السّارد في مجموعة "لم أمُتْ.. ولستُ على قيد الحياة"

‏ للقاص رفعات راجي الزّغول

د. مسلك ميمون

ناقد مغربي

 

في قصص رفعات راجي الزغول، وبخاصّة من خلال مجموعته القصصية "لم أمُتْ.. ولستُ ‏على قيد الحياة"، نجده يهتمّ بالسّارد العليم؛ على الرّغم من أنَّ السارد العليم يعدُّ من مُخلفات ‏فترة مضت وتركت أثرها جليًّا في روايات القرن التّاسع عشر بخاصّة... غير أنّ ما يشفعُ ‏للقاص رفعات الزغول في تعامله مع السّارد العليم، أنّ القصص واقعيّة عاشها القاص، أو ‏كان شاهدًا على أحداثها، لذا جاء التّفاعل قويًّا، والتّأثير بالغًا، والبوح صادقًا، والأفكار ‏واضحة.‏

إنّ للسّارد/ الراوي (‏narrator‏) أهمّية كبرى في الدّراسات السّردية، لأنّه يقوم بالسّرد فيتّخذ ‏من خلاله مواقع تحدّد رؤيته، وتبيّن وظيفته. يُعرّفه "جيرالد برنس" بأنه "الشّخص الذي يقوم ‏بالسّرد، والذي يكون شاخصًا في السّرد"(1) ويرى "رولان بارت" أنَّ "السّارد والشّخصيات ‏بشكل جوهري، هي كائنات من ورق، وأنَّ المؤلف المادّي لسرد ما لا يُمكن أن يلتبس في أيّ ‏شيء آخر مع سارد هذا السّرد"(2)، وترى د.يُمنى العيد أنَّ "الرّاوي عنصر من عناصر العمل ‏الإبداعي، إلا أنّه عنصر مُهيمن يمثل الصّوت الذي يختفي خلفه الكاتب، لأنّه هو الذي يمسك ‏بكلّ لعبة القصّ"(3).  

ومن ثمّ وجبَ عدم الخلط بين المؤلف الماديّ والمؤلف الضّمني/ السّارد. ذلك أنّ الأوّل بهويّة ‏حقيقيّة معروفة، والثّاني شخصيّة تخييليّة من ابتكار المؤلف، وقد يكون واحدًا مفردًا كراوٍ ‏رئيس، كما هو في أغلب الأعمال الكلاسيكية، وقد يكون في النّص عدّة رواة كما هو في ‏الأعمال الحديثة. وأهمية السّارد في النّص تتجلّى فيما يقوم به من وظائف كما حدّدها "رولان ‏بارت": الوظيفة السّردية، والوظيفة التّنظيمية للنّص، والوظيفة التّواصلية. وهي وظائف كما ‏نلاحظ، لا يتحقّق النّص السّردي الإبداعي التّخيلي إلا بتوفّرها. 

فما دامت هناك وظائف، فهذا يحتّم وجود رؤية راصدة، أو وجهة نظر ما (‏View point‏) ‏يحدِّدها "تودروف" في ثلاث رؤى: ‏

الرّؤية الخلفية: وهي الرّؤية التي يمتلك فيها السّارد معرفة أكثر من الشّخصية.‏

الرّؤية المحايثة: وهي رؤية تتطابق فيها معرفة الرّاوي مع معرفة الشّخصيات.‏

الرّؤية من الخارج: وهي الرّؤية التي يعرف فيها السّارد أقلّ من أيّ شخصية من  

‏ شخصيات العمل السّرديّ.‏

ولعلّ كلّ الأحداث التي تسرد تفاصيلها، تجري في مَساق زمنيّ يحدّده "جرار جنيت" في ‏أربعة مَساقات:‏

الزّمن اللاحق: وهو الزّمن الذي يسرد فيه السّارد أحداثًا وقعت في الماضي. 

الزّمن السّابق: وهو زمن القصّة التنبؤية الذي يسرد فيه السّارد القصّة بصيغة المُستقبل. 

