على مياه الأمطار. وتفسَّر نجمة تليلات الغسول شمال البحر الميت كأحد مظاهر الممارسات الفنية المقترنة بالتديُّن والاعتقاد بتصوُّرات الغسوليين على ضفاف نهر الأردن قديمًا حول عشتار ومصيرها، وتعتبر النجمة الثمانية الكنعانية أحد النماذج المشابهة لنجمة عين غزال، ويؤكد العيسة بأنَّ تلك النجمة كانت رمزيًّا تشير بألوانها الحمراء للحياة بينما السوداء فتشير للموت(العيسة،2017). شكل(3، 4).
شكل (1) بعل الأوغاريتي، رأس شمرا، سوريا.
شكل (2) الإلهة الأم، عين غزال، الأردن.
تفاعل الفن في الأردن قديمًا مع مبدأ وحدة الوجود الذي اعتقد به الإنسان القديم كأحد الدوافع التفسيرية للوجود، فعشتار التي رمزت للخصوبة وللأرض صاغها النحّات ككتلة ذات مراكز حيويّة، حيث كانت على شكل كتلة اندغم خلالها شكل الطبيعة مع شكل المرأة اعتقادًا بوحدة الوجود بين مفهومي الألوهة والعالم المادي، وظهرت عشتار في عين غزال وتليلات الغسول. ووثّق الفن التمايز في تجسيد الآلهة بين الأقاليم والحقب الزمنية والتطوُّر السيروري للمعتقد ولقدرات الفن على التطوُّر وتكوين الرمز والاستحداث، وحول ذلك يوضِّح السواح أنَّ الأسطورة أكَّدت على المحاور الحيوية ذات التأثير المتعلقة بالآلهة وقدراتهم والتركيز على دور التنوُّع الجغرافي والزمني في تنوُّع ظهور نموذج عشتار في أريحا والبيضا في فلسطين والأردن وتل مربط في سوريا وتشاتال هيوك في تركيا، فقد تطوَّرت رموزها وصولًا إلى الصليب المعكوف والصليب العادي، ورمزت في مجملها إلى العطاء والخصب والاكتناز بمزايا الضرورة الحيوية والسببيّة للوجود الإنساني(السواح، 2002).
شكل(3) نجمة موقع تليلات الغسول.
شكل(4) نجمة عشتار الكنعانية وُجدت على مدفن كنعاني.
عبَرَ الرَّمزُ في الفنِّ الأنظمةَ الفكريّةَ التي مارسها المجتمع في الأردن قديمًا كما لدى الساميّين؛ كالشعائر والممارسات والعبادات ومواقيت الزراعة والحصاد والانتصارات والأعياد والاحتفالات والصيد، والفعاليات البشرية الحيوية كافة، والتراكمات التجريبية، وتطلَّب ذلك بنية نظاميّة صارمة في الأعمال الفنيّة الجداريّة تتضمَّن رصد أنظمة الطبيعة وتحوُّلاتها والموت والحياة، ويؤكد "توركيلد جاكوبسن" (Thorkild Jacobsen) من خلال استعراضه للحياة الدينية أنَّ سكان بلاد وادي الرافدين وأوغاريت والأردن وفلسطين تميَّزوا قديمًا بالنظام كعقيدة اعتبرت العشوائيّة والشذوذ شرًّا إلهيًّا لا يعرف الرحمة، ولذا بدت كافة النتاجات الفنيّة؛ ممثلة بالمنحوتات والجداريات والرسومات على الفخار والأزياء في تلك المناطق، بدت متميِّزة بالبنية النظاميّة الصارمة، ووُجد في الأردن في موقع تليلات الغسول على الجدران والفخاريات تشكيلات تميَّزت بألوانها الزاهية وزخارفها الهندسيّة ونظاميّتها، ومورس الفن فوق الأسطح الجصيّة. ومن الجدير ذكره تَمتُّع أهل القرى الزراعية القديمة بحسٍّ فنيٍّ رفيع خلال الحقبة النطوفيّة والقدرة على ابتكار أنظمة فنيّة تجريديّة كخطوط متقاطعة تكوِّن أشكالًا معينيّة وأخرى محزَّزة تشبه أشكال الأغصان المقلوبة وأخرى أفعوانيّة للحفظ والحماية على المنحوتات والرسومات وجدران البيوت(صادق، 1995) حيث "اندمج حسّ الجمال بنوازع التديُّن، فكان التديُّن جمالًا والجمال تديُّنًا، وكما رهب الفراغ في الكون فملأه بتشخيصات الآلهة نَفَرَ من الفراغ في الرَّسم فملأه بالرُّموز والأشكال ذات المعاني"(الحوراني، 1978).
