ابن خلدون ‏ رؤية المفكر عبدالله العروي

ابن خلدون ‏

رؤية المفكر عبدالله العروي

إسماعيل الموساوي

كاتب وباحث في الفلسفة والعلم من المغرب

 ‏

كان المحرِّك الأساسي لفكر ابن خلدون هو "فلسفة التاريخ"، ممّا جعله يبحث عن أسباب ‏التَّدهور الذي شهدته الأمة الإسلاميّة بعدما كانت تحتلّ المراتب العليا بين باقي الأمم ‏والحضارات، فهل نجح ابن خلدون في تعريف مفهوم العقل بعيدًا عن الطَّرح التقليدي؟ وهل ‏استطاع أن يخلّصه من شوائب إرث المتكلّمين وذهنيّتهم الواحدة المتحكِّمة في كل القضايا ‏والمسائل التي كانت تُثار باستمرار فتجد حلًا لها في عقل النص وعقل المطلق؟ هذا ما حاول ‏عبدالله العروي الإجابة عنه في كتابه "مفهوم العقل".‏

 

يَعتبِرُ الأستاذ عبدالله العروي مرحلة ابن خلدون بمثابة لحظة امتياز كبرى في الفكر العربي ‏الإسلامي، ويرجع اختياره لابن خلدون موضوعًا للدراسة لأسباب عدة يتمثَّل أبرزها في أنَّ ‏ابن خلدون -بحسب العروي- كان يحوم في كثير ممّا كتب حول مفهوم قريب ممّا حاول ‏توضيحه في كتابه "مفهوم العقل"(1)، وأنَّ ما يسمّيه العروي "العقل التجريبي"، الذي حاول ‏فيه ابن خلدون البحث عن الأصول المؤسسة له وكيفيّة ظهوره وبروز ما يميِّزه عن "العقل ‏النظري"، وهذه النقطة بالذات هي المحرِّك الأساسي لمقدِّمته، فيتعرَّض لها ابن خلدون في ‏العديد من المواضيع التي أدرجها فيها، ويعود إليها من طرق مختلفة وبعبارات متفاوتة الدقة ‏والوضوح، ممّا يدل على انشغاله بها، وربّما على شيء من الحيرة والتردُّد في شأنها. ‏

وانطلاقًا من هذا العرض المبسط للأسباب الداعية إلى اختيار ابن خلدون، تصادفنا هنا مسألة ‏أساسية وجوهرية بالنسبة لقرّاء المنظومة الخلدونية، ويمكن صياغتها على شكل سؤال وهو: ‏هل كان ابن خلدون مفكّرًا تقليديًّا؟

يجيب العروي عن هذا السؤال من خلال رجوعه إلى "كتاب ابن خلدون وفلسفته في التاريخ" ‏للدكتور محسن مهدي، والذي يؤكد فيه أنَّ ما يميز ابن خلدون عمَّن سبقه وتبعه في حقل ‏النظرية السياسية هو واقعيّته النابعة من منهجيّته الأرسطية، في حين أنَّ غيره كان مثاليًّا ‏أفلاطونيًّا، فهو في هذا الإطار يساير الاتجاه المعاصر، لكن على الرغم من هذا فإنَّ هذه السمة ‏لا تكفي، في نظر الدكتور محسن مهدي، لكي نجعل منه مفكرًا عصريًّا، لأنه لم يكن إمبيريقيًّا ‏بالتمام، ولا حتميًّا، ولا برغماتيًّا، ولا تاريخيًّا، ولا وضعانيًّا، ومن هنا يرفض محسن مهدي ‏مَن يجعل ابن خلدون (هيوميًا) قبل "هيوم"، و(كونتيًّا) قبل "كونت"، و(ماركسيًّا) قبل ‏‏"ماركس"، و(جيمسيًّا) قبل "جيمس"...إلخ. ‏