الزّمن المُتواقت: وهو زمن القصّة بصيغة الحاضر المزامن للعمل. 

الزّمن المُقحم أو المتداخل: وهو زمن تتنوع فيه الأزمنة داخل العمل السّردي(4). ‏

بعد هذا التّوضيح لمفهوم السّارد، وأهميته، والرّؤية السّردية واختلافها، وتنوع الزّمن ‏وتداخله.. نحاول رصد السّارد في قصص القاص رفعات راجي الزغول، وبخاصّة من خلال ‏مجموعته القصصية "لم أمُتْ.. ولستُ على قيد الحياة".‏

عنوان المجموعة

لعلّه من الأفيد قبل الخوض في حالات السّارد أن نقف عند عنوان المجموعة الذي جاء في ‏صورة جملتين مُتناقضتين، مُشْبعتين بالنّفي، الأولى: "لم أمتْ.." نفي الموت، بمعنى الإقرار ‏بالحياة. والثّانية: "ولست على قيد الحياة" نفي للحياة بمعنى إقرار بالموت. فكيف يجتمع نفي ‏الموت ونفي الحياة؟ والإقرار بالحياة والإقرار بالموت؟! إلّا أنْ يكونَ ذلك مَجازًا، الشّيء الذي ‏يذكر بقوله تعالى: "ثمّ لا يموت فيها ولا يحيى"(سورة الأعلى/ آية 13)، وهذا على مَذْهب ‏العَرب، تقول للمُبتلى بالبلاء الشّديد: لا هو حي ولا هو ميت. وفي هذا إشارة مبدئيّة لمعاناة ‏ذاتيّة مُستمرّة، لبعض أبطال النّصوص. 

تذكِّرنا أيضًا بأسطورة بروميثيوس من الميثولوجيا الإغريقية، الذي سرق النّار ومنحها للبشر، ‏فغضب منه (الإله) زيوس، فعاقبه بأن قيّده بالسّلاسل إلى صخرة كبيرة في القوقاز... وسلّط ‏عليه نسرًا جارحًا ينهش كبده كلّ يوم... ثمّ ينمو الكبد مجدّدًا في اللّيل.. أو قصّة سيزيف الذي ‏عاقبه زيوس أيضًا، بأن يحمل صخرة‎ ‎من أسفل الجبل‎ ‎إلى أعلاه، فإذا وصل القمّة، تدَحرجت ‏إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمّة، ويظلّ هكذا إلى الأبد، فأصبح بذلك رمز‎ ‎العذاب ‏الأبديّ‎.‎‏ 

وأسفل العنوان الرئيس، وردت عبارة توضيحية: "قصص وأحداث من واقع الحياة"، فكان ‏الكاتب/ القاص رفعات راجي الزغول واضحًا مع نفسه وقارئه؛ بأنّ الكتاب يتضمّن نصوصًا ‏قصصية، ونصوصًا أخرى عبارة عن تقارير لأحداث، وذكريات، وأماكن، وعادات، ‏وتقاليد.. ولقد أفصح عن ذلك في تصدير نص "طريق الآلام": "لا‎ ‎أعرف‎ ‎لماذا‎ ‎اخترتُ‎ ‎هذا‎ ‎العنوان‎ ‎لهذه‎ ‎الذّكريات"(ص67).‏

