"المكنز الوطني للتراث الأردني"‏ وجهود تقييد التراث

‏نايف النوايسة

كاتب وباحث في التراث الأردني

 

‏"المكنز الوطني للتراث الشعبي الأردني" هو واحد من مشاريع مديريّة التراث في وزارة الثقافة ‏الأردنيّة، ويطمح لتحقيق أهداف منها: تسهيل عمليّات البحث في العناصر التراثيّة، وتقنين ‏المصطلحات ذات العلاقة بالتراث الشعبي، ومواجهة الاختلافات اللهجيّة بين المناطق المستهدفة ‏بالمسح التراثي وجمع المواد التراثيّة، وصهرها في بوتقة الترادف وعلاقات التماثل الدلالي، ‏وتوفير أداة توثيقيّة تتَّفق مع أنظمة الحفظ والاسترجاع الإلكترونيّة الحديثة، وتيسير الوصول إلى ‏ما ينشده الباحث والمهتم في شؤون التراث من مواد تراثيّة ذات أهميّة.‏

 

أعلمُ أنَّ كثيرًا من المثقفين يبتعدون عن الخوض في موضوعة التراث الشعبي ويتجاهلونه في ‏دراساتهم لأنه في رأيهم يمثل الماضي ومن شأنه إضعاف اللغة والأدب الفصيح، ويشغل فكر ‏المثقفين بقضيّة لا فائدة منها.‏

لقد جرى تأكيد أهميّة الاقتراب من التراث والبحث في عناصره في كثير من المنابر الثقافية ‏العربية والعالمية، باعتبارها ضرورة حضارية كضرورة الجذر للشجرة، ففيه تكمن أساسات ‏البناء الثقافي وعناصر الهُويّة الوطنيّة لأيّ مجتمع، سواء كان تراثًا ماديًّا بكل ما يحمل من ‏إشارات التميُّز، أو تراثًا ثقافيًّا غير مادي تتوافر فيه عناصر الأصالة والقيم الإنسانية وخصائص ‏الفرادة القوميّة، ونحن نعلم سرعة امتداد العولمة إلى كل مفصل في مفاصل حياة الشعوب ‏وخطورتها وتأثيرها القويّ، وهيمنتها على الأمم التي لا تتسلّح بحصانة ثقافيّة ابتداءً من حماية ‏الجذر التراثي وإبقائه قويًّا صلبًا.‏

الأمر في يقيني جدّ خطير ولا بدّ من مواجهته بسلاح الفكر ونشدان الحرية والصلابة في الرأي، ‏وآن الأوان للالتفات إليه من كافة الجهات الرسمية وغير الرسمية وعلى رأسها المؤسسات ‏الأكاديمية التي يقع على عاتقها الجزء الأكبر من مسؤولية صون التراث والبحث فيه من خلال ‏الدراسات الجادة والأبحاث المعمّقة.‏

وإذا ما التفتنا إلى الجهود المبذولة في شأن التراث، فلا نجد إلّا جهودًا فرديّةً لمثقفين ندبوا أنفسهم ‏لهذه الغاية في فترة سبقت تأسيس وزارة الثقافة، ولا نعدم أن نجد بعض الجهود المبذولة من ‏جهات رسمية أخرى سبقت الوزارة كوزارة السياحة ووسائل الإعلام كالإذاعة وغيرها.‏

وممّا يجدر ذكره أنَّ التراث الثقافي غير المادي في الأردن وجد اهتمامًا قبل حوالي أربعة عقود ‏من المسؤولين في وزارة الثقافة، فجُمع بعضه وقيّد في أوعية متاحة في ذلك الزمن وتمّت ‏مراجعته للاستفادة منه في مشاريع ثقافية متعددة، وكان أبرزها (المكنز الوطني للتراث ‏الأردني)، ولاحظتُ أنَّنا كلّما جمعنا طائفة من عناصر هذا التراث، تبيَّن لنا أنَّ العديد من ‏العناصر الأخرى تستوجب بذل الاهتمام لجمعها.‏