ومن هنا، فإنَّ ابن خلدون، لا ينكر أنه استفاد من سلفه، لكنه ينبِّه على ما ينقص مَن ينقل ‏عنهم إمّا في تصوُّر المسألة وإمّا في الحكم عليها، وهذا ما ظهر من خلال انتقاده لعلم الكلام ‏والتصوُّف على درجة؛ فلا ينتظر منه أن يعرض عن كل ما قيل قبله، ويأتي فقط بما لا ‏يسبقه أحد، وسيّما أنه يتحاشى ادِّعاء المكاشفة، ومَن يتصفَّح فصلًا من المقدمة يقول: "لا ‏جديد فيه"، ويكشف أنه يتعمَّق في مقاصد ابن خلدون ولم ينتبه إلى موقع هذا النَّقل أو ذاك في ‏مجموع الكتاب؛ إذْ الخلاصة لا توجد دائمًا في نهاية الفصل، والحكم المؤخَّر إلى فصل لاحق، ‏أو المقدَّم في الباب السابق، هو الذي يعطي للنقد معنى ودلالة جديدة وجيدة في الوقت نفسه. ‏

ابن خلدون والعقل العملي التجريبي

بذل عبدالله العروي جهدًا كبيرًا في بحوثه حول العقل والعقلانية في الإسلام، فقام بمراجعة ‏نقديّة للمباحث السياسية والاقتصادية والحربية في التاريخ العربي الإسلامي، وذلك من خلال ‏استحضاره للمنظومة الخلدونية، وكان هدف العروي من هذا الاستحضار هو: ‏

أولًا: الكشف عن محدودية المعارف العلمية التجريبية في الثقافة العربية الإسلامية بالبرهان ‏والدليل ممّا لا يدع مجالًا للرّيب. ‏

ثانيًا: الكشف عن جهود ابن خلدون في مجال العقل على الرغم من أنَّ مرحلة ابن خلدون -‏بحسب العروي- هي مرحلة امتياز ونضج في الفكر العربي الإسلامي. ‏

ومن هنا، سيقوم العروي بعمل نظري تاريخي محكم، حاصرًا فيه الفكر والمتن الخلدوني ‏بالرجوع إلى آثار السابقين عليه مثل أرسطو وانتقاده للمنطق الصوري، واللاحقين ممّن جاء ‏بعده في سياق تاريخ الفكر السياسي، ومباحث الحرب والاستراتيجية، ونخصّ بالذكر منهم ‏‏"ميكافيلي" و"مونتيسكو" و"كلاوزفتش"؛ إذْ لم يكن هدف هذه الدراسة لابن خلدون، أن يخرج ‏هذا الأخير من مسلسل البرهنة الرامية إلى المزيد من رسم حدود العقل العربي الإسلامي، بعد ‏نقد علم الكلام والمنطق، لكنَّ الأستاذ العروي يذهب إلى أبعد من ذلك بحيث يصوّب سهام نقده ‏الصارم والدقيق لمجال العلوم العملية، والتجريبية بما فيها "العمران وعلاقتها بالعقل"(مفهوم ‏العقل، ص177).‏

ويمكن أن نستكشف من خلال هذا العرض أنَّ العقل -بحسب العروي- هو واحد في الفكر ‏العربي الإسلامي، بمعنى أنَّ العقل المتحكِّم في هذا الفكر هو واحد على الرغم من الخلافات ‏التي ظلّت تنشأ "على أطراف والتخوم، لا على المعاقل والحصون"(مفهوم العقل، 359)؛ ‏بمعنى أنَّ العقل المطلق –على الرغم من اختلاف المشارب والمسالك- يؤدي حتمًا إلى عدم ‏التمييز بين المفهومين، (التجريبي والنظري). وكان يوظَّف هذا كله من قِبَل الحكيم والمتكلم ‏والمتصوف، والفقيه والمحدث، فوقعت هناك حروب بين هؤلاء بسبب اختلافاتهم حول ‏العبارات والأحكام، أمّا التصوُّرات التي كانت تحكمهم فهي واحدة -بحسب العروي- لأنَّ العقل ‏عندهم مجرد تأويل وتطلُّع إلى الأول والأولى، فهو "عقل الأمر والاسم"(مفهوم العقل، ‏ص359).‏

