ثلاثيّة الهلاك لدى "أوشو"‏ التنشئة التربويّة تحدِّد مصير الاعتقادات

 

ديما الرجبي ‏

كاتبة أردنية

 

ترى كاتبة هذا المقال أنَّ الفيلسوف الهندوسي "أوشو" هو نموذجٌ من الفلاسفة الذين تأثروا ببيئتهم ‏وتعارضت أفكارهم ورغباتهم مع أبجديّاتها، ممّا دفعه للإلحاد بكل الأديان. وترى أنَّ "أوشو" لو ‏تمكّن من ممارسة حياته الطبيعيّة دون قيود وأغلال قاسية لَما اختار الإلحاد، ولو أنه تمكَّن من ‏السؤال بحريّة ليجد إجابات مقنعة لَما رفض التربية، ولو تمكَّن من مناقشة الحُكّام لَما أجهض ‏السياسة، ولكنه كُبِّل بقيود جعلته يخلق عالمًا "مثاليًّا" بعيدًا عن القوانين، وترك وعيه وإدراكه ‏وتبصُّره يقوده إلى حيث يشعر بإنسانيّته كما يشتهي.‏

 

نحن بصدد وضع تجربة الفيلسوف الهندوسي "أوشو" أمام القارئ ليكتشف أهميّة الواقع التربوي ‏والسياسي والمحيط الاجتماعي ومدى تأثيره على اعتقاداتنا ومبادئنا وأيديولوجيّاتنا‎.‎

‏"أوشو" أو "تشاندران موهان تشين" المتصوّف الهندي والملحد المنشقّ عن كافة الديانات والملقّب ‏بمعلّم‎ ‎الجنس الأوّل والذي نادى عبر مؤلفته الجدليّة ‏‎(Moral , immoral, Amoral)‎‏ ‏لاعتناق ما يؤكد أنَّ الأخلاق وقلّة الأخلاق وانعدام الأخلاق سببه قلّة الوعي وقلّة الإدراك وقلّة ‏التبصُّر؛ هذه الثلاثيّة الآثمة -بحسب وصف "أوشو"- سببها ثلاثيّة مُهلكة هي التربية والسياسة ‏والديانات!‏

مَن يتصفَّح مخطوطة "أوشو" يرى أنَّ الرجل وضع تجربته الشخصية أمام القارئ ليقنعه بما آل ‏إليه من فلسفة "وجودية" تُعنى بإجهاض المتحكِّم بمصير الإنسان وقراراته ليصل إلى نتيجة ‏واحدة مؤدّاها أنَّ الأخلاق وانعدامها وقلّتها تنبع من تلك الأبجديّات التي حُكم بها الإنسان منذ ‏الولادة ومنذ أن تمَّ تلقينه بـِ"الصح والخطأ" ومنذ أن تحكّمت به الحكومات ووضعت قيودًا ‏وشروطًا وقوانين، والأديان التي -على حدّ وصفه- وضعت التابوهات؛ ممّا جعل الإنسان -كما ‏أشار- يعود إلى تلك القائمة من التوجيهات لاختيار وتحديد وتقييم تصرُّفاته، وهو ما ولَّد كيانان ‏منفصلان: الأوّل ينصاع للأوامر، والآخر يرفضها، وكلاهما محكومان بسياط الثلاثيّة المُهلكة ‏التي أشرنا إليها سابقًا.‏

يشير "أوشو" إلى أنَّ الإنسان المذنب والفاضل كلاهما سواء، ولكن المذنب أشدّ براءة من الأخير ‏لأنه خرج عن قاعدة البيانات الأخلاقيّة التي تحدِّد سلوكه وحاول أن يجرِّب ما أمره به وعيه ‏وحوكم بناءً على قوانين إنسانيّة واعتقادات تاريخيّة، بينما الإنسان الفاضل يجده "أوشو" مذنب ‏لأنه لم يستمع للأخلاق النابعة من وعيه وجعل نفسه "خروف" ينقاد بناءً على توجيهات، حيث ‏يرى "أوشو" أنَّ أصلَ الإنسان هو الوجود وليس القوانين، وأنَّ ميزان الأخلاق يحدِّدها الشخص ‏نفسه، حيث إنَّ الإدراك يلعب دورًا حاسمًا في توجيه الوعي، والتبصُّر يحدّ من ارتكاب الأخطاء ‏التي يحاسَب عليها الإنسان في الحياة المُقَوْننة.‏

اللافت في ما يطرحه "أوشو" أنه لم يدَع أيّ مثال حيّ تعرَّض له أو صادفه إلّا وجعله مرجعًا ‏وحجّةً لقناعاته وفلسفته الجدليّة في الحياة. ومَن لا يعرف الرجل فهو من ديانة تدعى "اليانية" ‏وهي إحدى الديانات الثلاثمئة المنتشرة في الهند وتُعتبر من الديانات الصغيرة ولا يتعدّى أتباعها ‏الأربعمئة ألف يانيزي.‏