والتساؤل الذي كان يلحّ على الخاطر حينًا من الزمن: "هل تلكّأنا كثيرًا في جمع تراثنا الشفويّ؟"، ‏وأقول من واقع التجربة: لا لم نتلكّأ، لاْنّنا قياسًا مع بعض الدول العربية التي سبقتنا في هذا ‏المجال، بدأنا عملية الاهتمام بالتراث وجمعه وتقييده بجهود فرديّة، أمّا حين تأسّست وزارة ‏للثقافة فكان من أولويات عملها النهوض بهذه المهمة. ‏

لكنّني أمام حساسية بعض الأكاديميين والمثقفين الذين يرون في جمع التراث الشعبي وإحيائه ‏امتدادًا للماضي الذي ينفرون منه، فإنني لأرى في تجارب الدول العربية والأجنبية ذات الحظوة ‏الحضارية المتقدمة والتي جمعت تراثها وقيّدته مع علوّ شأنها في الفكر والأدب والتكنولوجيا ما ‏يُقدّم الدليل على أنَّ هذه المهمة لا تتنافى مع التطلُّعات الثقافية والفكرية والتكنولوجية.‏

لقد لمستُ هذا الاهتمام في مصر في أكثر من لقاء؛ فقد شاركتُ ما بعد منتصف التسعينات ‏كباحث بأكثر من مؤتمر عقده المركز الحضاري لعلوم الإنسان والتراث الشعبي في جامعة ‏المنصورة، وبعض المشاركين في هذه المؤتمرات من بلدان عربية يحملون سيرة بحثيّة محترمة، ‏وكانوا يُجمعون على أهمية البحوث التراثية، وضرورة الخوض في تفاصيلها لمواجهة عواصف ‏العولمة بخصوصية ثقافية ذات جذور قومية راسخة، وأصدرت الجامعة مجلّتها البحثيّة في أعداد ‏خاصة متضمّنة البحوث المشاركة. ‏

وشاركتُ في مصر سنة 2005م بمؤتمر خبراء التراث العرب ممثلًا لوزارة الثقافة، والذي ‏نظّمته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في القاهرة، وقدّم كل مشارك في المؤتمر تجربة ‏بلاده في الشأن التراثي، واطَّلعنا على تجربة مصر في هذا الميدان من خلال عرض موسَّع قدَّمه ‏الدكتور مصطفى جاد لمكنز الفولكلور الذي تولَّت نشره مكتبة الإسكندرية ومركز توثيق التراث ‏الحضاري والطبيعي (مشروع توثيق التراث الشعبي)، وجرى التوافق بين المؤتمِرين على أنْ ‏تحذو دولهم حذو مصر في في وضع المكانز، وهكذا وُلدت فكرة المكنز في الأردن.‏

أمّا في لبنان فالجهود المبذولة لجمع التراث وتقييده وتحليله وكتابة البحوث والدراسات عنه ‏متعددة وكبيرة ومتقدمة، وقد وقفتُ على أهميّة هذه الجهود من خلال مشاركتي في مؤتمر الثقافة ‏الشعبية اللبنانية العربية في بيروت عند إعلان بيروت عاصمة للثقافة العربية سنة 1999م.‏

ومن هذه الجهود التراثية اللافتة وذات البُعد القومي والإنساني تلك التي كانت تقوم بها العراق، ‏وقد سبقت بذلك الكثير من الدول العربية، ولعلَّ في مجلة "التراث الشعبي" العراقية مثالًا دالًا ‏على هذا السّبْق في مضمار التراث، فقد بدأت هذه المجلة مسيرتها حين توالى صدور أعدادها من ‏شهر أيلول 1963م والتقى فيها نتاج ثقافي محترم من تراثيين عراقيين وعرب ممّن عظمت ‏تجربتهم البحثيّة وتراكمت لديهم الدراسات والبحوث التراثية قبل أن تولد هذه المجلة بعقود من ‏أمثال: إبراهيم الداقوقي وعبدالحميد العلوجي ولطفي الخوري وشاكر ضابط الخياط وإبتسام ‏مدهون الصفار وجعفر الخليلي والشيخ محمد رضا الشبيبي وشفيق الكمالي وإبراهيم السامرائي ‏وصفاء خلوصي وعبدالواحد لؤلؤة، وكامل إسماعيل، وأسماء كثيرة أخرى مهمّة، فضلًا عن ‏إصدار الكتب والموسوعات التراثيّة التي تصدّرت بها المكتبات ومعارض الكتب.‏