تناول الفنُّ القمرَ كأحد الأنظمة الطبيعية في العقائد الرافدينية والكنعانية القديمة كقوة ذات مدلول رمزي، حيث استوحت أسطورة القمر مراتب ظهور القمر في السماء، ويشير السواح للأسطورة القمرية "إنانا" بأنها تهبط من السماء إلى العالم السفلي عبر البوابات السبع وهي مزدانة بكامل حللها وزينتها إلى أن تصل إلى آلهة الموت أريشكيجال التي تأمر بموت إنانا. وتذكر الأسطورة بأنها كانت تحمل في كفها صولجانًا لازورديًّا(السواح، 2002: 62-67). وقد اقترن شكل الهلال بشكل الصليب في مواقع تاريخية منها بلاد كنعان ووادي النيل ووادي الرافدين وتشاتل هيوك(السواح، 2000)، لذا فإنَّ الرموز الدينية المرتبطة بالديانتين الإسلامية والمسيحية في الأردن وباقي الدول العربية وهما الهلال والصليب، والتفضيل اللوني لألوان محدَّدة كاللازوردي أو اللون الأزرق واللون الأحمر ومشتقّاته، هي نوع من الارتباط بالفنون القديمة ورموزها. وما زال الاعتقاد برمزيّة القداسة لتلك الأشكال والألوان حاضرًا في التفضيلات الجماليّة اجتماعيًّا.
تعامَلَ الفن رمزيًّا مع مظاهر انجلاء القمر وظهوره في الميثولوجيا، حيث قام البابليّون بتمثيل أطوار القمر على شكل أهلّة متتالية في نمط دائري، كما نحت الكنعانيون سيدة القمر "عشتار" على شكل ثلاثة أعمدة يعلو أوسطها دائرة وشكل هلال، كما نُحتت على شكل ثلاثة أعمدة يعلوها ثلاثة أهلّة ودائرتين أسفل كل عمود(السواح، 2000).
استمرَّ التشكيل من خلال التثليث، فقد ظهر لدى السبأيين وشمال الجزيرة العربية الاعتقاد بتثليث الإله القمري، ولكن من حيث الوظائف لغايات المطر والإنبات وحماية القطعان، ثم تطوَّرت فكرة التثليث إلى الأب والأم والابن (المعاني، 2016)، فخزائن الحبوب الطينيّة الغسوليّة والنطوفيّة في الأردن قد أُضيف عليها تشكيلات نحتيّة نافرة لشكل القمر مقلوبًا للأسفل مع دائرة داخله، ويفسِّرها الباحث بأنها وضعت للحماية والتزيين، كما كثُر استخدام الشكل المثلث في معظم المظاهر التشكيلية كالجداريات والزخارف على جدران البيوت وعلى المطرَّزات لدى سكان بلاد الشام.
ويُظهِر الفنّ بحسب (نعمة) تصوُّرات العصر الأمومي حول الخصب، حيث مُنِحت المرأة دورًا مركزيًّا وألوهيًّا في الحياة وفاعليّتها في طقوس الخصب والوفرة، وتعتبر عشتار رمزًا أيقونيًّا للأم المكتملة وأحد مظاهر المعتقدات للخصب وللحفاظ على النوع الإنساني، كما أقيمت الطقوس المقدسة لتحقيق الغاية ذاتها(نعمة، 1994)، وتغلغلت الطقوس التمثيلية للاستجداء والتضرُّع إلى الله في الذاكرة الجمعيّة للمجتمع الأردني، حيث رصد أحد المظاهر التي مارسها سكان بعض المناطق في الأردن وبلاد الشام كطقوس التغييث (استجداء الله لنزول المطر)، حيث أقام القرويون الأردنيون طقوس التغييث التي شارك فيها النساء والأطفال مع طقس إنشادي (يالله الغيث يا ربّي تسقي زريعنا الغربي....) وتحمل النساء أغصان الزيتون، ويُرَشُّ الماء أثناء تأدية الطقوس من البيوت التي يَعبُر من أمامها المؤدّون، ثم يتَّجه المؤدّون في نهاية الطقس نحو أحد المزارات أو المقامات ذات القيمة المقدَّسة طلبًا لقبول الدعاء بالاستغاثة والتقرب إلى الله، وهذا الطقس امتداد للطقوس البدائية في الاسترضاء، ويعتبر الحوراني بأنَّ طقوس الخصب كانت فعاليّات تمثيليّة بغية تحقيقها في الطبيعة مثل رشّ الماء والذهاب للمعبد.