ويرى العروي في كتابه "مفهوم العقل" أنَّ الواقع ما سمّي "واقعيًّا" إلا لأنه وقع من أعلى ‏وكان ثنيًا على البدء، ومن خلال ما سلف ينبع لنا سؤال جوهري يصبُّ في الفكر الخلدوني ‏وهو: هل استطاع ابن خلدون بدوره أن يقطع مع هذه الذهنيّة الواحدة المتحكِّمة في هذا الفكر ‏منذ سنين؟ وخصوصًا أنَّ فكر ابن خلدون كان محرّكه الأساسي هو "فلسفة التاريخ"(2)، ممّا ‏جعله يبحث عن أسباب التدهور الذي شهدته الأمة الإسلامية بعدما كانت تحتل المراتب العليا ‏بين باقي الأمم والحضارات، فبين عشية وضحاها سرعان ما أصبحت من أسفل السافلين، ‏فهل نجح ابن خلدون في تعريف مفهوم العقل بعيدًا عن الطرح التقليدي؟ وهل استطاع أن ‏يخلّصه من شوائب إرث المتكلمين وذهنيّتهم الواحدة المتحكِّمة في كل القضايا والمسائل التي ‏كانت تُثار باستمرار فتجد حلًا لها في عقل النص وعقل المطلق؟ ‏

بحسب عبدالله العروي لا يمكن الجزم أنه نجح نجاحًا تامًّا، والدليل على ذلك هو أنَّ مفاهيمه ‏ليست اقتصادية، ولتحقيق أكثر يشير العروي بإلقاء نظرة على مصطلحات "مونيتسكو"، فهي ‏محرّرة من كل اعتبار ديني، والحقيقة أنه لم يقم هو بهذه العملية، بل استفاد ممّا أنجز منذ ‏قرون في مدن إيطاليا وهولندا وإنجلترا، ممّا يُعرف بالثروة التجارية، أمّا ابن خلدون فكل ما ‏استطاع أن يفعله هو أن يستفيد من ما هو مُتاح للبشرية جمعاء في زمنه، وخصوصًا المَخرج ‏الذي وجده عند الجويني، والذي مفاده أنَّ الاختلاف بين القدريّة وبين المعتزلة والأشاعرة هو ‏فقط حول التسمية؛ أو بعبارة أخرى هو نسبة الفعل (كل عمل ينسب للخالق ويكسب ‏للمخلوق)، وعندئذ لا اختلاف في أمر الأسباب القريبة الظاهرة للجميع. ‏

ابن خلدون داخل الذهنيّة الكلاميّة التقليديّة

لم ينجح ابن خلدون في التخلص من الموروث بحيث بقي حبيس الذهنيّة التقليديّة، وممّا أوقعه ‏في ذلك هو مفاهيمه المسحوبة بالاعتبارات الأخلاقيّة والدينيّة، وهذا ليس بغريب عنّا ما دام ‏ابن خلدون هو ذلك الفقيه السنّي، وموقف السنّة -بحسب العروي- هو موقف كلامي؛ "موقف ‏السنّة هو موقف كلامي بالمعنى الأوّل للكلمة"(مفهوم العقل، 272)، وعلى الرغم من الحلول ‏التي نهجها فإنَّها باءت بالفشل، لأنَّ ما يؤطِّره هو الذهنيّة الكلاميّة. ‏

إذن، "فالعقل عند ابن خلدون وسائر المفكرين المسلمين؛ إذْ يحاصر الوهم وينفيه عن مجال ‏النشاط البشري الجدّي، يحدّ ذاته بذلك، يمنع العقل ذاته، بمحاصرة الوهم، من الزيادة في ‏التعقُّل، فلا تتعدّى العبارة اللفظ ولا يتعدّى الرمز الحرف"(مفهوم العقل، 350). ‏