وحذت سوريا والسعودية ودول الخليج واليمن ومعظم الدول العربية في أفريقيا حذو مَن ذكرتُ ‏آنفا من الدول، فعلى سبيل المثال: مكنز التراث المغربي والذي قام على إصداره المركز المغربي ‏للتراث الشعبي والمخطوطات في الدار البيضاء، وهو من ضمن سلسلة (توثيق التراث)، وكان ‏هذا الجهد الجماعي من إعداد الدكتورة السعدية عزيزي وسعيد أيت زهرة وطارق المالكي، ‏ونشرته جمعية وادي الحجاج للثقافة والتنمية في ورزازات سنة 2008م، ومن مقدمة المكنز ‏أقتبس هذه الإضاءة المهمّة التي توضِّح الغايات التي قصد إليها هذا العمل، وممّا ورد: "فبادرة ‏أوّل مكنز مغربي للتراث الشعبي هي بمثابة حجر الأساس لإقامة قاعدة بيانات إلكترونية تشكل ‏دليلًا للمصطلحات والمفاهيم ذات الصلة بالمأثورات الشعبية، يسترشد به المهتمون والدارسون ‏في عمليات البحث والتكشيف والاسترجاع في النظم التوثيقية المحوسبة".‏

وقد حقَّق مكنز التراث الشعبي المغربي أهدافًا وجدتُ فيها الأهداف ذاتها التي طَمَح إلى تحقيقها ‏‏"المكنز الوطني للتراث الأردني"، وهي: تسهيل عمليّات البحث في العناصر التراثيّة، وتشكيل ‏أداة فاعلة لتقنين المصطلحات ذات العلاقة بالتراث الشعبي، وتوفير الوقت على الباحث في ‏التراث أثناء رحلته البحثيّة، ومواجهة الاختلافات اللهجيّة بين المناطق المستهدفة بالمسح التراثي ‏وجمع المواد التراثيّة، وصهرها في بوتقة الترادف وعلاقات التماثل الدلالي، وتوفير أداة توثيقيّة ‏تتَّفق مع أنظمة الحفظ والاسترجاع الإلكترونيّة الحديثة، وتيسير الوصول إلى ما ينشده الباحث ‏والمهتم في شؤون التراث من مواد تراثيّة ذات أهميّة.‏

كان للمجلات التراثيّة دور كبير في لفت النَّظر إلى موضوع التراث وضرورة الاهتمام به ‏ودراسته، فالتفَّ عدد من الباحثين التراثيين حول هذه المجلات وغذّوها بنتاج أقلامهم ورؤاهم ‏وما يطمحون إليه؛ فمن هذه المجلات ما تمّ ذكره كمجلة "الفنون الشعبية" الأردنية ومجلة "التراث ‏الشعبي" العراقية، ومنها أيضًا "المأثورات الشعبية" القطرية التي تصدرها إدارة التراث بوزارة ‏الثقافة والفنون والتراث، ومجلة "الثقافة الشعبية" التي تصدر في البحرين.‏

ومن التجارب المهمّة على هذا الصعيد ما تقوم به هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، ودور هذه ‏الهيئة متقدِّم على دور وزارة الثقافة في دولة الإمارات، وبخاصة فيما يتعلق بإدارة التراث ‏المعنوي، وقد صدر عن هذه الهيئة كتاب ذو أهميّة عنوانه "التراث غير المادي/ كيفيّة الحفاظ ‏عليه وإعداد قوائم الحصر: تجارب عربيّة وعالميّة) بالتعاون مع وزارة الثقافة والشباب ‏واليونسكو، واشتمل هذا الكتاب على أعمال الملتقى الإقليمي للمنطقة العربية حول اتفاقية ‏اليونسكو 2003م الخاصة بحماية التراث الثقافي غير المادي، وتركّز الحديث عن صون التراث ‏غير المادي وإعداد قوائم الحصر.‏