• التَّشكيل الشَّعبي الأردني
يمثِّل التَّشكيل في الأردن مادة غنيّة تستوعب إرثًا ماديًّا وروحيًّا متراكمًا من المعتقدات والتصوُّرات الجماليّة والتجارب التقنيّة، فالمرجعيّات التاريخية لم تتوقف عن التأثير على التشكيل الشعبي، وعلى الرغم من تطوُّر المعتقدات، كان للتأثير التاريخي مدىً واضحًا على قوالبه وعناصره؛ حيث ما زال الحرفيّون يمارسونها حتى اليوم. واجتهد التشكيليّون الشعبيّون في صياغة أفكار أسلافهم ومعتقداتهم في خلق الكون والنوازع الغيبيّة ومعايير التذوُّق والجمال وأشكال الطقوس الدينية والحِرَف والتضمينات التشكيلية على شكل رموز، حيث مثّلت تاريخ المعتقدات والطقوس. استوجب الرَّمز ودلالاته حالة فنيّة متقدِّمة من تجريد الأفكار حول الواقع وإحالتها إلى لغة دلاليّة، حيث كان التجريد بنية رياضيّة هندسيّة قوامها الشكل الهندسي والعلاقات المتناسقة والروابط الخطيّة والإيقاعات والتكرار والمتتاليات والمصفوفات والتَّكاملات، ممّا أعطاها انسجامًا ديناميكيًّا ودلالات متعددة. وتجسَّدت تلك الأشكال على معظم ما يستخدمه الإنسان الأردني في حياته اليومية، كما تميّزت في تمثُّلاتها "تكرارًا وتشابهًا ما بين الوحدات الزخرفية المستخدمة في الفن الشعبي"(طبازة، 2012). واندغم تأثير ذلك مع تأثيرات تعاليم الفلسفة الإسلامية السّمحة في الفن.
ازدهر التشكيل الشعبي في الأردن نتيجة للضرورات الماديّة وتوفُّر الحرفيين والحاجات الجماليّة والروحيّة، وتناغم مع سياق الحياة ومتغيّراتها، وساهم توفُّر المواد الخام الطبيعية وصناعة الأقمشة والأصباغ منذ القدم كمدخلات لإنتاج الفن، وكانت معظم الصناعات الحرفية المتعلقة بالنتاجات الشعبية التشكيلية منذ نهايات القرن الماضي تظهر في القرى والأرياف الأردنية؛ كفن التطريز والفخار وفن القَشّ والرسم على جدران المنزل أو الأدوات المستخدمة في بيوت القرويين؛ لذلك اتَّخذت تلك النّتاجات ملامح بيئاتها، وعكست الذوق الجمعي للأردنيين.
ورث التشكيلي الشعبي الأردني التفاعل مع موجودات البيئة من الكائنات الحية -حيث أخذت مكانة خاصة في الوعي الاجتماعي- كأشكال الحيوانات مثل الثور والماعز والجِمال والخيل والسّباع والأفعى، وتمثّلت تلك الأشكال بصيغ رمزيّة وتصوُّرات الوعي الاجتماعي عن أهميّتها في الحماية والتحصين من القوى الشريرة والحسد وللاستشفاء من الأمراض. حيث ظهرت قرون الحيوانات بصورة أكثر تجريدًا على البُسُط وجرار خزن الطعام، وظهرت الأشكال الأفعوانيّة على المطرَّزات اعتقادًا بخلود الأفعى. كما ظهرت أشكال الأسود والجِمال والسِّباع على المهابيش.
