جلال بن عبدالله:‏ تخوم الفنّ بين التُّراث والذّاكرة

أماني بنزايد ‏

كاتبة تونسية وباحثة في الفنون

 

المتأمِّل في أعمال جلال بن عبدالله الفنيّة يلاحظ تعلّقه بالتّـراث ومظاهر الحياة الشّعبيّة ‏كمرجعيّة ثابتة، من خــلال مواضيـع متـواترة تـروي مـا بقـي راسخًا في ذهنه وما بقى ذكرى ‏من مظاهر الحياة القديمة بعاداتها وتقاليدها ونماذجها الإنسانيّة، ومن تراثها الزّخرفيّ ‏والحِرَفِي. ونلحظ جيدًا أنه يمتلك ذاكرة خصبة؛ يظهر ذلك من خلال نقله للحياة اليومية ‏القديمة بدقّة تسجيليّة عالية بطريقته الخاصّة، حتى إنه يمكن لنا أنْ نتعرَّفَ على عمله دون أيّ ‏توقيع، وتكاد أعماله الثّريّة تمثِّل تيّارًا تأصيليًّا قائمًا بذاته.‏

 

على مدى سنين عدّة أوجد الفنّان "جلال بن عبدالله" طريقًا مغايرًا للتعبير عن الانتماء، ‏فلوحاته تمثل تعبيرات وجوديّة ترتكز على التراث والذاكرة. وُلد بن عبدالله في ضاحية من ‏ضواحي تونس العاصمة سنة 1928 من عائلة شعبيّة تعيش في محيط شعبي بسيط؛ لذلك ‏أتت أعماله الفنيّة تعبيرًا وترجمة واقعيّة عن حياة الفئة الشعبيّة التونسيّة الأصيلة متحرِّرًا من ‏التيار الفني الغربي الذي سيطر على الفن التونسي أثناء الاستعمار الفرنسي، فكانت أعماله من ‏صميم الحياة والعادات والتقاليد الشعبية التونسية.‏

إنَّ السمات الأسلوبيّة في قدرات فكريّة أو تطبيقيّة ماديّة توضِّح تسلُّل روح ومخيال الذات ‏الفنّانة في تجسيد الأفكار والتصوُّرات الذهنيّة التي تميِّزه دونًا عن غيره، معبِّرة عن ذاته ‏وقناعاته والمؤثرات الداخلية، وبالتالي إنتاجهه لمعانٍ فنيّة متجسِّدة في صورة ماديّة، فهو ‏يشكِّل صورًا وتصوُّرات بصريّة تحتلّ حيّزًا من الأحاسيس والمشاعر التي يشاركه فيها ‏المتلقّي، في حال تواجدت تلك التفاعلات الفكرية والجمالية، والتي من الممكن أن تُنتج ذاكرة ‏ومخيال جمالي انطلق من خصوصيّة ذاكرة الفنّان إلى فضاء الآخر على الرّغم من احتفاظ ‏العمل بسرِّه الجماليّ، فهو لا يبوح إلّا بما أراد الفنّان أن يرى، أو أن يبذل المتلقّي جهدًا لكشفه. ‏

لطالما ظهر تأثُّر بن عبدالله بما يراه في محيطه التراثيّ، فقد شكَّل له مصدرًا بصريًّا ينهل منه ‏مقاربات جماليّة مختلفة مغايرة تميِّزه عن غيره، حيث استحضر تراثه في استعادته لرموزه ‏وأشكاله التي صاغها بأسلوبه الخاص، باحثًا عن استقلاليّته وفردانيّته في تعاطيه الفني لهذا ‏التراث، وفي هذا الإطار يعرِّف عفيف بهنسي التراث بأنه "مظهر الإبداع الفردي والجماعي، ‏وهو أفضل تعبير عن الذاتيّة الثقافيّة وعن الهويّة الحضاريّة الخاصة"(1).‏

يظلُّ الأثر الفني ناتجًا عن اليومي الإنساني؛ فهو ترجمة لظروف الحياة، وأيّ تجربة فنيّة لا ‏تخلو من التزام معيَّن أو ذاكرة راسخة في فكر الفنّان، ولعلَّ رسم مظاهر الحياة اليوميّة في ‏أعمال بن عبدالله كان مزيجًا من الرغبة في إنتاج طريقة مختلفة لحضور الذاكرة، وعلى ما ‏يبدو أنَّ خصوصيّة بن عبدالله في كونه قد خلق لنفسه مرجعيّة فنيّة خاصة به تعود إلى تمسُّكه ‏بمفهوم الذاكرة التي أنطقت أعماله الفنيّة، فأصبح الواقع جزءًا لا يتجزّأ من العمل الفني يحاكي ‏الأحداث على اختلاف تفاصيلها اليوميّة، اجتماعية، ثقافية... لكن ضمن حضور مفهوم ‏الذاكرة. ‏