وتضمَّن هذا الكتاب ثمانية محاور ضمّت ثمانية وعشرين عنوانًا بحثت في موضوعات صون ‏التراث غير المادي وقوائم الجرد وتقنيات جمع وتوثيق ودراسة وترويج وإحياء التراث غير ‏المادي، ومن خلالها تمَّ الكشف عن التجارب العالمية والوطنية في هذا المجال.‏

ومن الأوراق المقدَّمة لهذا المؤتمر ورقة الدكتور هاني العمد التي تحدَّث فيها عن جهود الأردن ‏في جمع التراث غير المادي/ رسميًّا وفرديًّا، وعرض فيها جهود بعض المؤسسات التي جمعت ‏التراث وصنَّفته مثل: وزارة الثقافة التي قامت على إصدار مجلة "الفنون الشعبية" التي توقفت ‏حينًا من الزمن ثم عادت إلى الصدور ثم توقفت، ومتحف الحياة الشعبية الذي أغلق بعد فترة، ‏وتسجيل مواد تراثيّة على أشرطة "كاسيت" بلغ عدد ساعات التسجيل حوالي ألف ساعة، ووسائل ‏الإعلام وعلى رأسها الإذاعة والتلفزيون والصحف والمجلات والإنترنت، ووزارة السياحة ‏والآثار التي اهتمّت بالمتاحف وعروض الموسيقى والغناء والرقص والفرق الشعبية، ووزارة ‏التعليم العالي التي تدعم المشاريع العلمية ذات الصلة بالتراث، ومؤسسات المجتمع المدني ‏كالهيئات الثقافية والمتاحف والفرق الشعبية، والكُتّاب والباحثين في الشأن الثقافي الذين قدّموا ‏للمكتبة التراثيّة عشرات الكتب من تأليفهم. وانتهى الدكتور العمد في ورقته إلى الحديث عن ‏‏"المكنز الوطني للتراث الأردني".‏

ومن المهم هنا الإشارة إلى دور مديرية التراث في وزارة الثقافة الأردنية التي أخذت على عاتقها ‏منذ تأسيسها سنة 2010م رعاية وصون التراث الثقافي غير المادي في الأردن، وهو ما يُنظر ‏إليه على أنه الممارسات والتصوُّرات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات، وما يرتبط بها من ‏آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحيانًا الأفراد، جزءًا ‏من تراثهم الثقافي، ومن مشاريع هذه المديرية "المشروع الوطني لحصر التراث الثقافي غير ‏المادي" و"مشروع المكنز الوطني للتراث الشعبي الأردني".‏

وشاركتُ في أعمال ندوة: "التراث من الصون والتوثيق إلى الترويج والنقل لأجيال المستقبل"، ‏والتي نظمتها هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث احتفالًا باليوم العالمي للتراث، وأقيمت الندوة على ‏هامش فعاليات الدورة التاسعة عشرة لمعرض أبو ظبي الدولي للكتاب 2008م وكان عنوان ‏ورقتي: "التراث الشعبي العربي الخاص بالطفل ودور الصناعات الثقافية في ترويجه"، وركَّزتُ ‏فيها على كيفيّة الاستفادة من التقنيات الحديثة لحماية التراث الشعبي الخاص بالطفل.‏

وأخلص إلى أنَّ الحضارة في أيّ بلد كالشجرة، والتراث للحضارة كالجذر للشجرة، وإن لم نتعهَّد ‏الجذر بالعناية فلن تكون باسقة الأغصان ولا وافرة الثمار ولا وارفة الظلال، ولسوف تضعف ‏وتذوي وتيبس وتتحوَّل إلى حطبة تتقاذفها الريح.‏

‏ بعد كل هذه الإضاءات أجدُ من الضروري مواصلة الجهد التراثي في بلادنا دون خجل وفتور، ‏وما "المكنز" إلّا خطوة على طريق البحث التراثي. ‏