• تشكيلات القَشّ
مورست حرفة القَشّ والتَّشكيل عليها من قِبَل النساء، وتواجدت في الأماكن التي توافر فيها وجود المواد الخام ومن أهمّها زراعة القمح والشعير، وتوافُر الألوان اللازمة لاعطائها سمات جماليّة وتشكيليّة، وجاء ذلك مع الحاجة لاستخدام منتجات حرفة القشّ في تخزين المواد الغذائيّة وسواها. تميّزت الأطباق القشيّة بأنَّ طريقة تشكيلها تبدأ من مركز البناء ثم التوسُّع بقطرها بشكل لولبيّ، وهو ما أعطاها انطباع الانبعاث من المركز إلى الخارج، أمّا التشكيلات فقد ظهرت على عدَّة أشكال؛ فمنها النجميّة السداسيّة أو الثمانيّة أو أكثر، ومنها ما يظهر تضمينه لشكل المثلث بعدَّة هيئات، فإمّا يكون كل مثلث كوحدة مستقلة أو كمصفوفات أفقيّة دائريّة أو عموديّة تشكل فيما بينها تكوينًا نجميًّا ثمانيًّا أو سداسيًّا، ويفسر الباحث ذلك بارتباط واضح مع مدلولات كوكب الزهرة والإله الشمس وعشتار لدى الغسوليين في موقع عين غزال كما في الشكل(3)، وعادةً ما توضع تلك الأطباق في أماكن مرتفعة على الجدران لدى القرويين في الأردن حتى يومنا هذا، ويقارب الباحثون هذا الاستخدام مع تصوُّرات المجتمعات القديمة في بلاد كنعان ووادي الرافدين حول التقديس، حيث اعتقدوا بأنَّ الآلهة تقطن في الأماكن المرتفعة. شكل(5) وشكل(6).
شكل(5) طبق قش، قرية خرجا، شمال الأردن، من مقتنيات السيد فراس عبيدات- قرية حرثا، شمال الأردن منتصف الثمانينات.
شكل(6) طبق قش وبلاستيك، أواخر التسعينات، مقتنيات بيت التراث الريفي- السيد محمد الزعبي.
• التَّطريز
عُرفت صناعة الملابس لدى الكنعانيين في بلاد الشام منذ القدم، وكان غنى الطبيعة بمواد مثل الأصواف أو النباتات كالقطن يلبّي حاجات المجتمع في صناعة الملابس من أجل الحماية من التقلُّبات الجويّة، أمّا الزَّخارف على الملابس فقد ظهرت منذ القدم، كما ظهر أوَّل نول في التاريخ -بحسب كفافي- في موقع أبوحامد في الأردن(كفافي، 1991)، لذا تطوَّر استخدام القماش كأحد أشكال الحماية الماديّة. أمّا فنّ التَّطريز فقد تطوَّر بشكل واضح على ملابس النساء، فالمثلث هو استمرار لرمزيّته كدلالة للحماية استخدمها الغسوليون والنطوفيون والكنعانون على أرض الأردن، وكثالوث للحماية؛ استمرارًا لمعتقدات العرب السبأيين في جنوب الجزيرة العربية. ورصد الباحث شكلًا مثلثًا مدرَّج الأضلاع على المطرَّزات، ويفسِّره بكونه شبيهًا بعناصر العمارة العربيّة لدى الأنباط والثموديين، فهو ذو رمزيّة مستخدمة للحماية وتتوّج فنونهم المعماريّة. ما تزال الوحدة المثلثة تستخدم حتى يومنا هذا. والشكل الأفعواني والمثلث (الحجب) في الذاكرة الشعبية الروحية في جانبي نهر الأردن هي تعويذة للحماية والحفظ من الشر والفال السيئ(قشقوش، 2017: 27-44). شكل(7،8). كما ظهرت بعض الوحدات المثلثة كرمز تجريدي مرتبط بالخصوبة لدى المرأة والعضو الأنثوي من حيث وظيفته شبيهة بالنماذج النطوفيّة والغسوليّة. شكل (9).
شكل (7) وحدة زخرفيّة لمثلث مدرَّج الأضلاع تعود إلى مطلع الثمانينات، قرية عزريت، شمال الأردن، من مقتنيات السيدة شهيرة الخطيب.