ويبدو أنَّ رغبة بن عبدالله في التعبير بطريقة مُغايرة هو ما جعل تجاربه تنزاح إلى إنتاج فن ‏مُغاير يقوم على الانفتاح على تجارب فنيّة أسلوبية أخرى. والمتأمِّل لأعمال بن عبدالله ‏يستشفّ العُمق الفكري لأعماله، فربما كانت العناصر التراثيّة عنصرًا تشكيليَّا مهمًّا سهّلت ‏عليه طرح منطقِه الفنيّ الذي تجاوز الشَّكلنة السطحيّة إلى علاقات تشكيليّة تجمَع الرَّمز بالرَّمز ‏والشَّكل بالشَّكل واللّون باللّون، فجسَّدَتْ هذه العلاقات التشكيليّة بأسلوبه جَسَدَ الحياة اليوميّة ‏التي خلدت في ذاكرته، ولتجعل رائيها يحبس أنفاسه أمامها، وكان التراث البصري هو منطلق ‏أعماله الفنيّة؛ حيث أخَذَ التراث وخزَّنه في مخياله ثم أعادَ بناءه بأسلوبه وفق نظرتِه الفنيّة ‏الخاصة.‏

إنَّ قوة البصيرة الفنيّة تحيا داخل الفنان؛ داخل فكره وخياله وإدراكه، قوَّة ماديّة تتشكل هي ‏فطنة ومخيال ذهني أصيل، فلا يرتهن فكر بن عبدالله إلى ضجيج اليومي، بل هو مرتبط ‏بذاكرة أمينة مثَّلت مختبرًا تشكيليًّا بالنسبة له، فأشكال التحضُّر تتبلور في التَّوجيه الرّاقي نحو ‏الذاكرة والتراث، فهو يبيّن طرحه الفني بين الذاكرة والتراث؛ بين مرجعيّة الذاكرة الشعبية وما ‏اختزنته من صور اختزنها منذ الطفولة، وذاكرة سلسة عبّرت عن تقاليد حياتيّة ومعتقدات ‏وقناعات أخلاقيّة، فيصبح الفن وسيلة إمتاع واستمتاع عندما تؤثث العلامة والرمز رؤاه، ‏فيكون التأويل فرصة للتأمُّل جماليًّا وفكريًّا، فهو نوع من الارتداد وعودة للوعي يترجم طاقة ‏الدلالة الفنية من الشكل والمضمون، فاللوحة تجود وتتكلم، تستبيح محرّماتها أمام الآخر فيكون ‏شاهدًا على ولادتها "فمن ولادة المولود مثلًا وخروجه من حيّز القوة إلى حيّز الفعل، من حيّز ‏الممكن إلى حيّز الوجود، تكون شرارة لتصوُّر ولادة الكون وخروجه من حيّز الفكر إلى حيز ‏الفعل وانتقاله من الأشكال المطلقة إلى أشكال المادة"(2).‏

استوطنت أعمال بن عبدالله، بل آثرت، نفسه التوّاقة إلى البحث، لينشأ خطابٌ جماليٌّ موغلٌ ‏في الترميز، مستغلًا تراثًا شعبيًّا وذاكرةً عاشها واستحضرها في أعماله الفنية من خلال ‏الصورة التي تترجم مشاعرَ أحسَّ بها في يوم من الأيام، أيقظ حواسه في إنتاج خطاب جمالي ‏مخصوص تتجلّى فيه الرُّؤية التشكيليّة من خلال المخيال الشعبي.. فالحضور استكان في ‏جلباب الذاكرة وأضحى يتلوَّن بأصباغ وأشكال مزركشة كشفت عمق اللامرئي من الشكل ‏التراثي، هو صوت.. هو صورة... هو رمز... حضر وتجلّى في حلّته البهيّة فعانق ذاكرة ‏فطريّة وطفوليّة، فأضحت تعيش أزمنةً غير الأزمنة وواقعًا خبر الوجود الحقيقيّ، على ذات ‏استفاقت على الجوهر وحالفت الإبداع والخلق وحذقت في مختبرات الواقع الشعبيّ.‏