السّارد العليم في صورته المهيمنة

اهتمّ القاص رفعات الزغول بالسّارد العليم (‏Omniscient‏) ويقول السّرديون: "إنَّ ‏استراتيجية السارد العليم هي أبسط أنماط السّرد، ولكنّها بالأساس أخطر أنساقه"، ونلمس ذلك ‏في قصّة "حمدة" إذ نلاحظ تبئيرًا خارجيًّا، السّارد يعلم: [الشخصية= الرّؤية من الخارج= ‏حكيًا موضوعيًّا سلوكيًّا]، إذ يعمد السّرد إلى الوصف الخارجي الواقعي: "منذ‎ ‎الصّباح‎ ‎الباكر‎ ‎وصلت‎ ‎حمدة‎ ‎إلى‎ ‎بيت‎ ‎أخيها،‎ ‎كان‎ ‎الكلّ‎ ‎في استقبالها، يا‎ ‎له‎ ‎من‎ ‎استقبال‎ ‎حافل‎!!!‎‏ الأولاد‎ ‎جميعهم‎ ‎يقتربون‎ ‎منها ويقبلون‎ ‎يديها، زوجة‎ ‎الأخ‎ ‎عانقتها‎ ‎بكلّ‎ ‎شوق،‎ ‎الأخ‎ ‎عانقها‎ ‎العناق ‏الأخير‎ ‎وهو‎ ‎يرتجف‎ ‎ويبدي‎ ‎لها‎ ‎شوقًا‎ ‎غير‎ ‎مسبوق،‎ ‎شعرت‎ ‎حمدة‎ ‎أنّها تملك‎ ‎الدّنيا‎ ‎وما‎ ‎فيها"(ص6)، ففي مثل هذه الحالة تكون للسّارد وضعيّتان: فإمّا أن يُذكر من طرف القاص ‏‏(‏intradiégétique‏)، ويمكن ألا يُذكر في المَشهد إطلاقًا (‏extradiégétique‏)، ولكن ‏القاص فضَّل الحالة الأولى فجاء بالسّارد العليم في صورته المهيمنة، يدلي برأيه، فمثلًا: ‏يصف الأخت التي احتال عليها أخوها وأخذ منها نصيبها من الأرض بالمسكينة: "دخلت‎ ‎ميسون‎ ‎الغرفة‎ ‎وكانت‎ ‎تسترق‎ ‎السّمع‎ ‎وراء‎ ‎الباب‎ ‎لتسمع جواب‎ ‎المسكينة"(ص7)، بل يواصل ‏السّارد اقتحامه وفرض رأيه، وكأنّه يوضِّح لماذا وصف "حمدة" بالـ"مسكينة" فيقول: "حمدة‏‎ ‎هي‎ ‎المثال‎ ‎للعطاء والإيثار،‎ ‎حمدة‎ ‎هي‎ ‎مثال‎ ‎للضّحايا،‎ ‎حمدة‎ ‎هي‎ ‎مثال‎ ‎للمرأة‎ ‎السّاذجة البسيطة،‎ ‎تنازلت‎ ‎حمدة‎ ‎عن‎ ‎حصّتها‎ ‎في‎ ‎الإرث‎ ‎مقابل‎ ‎كلمات، تنازلت حمدة‎ ‎عن‎ ‎حصتها‎ ‎لأخ‎ ‎لن‎ ‎يعود‎ ‎لدعوتها‎ ‎مرّة‎ ‎أخرى"(ص8)، ولم يكتفِ بهذا، بل يبدي تعجُّبه واندهاشه: "كم‎ ‎من‎ ‎حمدة‎ ‎تعيش‎ ‎بيننا‎ ‎هذه‎ ‎الأيّام؟ كلّ‎ ‎النّساء‎ ‎حمدة،‎ ‎ولكن كلّ‎ ‎واحدةً‎ ‎على‎ ‎طريقتها"، ثمّ يستمر السّرد في الحديث ‏عن سيدة أخرى هي "صبحا"، وكيف سُجّلت الأراضي باسم إخوتها الذّكور فقط، وحُرمت من ‏الإرث. ثمّ ينتقل السّرد بعد ذلك للحديث عن "جانيت"؛ سيدة أخرى من ضحايا مجتمع ‏ذكوري، وهنا يصبح السّارد مشاركًا إذ يقول: "كنتُ‎ ‎أذهب‎ ‎لشراء‎ ‎العنب‎ ‎من‎ ‎جانيت‎ ‎لتحدثني‎ ‎وتقول‎ ‎إنّها‎ ‎لا تملك‎ ‎شيئًا‎ ‎من‎ ‎هذه‎ ‎الأرض‎ ‎وأنّه‎ ‎من‎ ‎العيب‎ ‎أنْ‎ ‎ترث‎ ‎الأرض،‎ ‎فالأرض هي‎ ‎من‎ ‎حقّ‎ ‎الذّكور‎ ‎ولا‎ ‎حقّ‎ ‎للإناث‎ ‎في‎ ‎الأرض"(ص9)، أو قوله: "قال‎ ‎لي‎ ‎أحد‎ ‎المعذبين‎ ‎في‎ ‎الأرض‎ ‎إنّ‎ ‎إبن‎ ‎الأخت..."، أو قوله في سرد آخر: "ولقد‎ ‎حدّثني أحدُ‎ ‎الأصدقاء‎ ‎عن‎ ‎حمدة‎ ‎أخرى.."(ص10)، وينهي السّارد القصّة التي تضمّنت جملة أقاصيص لنساء وثقن في ‏إخوتهن الذّكور وتنازلن عن حصّتهن أملًا ألا يتجاهلَهن الإخوة عند الحاجة، ولكن العكس هو ‏الذي وقع نتيجة الشّرَه وحبّ التّملك.. فيعلّق السّارد المُهيمن: "مجتمعنا‎ ‎الظّالم‎ ‎يَغصّ‎ ‎بأمثال‎ ‎حمدة‎ ‎وصبحا‎ ‎وجانيت،‎ ‎وأكاد أجزم‎ ‎أنّ‎ ‎معظم‎ ‎نساء‎ ‎وطني‎ ‎هنّ جانيت‎ ‎وحمدة‎ ‎وصبحا،‎ ‎فهل‎ ‎من‎ ‎منقذ لهؤلاء؟؟‎!!‎‏"(ص11).‏