شكل(8) مطرزات أفعوانية تعود لمطلع الثمانينات، شمال ووسط الأردن، مقتنيات متحف البيت الريفي، السيد محمد الزعبي.
شكل(9) وحدة مثلث رأسه للأسفل ينصّفه خط أسود، وهي جزء من وحدات متكررة على شكل إفريز، قرية عزريت، شمال الأردن، مقتنيات السيدة شهيرة الخطيب.
تغلغلت التصوُّرات الفنيّة القديمة في التشكيلات الفنيّة كنوع من الارتباط بمظاهر التديُّن والاعتقاد في كافة مظاهر الحياة، وتقترن رمزيّة المرأة برمزيّة الأرض، كما اعتقد قدماء الكنعانيين في مواقع عدَّة بالإلهة الأم. وتزدان الأثواب بتكويناتها من تشكيلات هندسيّة ونباتيّة كعلاقة رمزيّة لارتباط المرأة بالأرض، فبوجود بعل تَخصب الأرض وتغتني بالنَّماء والوفرة، ومن الملفت أنَّ الكثير من الأثواب النسائيّة في الأردن كانت عليها تشكيلات من الأسفل على شكل مثلث مقلوب وينتهي بخط على رأس المثلث، وهو أحد رموز الخصب التي اقترنت بالإلهة الأم منذ القدم(عبيدات، 1997)، شكل(10)، ويقارب الباحث بين إشارة "إكس" (×) وبين تعويذة استخدمت بكثرة لدى النطوفيين والغسوليين في شمال الأردن تعود إلى الأعوام 3600 -4000 قبل الميلاد، على الآنية الفخارية اعتقادًا من القدماء بمنع القوى الشريرة من الاقتراب على تلك الآنية. شكل(11).
شكل(10) مطرزات، وحدة التربيعة يحتوي على خطين متقاطعين يكونان إشارة إكس (×) قرية عزريت، شمال الأردن، مقتنيات السيدة شهيرة الخطيب.
شكل(11) جرة فخارية لخزن الحبوب، ظهر عليها تخطيط يحتوي خطين متقاطعين، موقع أبو حامد، الأردن 3600- 4000 قبل الميلاد.
إنَّ شكل المثلث المستخدم بكثرة في الفنون الشعبية، بالإضافة لرمزيّته في الحماية، فيرتبط بتصوُّرات القدماء حول الإلهة الأم، وتحديدًا في منطقة الخصب (العنصر الأنثوي) ومنطقة البطن. وبحسب (فنصة) فقد نقلت النقوش السومرية والأكادية والبابليين وعرب الجزيرة والكنعانيين ما يصف جسد الآلهة الأم "أنانا وعشتار" من جوانب الخصب الذي يتشكَّل على هيئة مثلثين متقابلين، أعلاهما شمل منطقة البطن والسفليّ شمل الأرداف والعضو الأنثوي، وشكَّل تقابُل المثلثين تكوينًا معينيًّا، كما اهتمَّ نحاتو شرق المتوسط وبلاد الشام على ضفاف نهر الأردن بتزيين تماثيل جسد المرأة وما يرتبط بحمايتها بخطوط عرضيّة وإشارت تلك الأشكال لفصل الربيع لسببيّة الإنبات بسبب المطر والأرض(فنصة، 2020). من جانب آخر ارتبط إغناء المطرَّزات بالزَّخارف كوصف لقدرة المرأة على الخصب والإنجاب وكتعويذة لدرء الشرور ومنها العقم. وقد دلَّت الوشوم والأشكال التي رُسمت على المنحوتات في دول شرق المتوسط على أغراض طبيّة ورموز سحريّة للحماية وزيادة الإنجاب .(Joffe and Hallote, 2011)
استُخدِمَت الزخارف الأفعوانية في تطريز الأثواب، ويرمز الشكل الأفعواني لدى قدماء الكنعانيين للخصوبة والخلود(قشقوش، 2017). أمّا اللون الأسود، وهو اللون السائد لقماش المطرَّزات في الأردن، فقد وُظِّف لغايتين؛ الأولى جماليّة لتظهر تشكيلات الزخارف الملوَّنة بعدَّة ألوان، وغاية رمزيّة تذكِّر بموت الطبيعة وفقًا للأساطير الكنعانية التي اعتقدت بموت الإله بعل والإلهة إنانا واعادة انبعاثهما من جديد، أمّا اللون الأحمر الذي ظهر بكثرة على المطرَّزات كتمثيل ارتباط فاعليّته الفسيولوجية والسيكولوجية في الخصب مع مكانة المرأة.
