الشِّعرُ حارس اللّغةِ.. وموثّق سِيَر الأوّلين

 

محمد خضير

شاعر أردني

 

الشِّعر، ومنذ ولادته، ما زال يحفظ هيبة لغتنا العربيّة التي غبطنا عليها الشاعر الألماني ‏‏"غوته" بالقول: "ربَّما لم يحدث في أيّ لغة هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة ‏والخطّ مثلما حدث في اللّغة العربيّة"، هذا الرّأي؛ منبعه الشعر القادر على رفد اللّغة ‏بالكثير من الموسيقى والانزياحات القابلة للتأويل والتحليق بعيدًا عن سماء العاديّة.‏

مئة عام خلَت، كان الشعر فيها حارسًا للّغةِ، جامعًا للحكايات، موثّقًا لسير الأوّلين.. ومنذ ‏البدايات؛ قاوم الشعراء مشروع فرض اللغة التركيّة على الأمّة العربيّة، فاجتمعوا على ‏استعمال العربيّة، واشتغلوا على بعث الوعي الوطني عبر القصائد والأناشيد، كما سعى ‏الأمير عبدالله بن الحسين (الملك المؤسِّس) إلى جمْع الشعراء في إطار إمارته للذَّود عن ‏العروبة والعربيّة، فقرَّب من ديوانه شعراء عرب ولغويّين، منهم "سعيد الكرمي، ‏مصطفى الغلاييني، عادل أرسلان، فؤاد الخطيب، محمد علي الحوماني..."، ومنحَ ‏آخرين الجنسيّة الأردنيّة ليحظوا بمناصب عليا لاحقًا، مثل "محمد الشريقي، نديم الملاح، ‏تيسير ظبيان، شكري شعشاعة..."، وجميعهم أسهموا في رسم ملامح الشعر الأردني، ‏ومن أبرز مَن تأثَّر بحضورهم والاحتكاك بهم صاحب العشيّات مصطفى وهبي ‏التل"عرار"، الذي اشتبك شعره مع الدارجة/ العامّية، فأمسى ظاهرة فريدة التفّ حولها ‏كثير من الشعراء الذين حفروا أسماءهم عميقًا في ذاكرة الوطن.‏

في هذا الملف، سنأخذ القارئ في رحلة إلى بعض محطات الشعر الذي اتَّخذه العرب ‏ديوانًا لهم، معتذرين عن عدم تغطية مئة عام كاملة من عمر الدولة الأردنيّة؛ كان الشعر ‏فيها مرجعًا للحكمة، مصاحبًا للجيش في ثغوره الكثيرات منذ الثورة العربية الكبرى وحتى ‏الكرامة، وإذا صحّ الحديث: "لا تَدعُ العربُ الشّعرَ حتّى تدعَ الإبلُ الحنين"، فنحن إذن ‏أمام منتَجٍ باقٍ ما بقيت لغتنا؛ أفرَزَ الكثير من الأسماء، وترك لنا قصائد حفظت للشعر ‏مكانته، ورسمت للوطن ملامحه، كما أنَّها وثّقت له وأرشفته.‏