كان من الممكن لابن خلدون أن يتجاوز النظرية التقليدية لو تعمَّق في فحص مفهوم العقل ‏الكسبي "لو لم تكن هناك موانع تنهى عن التوسُّع في معنى الصَّنائع، ليست هذه سجينة اللفظ ‏والحرب، فهي مرشَّحة بمحض الممارسة إلى الاستغناء عن الأوّل أصلًا بالاعتماد على ‏المحاكاة، وإلى إبداع الرموز عبر الحرف المعتاد، أرقامًا في علم المحدود وخطوطًا في علم ‏الامتداد، حتى يصبح الرسم، والتخطيط أمّ الصناعات ما لم يحصل شيء من ذلك لأنه كان ‏خارج حدود المرئي والمتوهّم"(مفهوم العقل، 350). ومن هنا، يرى العروي أنَّ العلّامة ابن ‏خلدون كان بإمكانه تجاوز العقلية التقليدية، بيد أنه "حصر معنى العقل في التعقل والتعقيل، ‏وحصره هذا هو حصر الجميع، ومن هنا فكل ما يتولاه اليوم يبقى سجين حدوده فيتيه في ‏المفارقات"(مفهوم العقل، 360)، ذلك أنَّ ابن خلدون طبَّق علم الواقعات وأحداث التاريخ ‏البشري، منطق الكوائن والطبائع؛ بمعنى المتكلمين والحكماء، فسدَّ الطريق في وجه عقل ‏العمل البشري، وبالتالي عقل الطبيعة كما فهمها الفكر الحديث في مجال تجارب الإنسان ‏المتجدِّدة، فجعل العقل والعلم والحق في جانب، والوهم والظنّ والباطل في جانب مقابل، ثم ‏أبدل العقل التجريبي بالعقل التجريدي، فكان رائدًا في ذلك، لكن لم يخطر بباله أنه سقط في ‏حصره للعقل وتضييق المجال عليه؛ لأنَّ العقل عقل لا يورث ولا يكشف، وإنَّما يكتسب ‏بالتجربة المتجدِّدة، إنه عقل مشخّص محدّد ومحدود دائمًا بظروف الممارسة، مع العلم أنه ‏اعتقد أنه تجاوز الوقوع في هفوة علم الكلام، وأراد تأسيس علم التوقعات، وظنّ أنه توصّل ‏إلى العلم التجريبي والعملي المرتبط بالصنائع، "إنه لم يتصوَّر أنْ يصبح العقل التجريبي عقل ‏إنشاء وإنجاز"(3). ‏

ومن هنا، فإنَّ ابن خلدون -بحسب العروي- قد حصر المرئيّات في التحقُّق، ومنع نظريًا ‏الانفتاح على التجارب الوهمية الكاشفة عن المحتمل، وحصر نفسه في التاريخ الذي هو ‏محرك فكره واستبعد إمكانية التجديد والانفتاح بمعاكسته لسنن وقوانين هذا الكون، إنه جعل ‏العقل محاصرًا، وقانون تفكيره هو التوفيق والحصر في كل المجالات بما فيها السياسة والعلم ‏والتعبير... ‏

إنَّ العلم اليقيني والحق عند ابن خلدون واقعات "الحاصل المحقق بالفعل، وأمّا المقدّر المتوهم ‏المحتمل فهو وهم، والوهم لا يحد فلا يعلم"(4)، هذا الانسداد هو ما جعل صاحب المقدمة -في ‏نظر العروي- غير قادر على إقامة وتأسيس منطقي للفعل، ذلك أنَّ الفعل لا يكون فعلًا إلا إذا ‏كان تجرُّءًا على أمر غير محقّق، وهدفه التوقُّع الذي هو العمل وليس هو المعرفة المحدَّدة. ‏

وكما أشرنا سالفًا، فإنَّ صاحب المقدّمة محرّكه الأساسي هو فلسفة التاريخ، وحتى علم ‏العمران الذي استفاض فيه فهو علم طبيعي، وهو علم محقق منذ زمن معيّن، فهو ليس علمًا ‏إنسانيًا ناتجًا عن الإبداع والإقدام؛ لأنَّ ابن خلدون طبّق على علم الواقعات منطق الطبائع ‏بالمعنى الكلامي، فسدَّ الطريق في وجه العقل العملي كما أشرنا سالفًا، وبالتالي عقل الطبيعة ‏كما فهمها العلم الحديث في مجالات الإنسان وتجاربه. ‏