وفي نص "أمّ سليم" ظاهرة تقديم العزاء في رجل توفي وذكره بالذّكر الحسن حتّى وإن كان ‏في حياته عكس ذلك: بخيل في أعمال الخير، كريم في أعمال الفساد. أمّا وفاة أمّ سليم على ‏الرغم من أنّها سيّدة، وزوجة فاضلة وواعية ومثقفة، وأمّ لخمسة أولاد وخمس بنات، لم يقم ‏لها عزاء كما تستحق، ولم يقم لها صوان، ولم يعلن عن اسمها، ولم يتم نعيها في الصحف، ‏ولا في الرّاديو ولم تقم دعوات "للمناقيص" ولم يتقبّل أهلها العزاء في المقبرة كما هو الشّأن ‏في الموتى الرّجال. لا لشيء إلا لأنّها امرأة. يهمّنا من كلّ هذا السّارد الذي تابع السّرد ‏بتوضيح قصصي كانَ كافيًا لإيضاح مدى الفرق بين جنازة الرّجل وجنازة المرأة؛ ما يوضّح ‏بجلاء نظرة العادات والتّقاليد المتوارثة في شأن المرأة، في مجتمع محافظ، تشكّل المرأة ‏وذكرها عوْرة، ينبغي تفاديها.. ولكنّ السّارد يأبى إلّا أن يُدلي برأيه فيعلّق: "وعلى‎ ‎استحياء‎ ‎كان‎ ‎عزاء‎ ‎أمّ‎ ‎سليم، لم‎ ‎تعط‎ ‎حقّها‎ ‎على‎ ‎الإطلاق"(ص14)، ثمّ يعقّب في نهاية القصّة: "مرّت‎ ‎السّنون دون‎ ‎أن‎ ‎تتغيّر‎ ‎نظرة‎ ‎النّاس‎ ‎لتقبل‎ ‎العزاء‎ ‎في‎ ‎المرأة. هل‎ ‎لنا‎ ‎أن‎ ‎نكون‎ ‎فاعلين‎ ‎للتّغيير؟‎!!!!‎‏"(ص14). ويتكرّر السّارد العليم المُهيمن في نص "مريض الطّوارئ"(ص80)، ‏ونص "حفلة التخرج"(ص83).‏

 