أن تسبح في الخيال يعني رؤية الأشياء الواقعيّة وإعادة تنظيمها وفق طرق ومعالجات إبداعيّة ‏مبتكرة، وفق منظومة رمزيّة ينسجها منشؤها على هواه... فعندما يُبدع الفنّان في التواصل مع ‏الواقع والماهية، فهو لا يعني الواقع المشهود حسب، بل يقصد أشياء ملموسة موجودة في ‏الواقع وإنَّما نلتمَّسها بخيالنا عن طريق تصوُّراتنا وهو ما يجعلنا نبدع، إنه الارتقاء بخيالنا نحو ‏رؤية للواقع لتصبح نظرتنا نظرة غير مألوفة، نظرة إبداع عبر "إيجاد ما لم يسبق إلى مثله ‏ويُقال أبدع إذا أتى بالشيء الغريب"(3)، وهذا ما نستشفّه في تجربة الفنان من خلال تجربته ‏الفنيّة مع الحياة اليومية والحياة الشعبية، ومن خلال العودة إلى الماضي، للأسلاف والأجداد، ‏ليطوّع نظرته الفنيّة إلى فعل إبداعي. إنَّ الذاكرة الخصبة تمثل منطلق الأعمال، فالمتأمل في ‏أعمال بن عبدالله يلاحظ تعلّقه بالتّـراث ومظاهر الحياة الشّعبيّة كمرجعيّة ثابتة من خــلال ‏مواضيـع متـواترة تـروي مـا بقـي راسخًا في ذهنه وما بقى ذكرى من مظاهر الحياة القديمة ‏بعاداتها وتقاليدها ونماذجها الإنسانيّة ومن تراثها الزّخرفيّ والحِرَفِي. ونلحظ جيدًا أنه يمتلك ‏ذاكرة خصبة؛ يظهر ذلك من خلال نقله للحياة اليومية القديمة بدقّة تسجيلية عالية بطريقته ‏الخاصة، حتى إنه يمكن لنا أن نتعرَّف على عمله دون أيّ توقيع، وتكاد أعماله الثّريّة تمثِّل ‏تيّارًا تأصيليًّا قائمًا بذاته استمرّ ويستمرّ على مدى سنين عدّة. وإلى جانب أنَّ أعماله شملت ‏مظاهر مختلفة من حياة المجتمع فقد اهتمّ بتصوير المرأة وهي تطبخ.. وهي في ميعادها مع ‏النسوة... صوَّر أيضًا ذلك الرجل الشرقيّ في السوق وهو يعزِف... والرجل بائعًا.. وفلّاحًا... ‏

إنّه الوجود في ثوبه الفني، طفرة في ذات اشتاقت إلى ماضٍ أفل زمانه، ولكنه استكان إلى ‏حنين فيّاض، فجلال بن عبدالله فكر وثقافة وظفها في مادته التشكيليّة، فأكسبها وجودًا ثريًّا، لا ‏إنصات غير إنصات المادة إلى الفكرة... تروي حكايات شعبية، روايات وأقاويل وأهازيج ‏ملوّنة بثقافة الأمس: "بما يزخر به ويتوفر عليه من الرموز ذات الدلالات العميقة والعلامات ‏المؤكدة لسرِّ العبقريّة التي أنجبتها، وتبقى تلك الرموز والدلالات ملهمة أشكال تولِّد بدورها ‏أشكالًا أخرى وفق الرؤى المتجددة والسياقات والتعبيرات المختلفة. وأيًّا كانت مصادر تلك ‏الرموز والعلامات، وأيَّا كانت الحضارات التي أنشأتها، فإنَّ الفنان يكتسب من القدرات ما ‏يساعده على توظيفها في السياق التعبيري الذي يؤكد فاعليّة أدائه لوظيفته"(4).‏

ولئن شملت أعمال الفنّان بن عبدالله مظاهر مختلفة من حياة المجتمع، وصورًا مختلفة ‏لمكوّناته، إلاّ أنّه خصّ المرأة بالحظّ الأوفر من إبداعاته؛ حيث صوّرها في جلِّ حالاتها: ‏المرأة المُعينة الحاذقة التي تقوم بأعمالها المنزلية، وصوَّر المرأة عاشقة الميعاد مع جارتها، ‏فتظهر النساء بألبستهنّ التّقليديّة ضمن إطار معماريّ تقليديّ مزخرف؛ وقد صوَّر المرأة ‏بملامحها وصفاتها  الجماليّة العربيّة.‏