خلاصة

إنَّ الجهد الذي بذله العروي، في إبراز حدود ومحدوديّة الآثار العمرانية "يلتقي في نتائجه ‏العامة مع جهد أركون، في المحاضرات التي تناول فيها الإسلام والحداثة، حيث توقّف ‏بصورة تحليلية على تعيين حدود الأثر الرشدي في الفكر الإسلامي، فيوضِّح أركون استحالة ‏الاستنجاد بالرشدية ومشروعها في تعقل الظاهرة الدينية في العصور الوسطى الإسلامية؛ ذلك ‏أنَّ الإطار المعرفي للحداثة، كما بلورها تاريخ الغرب الحديث والمعاصر، الذي يقطع كلية مع ‏المنظور الديني"(5)، ومن هنا يمكننا تأسيس أفق آخر من العقلانية والمعقولية بالاعتماد على ‏تاريخ جديد، أساسه مجموعة من الثورات المعرفية والسياسية والاقتصادية، ومن هنا ضرورة ‏القطيعة مع منطق القرون الوسطى، لكنها لحظة معلّقة على تاريخ معيّن على الخلدونية ‏والرشدية وحدودها، وقد برهن العروي على طبيعة حدود هذا الفكر برمّته، مؤكدًا ضرورة ‏الانخراط والاستيعاب لمكاسب الحداثة، باعتبارها تندرج ضمن ما يسمى بالمتاح للبشرية ‏جمعاء، ومن هنا فإنَّ عملية البرهنة على لزوم القطيعة مع التراث من خلال حديث العروي ‏عن مفهوم العقل مساحة كبيرة، باستخدام مرادفات أشد صلابة في إبراز ضرورة القطيعة ‏ولزومها، للرفع والانتهاء من هذه المفارقات السائدة في الواقع بحيث يجسّد الشيخ المؤسّس ‏للإصلاح البعث والإحياء (بعث وتجديد الإسلام)؛ اللحظة الأولى تتناسل صورها وأشباهها، ‏على مسافة ما يقرب قرن من الزمان، ثم يضع الباحث يده على نمط المرجعية المعقّدة لأبعاد ‏التجديد السلفي، فيعيد ترتيب بعض جوانبها وقواعدها بالصورة التي تكشف عقلانيتها الاسمية ‏والنصية المتعالية، وهي عقلانية ترسم حدود النظر العقلي الآمر وهو العقل التراثي، العقل ‏المتحكِّم فينا منذ القرون الوسطى، وهذا التجاوز لا يمكن أن يتسنّى لنا إلّا عن طريق الاختيار ‏والحسم، وهذا ما دعا له العروي، حيث قال: "إنَّ الحسم الذي نتكلم عنه وقع بالفعل، في جميع ‏الثقافات المعروفة لدينا، ابتداء من القرن 16 إلى يومنا هذا"(مفهوم العقل، 363)، وهو يتحدد ‏بالقطيعة مع ذهنية القرون الوسطى، وبالتالي القطع مع الموروث الذي طالما قيل عنه مبني ‏على العقل إطلاقًا، إلا أنه في الحقيقة مبني على اللاعقل، "وتنعكس العلائق والأسباب في ‏ممارستنا اليومية، ونود شيئا نراه صالحًا مفيدًا لنا، ثم نتبع سبيلًا يبعدنا عنه، ظنًّا منّا أنّنا بذلك ‏نتوسّط في أمرنا ولا نغلو، أو أنّنا نوافق بين المعقول والمنقول"(مفهوم العقل، 359)، بهذا ‏الاختيار الحاسم، يلخص الأستاذ عبدالله العروي موقفه من مفارقات التراثيين القدماء، وحتى ‏الجدد وأصحاب الدعوات والحلول التوفيقية والمختلين والمراوغين والبراغماتيين، وبهذا ‏الحسم الأخير، نتمكن -في نظر العروي- من مغادرة ذلك الماضي