• صناعة الفخّار
عُرفت صناعة الفخّار في منطقة بلاد الشام منذ القدم بسبب استخدامها في تلبية حاجات الإنسان، حيث ارتبطت في خزن الحبوب والزيت ومختلف الأغراض، وأظهرت الرُّسوم على الفخّار -فضلًا عن غاياتها الجماليّة- الأغراض المرتبطة بالمعتقدات، حيث ظهرت الأشكال الهندسية كالمعينات والمثلثات والخطوط المتقاطعة كرموز ارتبطت بالخصب ودرء الشرّ لحماية ما بداخلها، وتظهر جماليّة الرَّمز من خلال ربط تلك الأشكال بتعبيراتها، حيث اقتران شكل المرأة بتكوين الآنية الفخارية كبيرة الحجم، وخصوصًا محيطها كرمز للخصب المقترن بشكل المرأة. وجاء في بعض تلك الآنية استخدامها للأشكال اللوبية ذات النقطة المركزيّة، وهو تمثيلٌ للاعتقاد بالخلود، فالشكل اللوبي يعطي انطباعًا بالاستمراريّة.
بعد قراءة جمالية للنماذج التشكيلية الشعبية على الأزياء والمطرَّزات والفخاريّات وأطباق القشّ، نخلص إلى أنَّ هناك تضمينًا لصيغ تشكيليّة هندسيّة ورمزيّة واضحة، خصوصًا أنَّ الأشكال المنتشرة على التصاميم هي أشكال هندسية على الرغم من تنوُّعها إلّا أنها تبنَّت بعض الأشكال كالمثلث والمعين والشكل الأفعواني والدائري والزخارف النباتية والخطوط المتقاطعة، وهو ما يؤكد أنَّ تلك الأشكال هي رموز لأفكار تعامَلَ معها ومن خلالها الإنسان في بلاد الشام، وشكّلت امتدادًا للإرث التاريخي. على صعيد آخر ما زال الموروث الميثولوجي والجمالي حاضرًا في الذاكرة الجمعية للفنان التشكيلي المعاصر في الأردن، حيث ظهرت ثيمات فنيّة لها عمقها التاريخي الفلسفي والدلالي وتمثَّلت أشكالًا ورموزًا عبَّرت عن الحياة والكون والوجود والأمل والتديُّن والحماية والهواجس، ويشير "داميين" (Damien) إلى أنه على الرغم من ندرة الدلائل اللغوية غير أنَّ الغسوليين في الأردن مارسوا لغة بدائيّة وهي عبارة عن الأشكال المنحوتة والمرسومة على الأسطح، شكَّلت فيما بعد اللغات الكنعانية والأوغاريتية والسريانية والأرامية.(Damien , 2018)
• المصادر والمراجع:
- أحمد، محمد فتوح، (1984)، الرمز والرمزية في الشعر العربي المعاصر، دار المعارف، مصر، ط3.
- إمام، عبدالفتاح، (1998)، معجم ديانات وأساطير العالم، الكتاب الثالث، مكتبة مدبولي.
- جانسون.هورستولديمار ودورا جين، (1995)، تاريخ الفن العالم القديم ج1، ترجمة عصام التل، مراجعة رنده قاقيش، شركة الكرمل للأعلان.
- حتي فيليب، (1975)، تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، ترجمة جورج حداد ، ج1 ، دار الثقافة، بيروت.
- الحمزة، خالد، (1997)، التراث الشعبي التشكيلي في الأردن، منشورات جامعة اليرموك، إربد.
- الحوراني، يوسف، (1978)، البنية الذهنية في الشرق المتوسطي الآسيوي القديم، دار النهار للنشر، بيروت.
- السواح، فراس، (2002). مغامرة العقل الأولى دراسة في الأسطورة، سوريا، أرض الرافدين، ط13، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق.
- السواح، فراس، (2000)، لغز عشتار، ط6، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق.