السّارد العليم المشارك

هذا السارد يشبه الذي نجده في قصة "ثقيل الظّل"؛ فهو سارد مُمثّل في الحكي، أو جوّاني ‏الحكي (‏Homodiégétique‏) فهو بطل حكيه، والحكي يأخذ صبغة ذاتيّة ‏‏(‏Autodiégétique‏)، فالسّارد وبضمير المتكلّم يحكي عن صديقه الفضولي كثير الأسئلة: ‏‏"وصلت‎ ‎إلى‎ ‎القسم‎ ‎في‎ ‎الصّباح‎ ‎الباكر... دخل‎ ‎وسيجارته‎ ‎في‎ ‎فمه،‎ ‎أزاح‎ ‎عن‎ ‎الطريق‎ ‎كلّ‎ ‎الكراسي‎ ‎ليصل إلى‎ ‎الطّاولة‎ ‎التي‎ ‎أجلس‎ ‎خلفها،‎ ‎ليهديني‎ ‎قبلاته‎ ‎الحارة‎ ‎على‎ ‎الوجنات... جلس ‏على الكرسي بدون استئذان.. بحث‎ ‎عن‎ ‎منفضة‎ ‎السّجائر‎ ‎لكي‎ ‎ينفض‎ ‎الجزء‎ ‎المنطفئ‎ ‎من ‏السّيجارة.. بدأ‎ ‎بالسّؤال‎ ‎عن‎ ‎زوجتي وعن‎ ‎الأولاد‎ ‎فردًا‎ ‎فردًا، سألني‎ ‎عن‎ ‎أحد‎ ‎الأولاد‎ ‎وعن‎ ‎معلومات‎ ‎لا أفتّش‎ ‎عنها‎ ‎ولا‎ ‎أعرفها‎ ‎إطلاقًا،‎ ‎استدرك‎ ‎قائلًا: ابنك‎ ‎الكبير‎ ‎لماذا‎ ‎لم‎ ‎ينهِ دراسته‎ ‎في‎ ‎الوقت‎ ‎المحدّد...؟

عاد‎ ‎ليتابع‎ ‎أسئلته،‎ ‎فخرجتُ من‎ ‎الغرفة‎ ‎دونما‎ ‎استئذان،‎ ‎عدتُ إلى‎ ‎الغرفة‎ ‎فلم‎ ‎أجده‎ ‎ووجدت‎ ‎أسئلة‎ ‎مكتوبة‎ ‎في‎ ‎ذاكرتي‎ ‎سيسألني‎ ‎عنها في‎ ‎زيارته‎ ‎القادمة!‏‎!!‎‏". 

ويتكرّر السّارد العليم المشارك وبصيغة المتكلّم في قصّة "الصديق"(ص18): "كنتُ‎ ‎على‎ ‎موعد‎ ‎للذهاب‎ ‎معه‎ ‎إلى‎ ‎دعوة‎ ‎عشاء.."، وكذلك نجده في نص "جمع الوثائق"(ص21): ‏‏"صديق‎ ‎هادئ،‎ ‎لمّاح،‎ ‎مخلص،‎ ‎يحبّ‎ ‎الخير‎ ‎للنّاس". 

أمّا في قصّة "الإندونيسي"، وإن كان السّارد عليمًا ومشاركًا، فقد جعله القاص مهيمنًا أيضًا، ‏بمعنى أنّ السّارد لم يكتف بالسّرد، بل علّق على الحدث أيضًا: "جاء‎ ‎هذا‎ ‎الإندونيسي‎ ‎ليعلّمني‎ ‎أنا‎ ‎العربي‎ ‎المسلم‎ ‎دروسًا‎ ‎في كافة‎ ‎مناحي‎ ‎الدّين‎ ‎الإسلامي،‎ ‎وهو‎ ‎ليس‎ ‎بخرّيج‎ ‎من‎ ‎كلية‎ ‎الشّريعة‎.‎‏..‏

ودّعته‎ ‎وأنا‎ ‎أرثي‎ ‎حالنا،‎ ‎وبُعدنا‎ ‎عن لغتنا،‎ ‎وتركنا‎ ‎لها،‎ ‎وإهمالنا‎ ‎تعلّمها،‎ ‎والحرص‎ ‎عليها،‎ ‎وتكالب مؤسساتنا‎ ‎الرّسمية‎ ‎على‎ ‎هدم أسس‎ ‎اللّغة‎ ‎العربية،‎ ‎لغة‎ ‎القرآن‎ ‎الكريم، فهل‎ ‎من‎ ‎عودة‎ ‎لها‎!!!‎‏"(ص25). 