التراثي النصي عن طريق ‏مغادرة حصون عقل الأمر والاسم؛ لأنَّ هذا العقل تجاوز التاريخ، وبهذا نكون قد فسحنا ‏المجال لعقلانية الأزمنة الحديثة ونتحدَّث لغتها، وفي الوقت نفسه ننقص من حدّة المفارقات ‏التي ما تفتأ تواجهنا، ونتصالح مع التاريخ، حيث نكون قد تجاوزنا عقليّة القرون الوسطى، ‏وتمكنّا من الانخراط في معقوليّة الحداثة، وهذه الأخيرة هي التي حرَّكت كتابات العروي منذ ‏‏"الأيديولوجية العربية المعاصرة" (1967)، الذي أكَّد فيه أنَّ السبب الذي دفعه إلى الكتابة هو ‏التعثُّر في بناء الدولة الحديثة، الناتج عن "تعثُّر واضح على المستويين السياسي والثقافي، في ‏مسيرة المغرب بعد عشر سنوات من استقلاله"(مفهوم العقل، 23)، فكانت بوادر مشروعه ‏موجّهة بنقد كل من الشيخ ورجل السياسة وداعي التقنية، وهذا النقد استمرّ إلى غاية كتاباته ‏الأخيرة؛ ممّا لا يدع أيّ مجال للشك بأنَّه لا زال يدافع على ما يصبو إليه (التاريخانية)، وهذا ‏ما نستشفّه من خلال كتاباته الأخيرة وسيّما كتابه "السنة والإصلاح"، الذي يقول فيه بصريح ‏العبارة: "لا أرى نفسي فيلسوفًا -مَن يستطيع اليوم أن يقول إنه فيلسوف؟- ولا أرى نفسي ‏متكلّمًا ولا حتى مؤرِّخًا همّه استحضار الواقعة كما وقعت في زمان معيَّن ومكان محدَّد، لم ‏أرفع أبدًا راية الفلسفة ولا الدين ولا التاريخ، بل رفعت راية التاريخانية في وقت لم يعُد أحد ‏يقبل إضافة اسمه إلى هذه المدرسة الفكرية لكثرة ما فُنّدت وسُفهت"(ص6)، ومن هنا يتضح ‏لنا جليًّا جرأة الأستاذ العروي وشجاعته في تبني المواقف، والبوح بما يصبو إليه دون تستُّر أو ‏إخفاء، متبنيًا الوضوح ومجتنبًا الغموض والالتباس، ولعلَّ هذه الصفات التي تميِّز الأستاذ ‏عبدالله العروي عن باقي المفكرين العرب.‏

 

الهوامش والمراجع:‏

‏(1) عبدالله العروي، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، ط3، 2001.‏

‏(2) محمد عابد الجابري، "مواقف" إضاءات وشهادات، العدد32 مقال: "ابن خلدون بين الوضع ‏الثقافي بين الأمس واليوم"، وأكد فيه الجابري أن ابن خلدون عالج واقعًا لم ينته بعد، بحيث أنّ ابن ‏خلدون حاول أنْ يفلسف التاريخ العربي الإسلامي حيث وجد نفسه في منعطف هو بداية الانحطاط، ‏وعاش تجربة سياسية مرّة، ما دعاه أن يتساءل: لماذا هذا السقوط؟ وكان شاغله هو البحث عن أسباب ‏قيم الدول وسقوطها من منظور شامل أقرب إلى فلسفة التاريخ.‏

‏(3) عبدالسلام بن عبد العالي، التاريخانية والتحديث، دراسات في أعمال عبدالله العروي، دار توبقال ‏للنشر، الدار البيضاء- المغرب، ط1، 2010، ص40.‏

‏(4) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.‏

‏(5) كمال عبداللطيف، الفكر الفلسفي في المغرب: قراءات في أعمال العروي والجابري، أفريقيا ‏الشرق، ص6.‏