إنَّ تجربة بن عبدالله لم تظهر من فجوة اللاموجود، بل تبلورت عبر فكرِه من خلال علاقته ‏بالمرئيّة الجماليّة للمحيط، عبر أسلوب مبتكر ترجَمَ من خلاله مخياله وإلهامه الفني، وجاءت ‏أعماله في علاقة مع المجتمع وزاده التراثي. كما تعكس أعماله كيانًا إنسانيًّا و كيانًا إبداعيًّا ذا ‏حسّ جمالي، ومثَّلت المرجعيّة التراثيّة أساسًا في أعماله، فقد ساهمت في تكوين خطاب رمزي ‏تأويلي حاملًا لقراءات متعدِّدة، ودمَجَ المرجعيّة التراثيّة لإبراز أهميّة خطابِه الفني، فجاءت ‏أعماله تلبس رداء التراث، وهو ما جعل المتلقي -بمختلف فروقاته- أقرب لفهم أعماله ‏واستكشافها، فهي تردِّد عوالم يوميّة واقعيّة، فنلاحظ حضور الذاكرة عبر الشكل والبناء ‏واللون والأسلوب والتقنية، أحداثًا وصوَرًا ومشاهدَ تترابط فيها الإحساسات المختلفة، الفكريّة ‏والبصريّة منها، فالفنان يعبِّر عن انتماءاته الذاتيّة من خلال صياغته لأثر فنيّ مشبع بدلالات ‏تعبيريّة ورمزيّة، حاكت في مضمونها الموروث، فنَقَلَ واقعًا معيشيًّا يوميًّا عبْر أسلوبه ‏وتشكيله الفنّي الذي يبيِّن لنا حنين الفنّان لذلك الواقع، فامتاز الفعل الإبداعي بالمُراوحة بين ‏التراث والتردُّد على عوالم يوميّة واقعيّة‎.‎

الفنّان يفكِّر ويحوِّل تفكيره عبْر المادة إلى أشكال مرئيّة لتصوّراته الذهنيّة، فيتكلّم الفن لنرى ‏ونسمع ونتساءل: أيّ لغة يتكلم بها؟ والرؤية الفنية للأشياء هي رؤية مخالفة، حيث تكون من ‏زاوية مخالفة ومتميّزة. ويمتلك الفنّان ملَكَة يستطيع من خلالها تفسير اللامرئي والدواخل ‏بأسلوب فنّي جمالي، فهو مَن يقول ما يريد، وما لم نستطِع قوله، وما نريد أنْ نقول، لأنَّ الأثر ‏الفني هو عالَم حقيقة ماديّة يتجسَّد ضمن عالم المرئيّات؛ فهو لا يتخلّى عن ذاكرته. ‏

لقد عمد بن عبدالله إلى صياغة أعمال مشبعة بالرُّموز والأشكال التراثيّة، عبْر فعل اختزال ‏وتبسيط تلك الأشكال وتطويعها في صياغة العمل الإبداعي. هذه العمليّة في استعادته للموروث ‏جعلت الشكل التراثي يسافر بقدرات ذهنيّة وفكريّة تخصّ الفنان، إضافة لتوليده مفهوم الذاكرة ‏في إنتاج هذا الأثر الإبداعي، فتعتبر هاته الأخيرة "خلاصة تنتج من خلال تفاعل الفنان مع ‏الواقع الموضوعي، والواقع العيني المحسوس والمتخيَّل"(5)، فالفنان ركّز على فعل الاستعادة، ‏فاعتمد على ذاكرته لصياغة أعمال تُنتج قيمًا تعبيريّة تشكّل تأليفه الفني الخاص، فجعل من ‏هذه الذاكرة أداة تترجم رؤيته الجمالية التي تنمزج بين البعد الحسي والعقلي(6).‏

إنَّ أعمال بن عبدالله لا تزال حيّة، فعلى الرّغم من وفاته إلّا أنه يستمر في بعث الحياة بأعماله ‏في نسيجها الإبداعيّ.‏

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ بهنسي (عفيف)، العمران الثقافي بين التراث والقومية، دار الكتاب العربي، القاهرة، ‏‏1997.‏

‏(2)‏ ‏ بيدة (الحبيب)، مجلة الحياة الثقافية، السنة 25، العدد119، نوفمبر 2000، ص2.‏

‏(3)‏ ‏ وهبة (مراد)، معجم المصطلحات الفلسفية (المعجم الفلسفي)، دار قباء الحديثة للطباعة ‏والنشروالتوزيع، القاهرة، 2007، ص328.‏

‏(4)‏ ‏ انظر مقال الصولي (أحميدة): "فن الحفر رافد من روافد الفنون التشكيلية" الوارد ‏بمجلة الحياة الثقافية، العدد 214 جوان 2010، ص98.‏

‏(5)‏ ‏ بن عبداالله (جنات)، الاستعارة البصرية وأبعادها في إنشائية العمل التشكيلي، نشر ‏بتاريخ 16 كانون2/ جانفي 2013، بموقع الصحافة اليوم، ص1.‏

‏(6)‏ ‏ برلين (ايزايا‎(‎،حدود الحرية، ترجمة جمانا طالب، بيروت، دارالساقي، ط1، ‏‎ ‎‏1992، ‏ص24.‏