أمّا في قصة "زليغم" فنجد ساردًا عليمًا ومشاركًا ولكنَّ القاص جاء به مُحايدًا، يكتفي بالسّرد، ‏ويحتفظ بمسافة محققًا بذلك التّبئير الخارجي، بحيث أنّ السّارد يعلم، والشّخصية= الرّؤية من ‏الخارج، والحكي موضوعي/ سلوكي، إذ يَعمد السّارد إلى الوصف الخارجي للواقع: "دخل‎ ‎إلى‎ ‎غرفتي‎ ‎كالمارد،‎ ‎يروح‎ ‎إلى‎ ‎اليمين‎ ‎والشّمال‎ ‎بلا‎ ‎تركيز، شفتاه‎ ‎متدليتان،‎ ‎يرفع‎ ‎يديه‎ ‎إلى‎ ‎الأعلى، ‏يهذي‎ ‎ويتمتم‎ ‎أحيانًا‎ ‎بكلمات غير‎ ‎مفهومة..."(ص26)، ويتكرّر السّارد نفسه في النصوص: ‏‏"النّصف الآخر والحقوق"، و"عشرة أيّام في موسكو"، و"العربية المخلصة"، و"التّطوع"، ‏و"المختار"، و"النّصف الآخر والمهمات"، و"التأشيرة"، و"رفقَا بنا يا إبراهيم"، و"طريق ‏الآلام"، و"في ذكرى الأربعين"، و"ليلة هادئة"، و"توأم الروح"، و"لم أمت ولست على قيد ‏الحياة"، و"مطجة". 

 

وظائف السّارد في المجموعة 

إذا اعتمدنا وظائف السّارد الخمس التي جاء بها "جرار جنيت": السّردية، والتّنظيمية، ‏والتّواصلية، والتّوثيقية، والأيديولوجية، فإنّها وردت جميعها متفرّقة في نصوص المجموعة 

وأهمّها الوظيفة الأولى: 

‏1- الوظيفة السّردية: فقد عمد القاص من خلال السّارد إلى سرد الأحداث في ترابط، وتكامل ‏وتجانس.. خدمةً لفكرة النّص، كما اهتمّ بتقديم الشّخصيات بحسب الأهمية والخيار القصديّ كما ‏هو في النّص الأوّل "حمدة": حمدة، (وأخوها وأسرته)، وصبحا (وإخوتها الذين أوهموها أنّهم ‏وحدهم الوارثون حتّى أصبحت تعتقد الأمر كذلك)، وجانيت (والسّارد وكيف كان زبونها ‏يشتري منها العنب، وكيف أخبرته أنّها لا تملك الأرض بل هي لإخوتها الذكور، وأنّه عيب أن ‏ترث الأرض، فذلك من حقّ الذكور). 

‏2- الوظيفة التّنظيمية: وقد حرص القاص من خلال السارد على دقّة تنظيم الأحداث في ‏تسلسل واقعيّ تبعًا لمبدأ الأسْباب نفسها التي تؤدي للنّتائج نفسها/ كما هو في نص "أم سليم" فإنّ ‏اعتماد النّظرة التّقليدية المتخلّفة للمرأة وعدم التّحرر منها، انعكس على وضع ومكانة المرأة في ‏المجتمع حيّة وميّتة بحيث وقعت المفاضلة الظّالمة بين الجنسين، ففضلًا عن أنّ المرأة قد تحرم ‏من إرثها الشّرعي لصالح إخوتها الذّكور، وتقوم بكلّ واجباتها كزوجة وأمّ، وقد تكون مثقفة، ‏فإنّ رجُلًا أقلّ منها شأنًا، وقد تكون عيوبه منفِّرة ومع ذلك إذا مات يُذكر بخير ويعلن عن ‏وفاته، ويقبل أهله العزاء، بينما المرأة تحرم من كلّ ذلك. 