تقوم هذه الديانة على اعتقادات غريبة، منها: يجب أن يرتدي اليانزيين غطاءً على رؤوسهم ‏يغطي أنوفهم كي يمنعوا أنفسهم من التنفس كي لا يقتلوا "الجراثيم" والكائنات التي لا تُرى بالعين ‏المجرّدة، وللحفاظ على انتظام التنفُّس يغطّي الكهنة والأتباع رؤوسهم بطرحة طويلة ويكتفون ‏بالتنفُّس "الهادئ" الذي لا يدفع الهواء للخارج؛ حيث إنَّ عقيدتهم حرَّمت عليهم قتل كل ما خلقه ‏الله ومنها "الكائنات التي لا تُرى بالعين المجرّدة" وحرَّمت عليهم أكل اللحوم وتناول العشاء ‏وممارسة الجنس والعيش في منازل، حيث ترى ديانتهم أنَّ الأرض هي بيت الله وأنَّ الحيوان ‏والإنسان يجب أن يعيشا الحياة ذاتها لأنَّ لا فرق بين مخلوقات الله؟!‏

يسرد "أوشو" تجربته الشخصيّة في إرغامه على هذه الديانة نظرًا لحُكم أهله عليه والسياسيين ‏والكهنة في حينه؛ وهو الأمر الذي رأى أنه يتعارض مع وعي الإنسان وإدراكه وتبصُّره لواقع ‏الحياة.‏

ولم يجد "أوشو" في الهندوسية أو المحمدية أو المسيحية أو البوذية أي التقاء مع قناعاته، فأخذ ‏على عاتقه أن يؤمن بوجوده ووعيه وإدراكه وتبصُّره لواقع الحياة، ورفض أن يتحكَّم به أيّ من ‏الديانات أو التربويات أو السياسات التي تجعله عبدًا خاضعًا لمنظومة "الأخلاق" التي أجهضها ‏من خلال كتبه وفلسفاته الشخصيّة.‏

يسرد "أوشو" أيضًا تجربة تؤكد أهميّة الوعي، حيث ذكر قيامه برحلة مع زملائه في المدرسة ‏إلى إحدى المناطق الريفية في الهند، وذكر "أوشو" أنَّ ليلة التخييم اجتمع الزملاء لعمل وليمة من ‏اللحم المشوي –البقري- وطلبوا من "أوشو" الانضمام لهم، ولعلمه بأنَّ هذا الأمر يُعتبر "ذنبًا" ‏ومن المحرّمات وعلى الرغم من جوعه الشديد إلا أنه رفض الانضمام إليهم، فوعدوه بأن لا ‏يخبروا أحدًا بأنه تناول العشاء معهم، ووقع في فخّ "الذنب" وانهال على اللحم وأكل حتى خدر، ‏لكنّ وعيه الذي كبر على التابوهات في دياناته دفعه لاستفراغ كل ما في جوفه إلى أن تخلّص من ‏آخر لقمة في معدته، حيث إنَّ شعوره بالذنب حدَّ من رغبته في التمتُّع بهذه الوجبة الدّسمة.‏

وهنا يشير "أوشو" إلى أنَّ نشأته وتلك البيانات القابعة في عقله والتي تصنِّف الأخلاق من ‏عدمها، هي التي دفعته للشعور بالذنب، علمًا أنَّ إدراكه ووعيه الفطري لم يتعارضا مع تناوله ‏هذه الوجبة، إلا أنَّ سيف القوانين حدَّ بينه وبين إرادته.‏

‏"أوشو" نموذجٌ من الفلاسفة الذين تأثروا ببيئتهم وتعارضت أفكارهم ورغباتهم مع أبجديّاتها، ممّا ‏دفعه للإلحاد بكل الأديان، حيث إنَّ مقاسات قناعاته بالأديان والسياسة والتربية ضُيِّقت إلى حدّ ‏رفضها جميعًا لما عاناه في طفولته من فرط في بلوغ درجة الأخلاق التي تتعارض والعقل ‏والمنطق بممارسة الحياة الطبيعيّة.‏

لم تكن مؤلَّفات "أوشو" موجَّهة إلى الشعب الهندي، بل حرص "أوشو" على إيصال مؤلَّفاته للعالم ‏أجمع من خلال فيديوهات وتسجيلات صوتيّة، وتُرجمت كافة أعماله لجميع اللغات، وتم تصنيفه ‏وفقًا لصحيفة "صاندي تايمز" اللندنية كأحد أكثر المؤثرين في القرن العشرين، كما صنَّفه الكاتب ‏الأميركي "توم روبينز" بأنه الرجل الأخطر في العالم بعد المسيح. ومن جانب آخر، فقد اختارته ‏الهند بعد غاندي ونِهرو وبوذا كأحد الأشخاص اللذين غيَّروا الحياة في الهند. وكُتُب "أوشو" ‏تسعى -من وجهة نظره- إلى تغيير الرُّؤى حول الإنسانيّة منذ الخليقة. ولُقِّب بـ"بوذا الصديق" من ‏قِبَل مريديه الذين آمنوا بفلسفته الجدليّة حول الحياة والمفاهيم والقيود ومعايير الأخلاق الإنسانيّة.‏

إنَّ أساس تبنّي الأيدلوجيات أو القناعات أو المبادئ يعود إلى المربَّع الأوَّل؛ "التنشئة"، فلو تمكَّن ‏‏"أوشو" من ممارسة حياته الطبيعية دون قيود وأغلال قاسية لَما اختار الإلحاد، ولو أنه تمكَّن من ‏السؤال بحرية ليجد إجابات مقنعة لما رفض التربية، ولو تمكَّن من مناقشة الحُكّام لما أجهض ‏السياسة، ولكنه كُبِّل بقيود جعلته يخلق عالمًا "مثاليًّا" بعيدًا عن القوانين، وترك وعيه وإدراكه ‏وتبصُّره يقوده إلى حيث يشعر بإنسانيّته كما يشتهي.‏