- شيفلر، اسرائيل، ( 2016)، عوالم الصدق نحو فلسفة للمعرفة، ترجمة فاطمة إسماعيل، مراجعة مصطفى لبيب، ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
- الشقران، قاسم وعامر، محمد متولي، وعبابنة، وعد، (2020) الوحدات الزخرفية لبعض الأزياء التراثية الشعبية الأردنية، دراسة فنية تحليلية، المجلة الأردنیة للفنون، المجلد13، ع1، نیسان، 119- 141، جامعة اليرموك.
- صادق، محمود، (1995)، الفن التشكيلي في الأردن، منشورات لجنة البحث في تاريخ الأردن، سلسلة الكتاب الأم في تاريخ الأردن، مؤسسة آل البيت، الأردن.
- طبازة، خليل، (2013)، الظروف البيئية وتأثيرها على الفنون الحرفية التقليدية الشعبية في الأردن، المجلة الأردنية للفنون، مجلد 6، ع3، 361-378، جامعة اليرموك.
- طمان، سهام محمد علي، (1999)، مفهوم "الرمز" فى الفن الشعبي المصري وأثره فى التصوير المعاصر، كلية التربية الفنية.
- عبيدات، عبدالله، (1997)، تأثيرات البيئة في الرسم الأردني المعاصر، كلية الفنون الجميلة، جامعة بغداد، رسالة ماجستير غير منشورة.
- عصفور، محمد أبوالمحاسن، (1987)، معالم حضارات الشرق الأدنى القديم، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ط1.
- عطية، محمد محسن، (2002)، نقد الفنون :من الكلاسيكية إلى عصر ما بعد الحداثة، منشأة المعرفة الاسكندرية.
- فنصة، سعد، (2020)، قراءة جديدة في رموز الآلهة الأم، التمثل الجنسي في الأدب والشعر والنحث في الحضارة الرافدينية.
- https://ebd3.net/110186/
- قانصو، أكرم، (1995)، التصوير الشعبي العربي، سلسلة كتب عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
- قشقوش، إيمان، (2017)، تجلي المدينة في الثياب الشعبية الفلسطينية، مجلة المجمع، 12 ، 44-27.
- كاسيرر، (1975)، الدولة والأسطورة، نص مطبوع أرنست كاسيرر، ترجمة أحمد حمدي محمود مراجعة أحمد خاكي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
- كفافي، زيدان عبدالكافي، (2017)، عين غزال قرية أردنية عمرها عشرة آلاف عام، دراسات في آثار الوطن العربي، 12- 453.
- كفافي، زيدان، (1990). الأردن في العصور الحجرية، منشورات لجنة تاريخ الأردن، سلسلة الكتاب الأم في تاريخ الأردن، مؤسسة آل البيت، الأردن.
- المعاني،سلطان، (2016)، الهوية الحضارية في النقوش العربية القديمة، منشورات وزارة الثقافة، الأردن.
- محاسنة، إبتسام (2015). "المدرقة"..الثوب الأردني يحكي قصة الارتباط الوثيق بالأرض، مجلة العربي الجديد، 1 تشرين الثاني/ نوفمبر.
- المزين، عبدالرحمن، (1981)، موسوعة التراث الفلسطيني- الأزياء الشعبية الفلسطينية، منشورات فلسطين.
- نعمه، حسن، (1994)، ميثولوجيا وأساطير العالم القديم، موسوعة الأديان السماوية والوضعية، دار الفكر اللبناني، بيروت.
- Alexander H.JoffeJp.Dessel and Rchel.Hallote,( 2001)The Gilat woman, Female Iconography, Chalcolithic cult and the end of southern Levanine Prehistory
- file:///C:/Users/abd%20allh/Downloads/The_Gilat_Woman_Female_Iconography_Chalcolithic_Cu.pdf
- Damien, Arthope, 2018, The Ghassulian Star,” a mysterious 6,000-year-old mural from Jordan; a Proto-Star of Ishtar, Star of Inanna or Star of Venus?
https://damienmarieathope.com/2018/08/the-ghassulian-star-a-mysterious-6000-year-old-mural-from-jordan-a-proto-star-of-ishtar-star-of-inanna-or-star-of-venus/?v=32aec8db952d