‏3- الوظيفة التّواصلية: ونلاحظ أنّها شائعة في كلّ النّصوص، ما دام القاص قد اعتمد أساسًا ‏السّارد العليم المهيمن والمُشارك.. إذ -وكما لاحظنا آنفًا- إنَّ السّارد لا يتردّد في أن يرسل ‏إشعارًا مُباشرًا للمَسرود له، ليكون على بيّنة ممّا يهدف إليه السّرد، وما ترمي إليه فكرة النّص. ‏لهذا اتّسمت اللّغة بنوع من الوضوح.. لا يَفترِض تأويلًا. 

‏4- الوظيفة التّوثيقية: تكاد تكون عامّة، لأنّ النّصوص واقعية اجتماعية، وتأخذ طابع ‏الذّكريات واسترجاعها باعتماد الأشخاص المقرّبين، وممّن لهم صلة بالسّارد/ القاص: مثل ‏

‏"النّصف الآخر والحقوق" و"المختار" و"رفقًا بنا يا إبراهيم".. وكذلك الأمكنة "عشرة أيّام في ‏موسكو" و"طريق الألم" و"التأشيرة".. 

‏5- الوظيفة الأيديولوجية: وهي مسألة قد تكون خفيّة بين السّطور يمكن استنتاجها، وقد تكون ‏معلنة وصريحة كما هي في جلّ نصوص المجموعة. فالسّارد لم يكتم شيئًا، ولم يعمد إلى ‏التّلميح والإيماء وفسْح المجال للتّأمّل والتّساؤل، بل عمد إلى التعليق وإبداء الانطباعات، ‏واستصدار الأحكام... والمسألة عادية ما دام القاص ارتأى اختيار سارد عليم مهيمن، وقد ‏لاحظنا آنفًا تدخُّلاته المباشرة وبخاصّة في نهاية بعض النّصوص كقوله في ختام نص "حمدة ‏‏": "..وأكاد أجزم‎ ‎أنّ‎ ‎معظم‎ ‎نساء‎ ‎وطني‎ ‎هنّ جانيت‎ ‎وحمده‎ ‎وصبحا، فهل‎ ‎من‎ ‎منقذ ‏لهؤلاء؟؟‎!!‎‏". 

 

حقًا إنّ التّعامل مع السّارد العليم تضاءلَ بشكل ملحوظ في السّرديات عامّة. وذلك يعود لعدّة ‏اعتبارات فنّية، وذوقية وفلسفية.. لأنّ السّارد العليم من مُخلفات فترة مضت وقد تركت أثرها ‏جليًّا في روايات القرن التّاسع عشر بخاصّة. فكثير من النّقاد يرون أنّ ما كان مُمكنًا ‏ومُستساغًا في ظرفٍ زمنيّ ما، قد لا يُناسب حساسيات العصر الحاضر... غير أنّ ما يشفعُ ‏للقاص رفعات راجي الزغول في تعامله مع السّارد العليم، أنّ القصص واقعيّة عاشها القاص، ‏أو كان شاهدًا على أحداثها، لذا جاء التّفاعل قويًّا، والتّأثير بالغًا، والبوح صادقًا، والأفكار ‏واضحة، فلا غروَ إن كان رأيه على لسان السّارد رأي العارف المتمكّن. 

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ المصطلح السردي، جيرالد برنس، ترجمة عابد خزندار، ط‎7‎، المجلس الأعلى للثقافة ‏‏(المشروع القومي للترجمة)، القاهرة، ص‎751‎‏.‏

‏(2)‏ ‏ طرائق تحليل السرد الأدبي، رولان بارت وآخرون، (التحليل البنيوي للسرد، رولان ‏بارت) ص27.‏

‏(3)‏ ‏ تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، د.يمنى العيد، ط‎1‎، دارالفارابي، ‏بيروت، لبنان، ص‎715‎‏.‏

‏(4)‏ ‏ معجم مصطلحات نقد الرواية، لطيف زيتوني، ص106.‏