وإذا أردنا الحديث عن أيّ رحلة فلا بدّ أن نستذكر الخطوة الأولى التي أثّثت لها طريقها، ‏فكانت المحطة الأولى مع البدايات التي أسّس لها الأديب الشاعر الملك عبدالله الأوَّل ابن ‏الحسين، وقد تناول سيرته الدكتور زياد الزعبي، الذي طوّف بنا حول مشاركة الملك في ‏إثراء المشهدين الأدبي والشعري، ودوره في بعث الحركة الشعرية ورعايتها. وفي ‏المحطة الثانية استكشفنا مواطن الحداثة والتطوّر في الشعر الأردني، فأخذنا الدكتور ‏محمد الحوراني إلى القديم والحديث وشيءٍ من الأسطورة التي حضرت في شعرنا ‏المعاصر. أمّا المحطة الثالثة فكانت في عهدة الدكتور ناصر شبانة، تناول فيها دور ‏النقد وأشكاله ومساهماته في رفع سويّة الشعر وهبوطه. وفي المحطة الرابعة دفع بنا ‏الدكتور عماد الضمور نحو المشهد الشعري العربي وتأثيراته على شعراء الأردن. وفي ‏محطتنا الخامسة كان لا بدَّ من تحقيب الزَّمن وفرْز الأجيال، فقدّم لنا الدكتور محمد ‏عبيدالله، مادة بيَّن فيها بعض الظواهر الشعريّة والجماعات التي لعبت دورًا مهمًّا في ‏ديمومة المشهديّة الشعرية وتطوُّر أدواتها. أمّا المحطة السادسة فكانت للبنية الإيقاعيّة في ‏شعر تيسير السبول الذي قصُرت حياته وطالت سيرته الإبداعيّة، كتب هذه المحطة ‏الدكتور راشد عيسى الذي أثراها برسم بعض التفعيلات التي اتّكأ عليها الشاعر في ‏موسيقاه الشعريّة. أمّا المحطة السابعة والأخيرة، فكانت لتحوُّلات قصيدة النثر عند ‏الشاعر أمجد ناصر، وهي نموذج من نماذج لحاق الشعر الأردني بركب الحداثة ‏والتطوُّرات التي لحقت بقصيدة الشعر العربي، أثْرَتها الدكتورة مها العتوم ببعض ‏الشهادات وأبرز الأسماء التي انشغلت بها وكتبتها.‏

والشعر عبْر رحلته الطويلة، طال النسيان بعض مبدعيه بعد أن طاشت صنّارة الغاوين؛ ‏فلم يجدوا مَن يطبع لهم قصائدهم، سواء على صفحات الذاكرة، أو على وجه الرّقاع، فيما ‏حظي بعض مبدعيه بالدوام والبقاء، بعد أن تناقل الناس أخبارهم، وأشعارهم، غداة ‏أدركوا قيمة هذا المُنتَج الذي منحَ العرب سمَتيّ الفصاحة والخطابة، من هنا تأتي أهميّة ‏هذا الملف، لأنه تناول مئة عام من المشهديّة الشعريّة في الأردن، وهو بذلك يشارك ‏الوطن احتفالاته بمئويّة الدولة عبر توثيق هذه المحطّات وإن كانت غير قادرة على تغطية ‏كافة الأسماء التي عبرتها، فالشعر في طبيعته؛ تتعدَّد مراحله، ويكثر كاتبوه الذين لا يمكن ‏لنا حصرهم وتتبُّع أحوالهم وسيرهم، وما هذه المحطات إلّا شرائح قدّمت رؤية أنيقة ‏ومختصرة لمشهديّة وثّق لها كثيرون عبْر دراساتهم المتقطعة.‏

كما تأتي أهميّة هذا الملف بأنه يساهم -بشكل أو بآخر- في حفظ مُنتَج العرب، فأنا أراه ‏على خلاف "الرِّواية" التي وُلدت ونشأت في الغرب، فهو منذ مولده عربيٌّ، وهو شكلٌ ‏من أشكال الفنّ اللغوي، ولطالما ساهم الشعر في بناء العقل وترميم المزاج عبر الموسيقى ‏والحكمة التي ما انفكّت تلازم الشعر منذ وقوف المتنبي بين يديّ صاحب "طبريا" الأمير ‏بدر بن عمّار مادحًا إياه: "أَمُعَفِّرَ اللَيثِ الهِزَبرِ بِسَوطِهِ.. لِمَنِ اِدَّخَرتَ الصارِمَ المَصقولا، ‏وَقَعَت عَلى الأُردُنِّ مِنهُ بَلِيَّةٌ.. نُضِدَت بِها هامُ الرِفاقِ تُلولا، وَرْدٌ إِذا وَرَدَ البُحَيرَةَ شارِبًا.. ‏وَرَدَ الفُراتَ زَئيرُهُ وَالنّيلا"، فالأردن إذن على علاقة تاريخيّة بالشعر، وما زال شعراؤه ‏يحصدون الجوائز العربيّة والعالميّة في إشارة إلى قدرة وتطوُّر أدواتهم.‏