تشيُّؤ الإنسان

 

د. سعيد عبيدي

كاتب مغربي

 

في ظلِّ الثورة الصناعيّة والتكنولوجيّة التي عرفتها الإنسانيّة مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن ‏الحالي أضحى الإنسان، برأي الكثير من المفكرين، يعيش أزمة‎ ‎حقيقيّة تتمثَّل في اضمحلال‎ ‎أهميّته ‏وتحوُّله إلى شيء فاقد للقيمة والمعنى،‎ ‎بسبب‎ ‎سيطرة‎ ‎الآلة والمؤسسات‎ ‎الكبرى‎ ‎على‎ ‎مجالات‎ ‎الحياة‎ ‎وفقدان القيم‎ ‎وضياعها،‎ ‎وبالتالي أصبحت‎ ‎قيمة‎ ‎الإنسان‎ ‎تُقاس‎ ‎بما‎ ‎ينتجه‎ ‎من‎ ‎سلع،‎ ‎بل أكثر من ذلك ‏أصبح يخضع‎ ‎لقوانين‎ ‎السوق، وهنا‎ ‎ظهرت‎ ‎أزمة‎ ‎الإنسان‎ ‎المعاصر في ظلِّ ثورة‎ ‎صناعيّة/ تكنولوجيّة‎ ‎لا‎ ‎تعترف‎ ‎إلّا‎ ‎بما هو مادي، وأصبح‎ ‎الإنسان‎ ‎يشعر‎ ‎بالاغتراب‎ ‎والتشيّؤ.‏

 

كان أوَّل مَن صاغَ مصطلح التشيؤ (‏Reification‏) هو الفيلسوف‎ ‎المجري‎ ‎‏"جورج لوكاتش" ‏‏(‏Georges Lukács‏) في كتابه "التاريخ والوعي‎ ‎الطبقي" (‏History and Class ‎Consciousness‏) الذي‎ ‎صدر‎ ‎سنة‎ ‎‏1923، وقد‎ ‎حدّد‎ ‎هذا‎ ‎الكتاب -كما‎ ‎يعتقد‎ ‎أغلب الباحثين‎ ‎المتخصصين‎ ‎في‎ ‎فلسفة‎ ‎‏"لوكاتش"- مساره‎ ‎الفكري‎ ‎برمّته‎ ‎وانعكس‎ ‎بشكل كبير‎ ‎على‎ ‎أعماله‎ ‎الفلسفية‎ ‎التي‎ ‎امتدَّت حوالي‎ ‎نصف‎ ‎قرن‎ ‎من‎ ‎الزمن(1).‏

ويعرِّف "لوكاتش" التشيؤ بأنه تحوُّل الصفات الإنسانية إلى أشياء جامدة واتخاذها لوجود مستقلّ، ‏واكتسابها لصفات غامضة غير إنسانية؛ يقول في هذا السياق: "وتنفصل‎ ‎هذه‎ ‎الأشياء عن‎ ‎الإنسان،‎ ‎رغم ‏أنَّ جوهرها‎ ‎مرتبط بعمل‎ ‎الإنسان،‎ ‎فتنعكس‎ ‎القضية‎ ‎الأصلية، فبدلًا‎ ‎من‎ ‎أن‎ ‎يتحكّم‎ ‎الإنسان‎ ‎في‎ ‎الأشياء ‏المحيطة‎ ‎به‎ ‎مثل‎ ‎المصانع،‎ ‎والبنوك،‎ ‎تتغيَّر هذه‎ ‎الأشياء،‎ ‎وتتحكَّم‎ ‎في‎ ‎حياة‎ ‎البشر، وبدلًا‎ ‎ممّا‎ ‎كان‎ ‎يفعله‎ ‎الإنسان‎ ‎في‎ ‎العصور القديمة‎ ‎حيث‎ ‎كان‎ ‎يحاول‎ ‎تعديل‎ ‎الطبيعة من‎ ‎حوله‎ ‎لتتفق‎ ‎مع‎ ‎حاجاته،‎ ‎أصبح ‏الإنسان‎ ‎يحاول‎ ‎أن‎ ‎يوائم‎ ‎نفسه‎ ‎مع‎ ‎الأشياء المحيطة‎ ‎به،‎ ‎ومن‎ ‎ثم‎ ‎أصبحت‎ ‎الأشياء‎ ‎هي التي‎ ‎تصوغ‎ ‎حياة‎ ‎الإنسان‎ ‎وليس‎ ‎العكس، كما‎ ‎كان‎ ‎سائدًا"(2).‏

من خلال تعريف "لوكاتش" للتشيؤ‎ ‎يتبيَّن لنا أنَّ هذا الأخير "يحوِّل‎ ‎العلاقات الإنسانية -في‎ ‎ظلّ‎ ‎هيمنة‎ ‎النظام الاقتصادي‎ ‎الرأسمالي- إلى‎ ‎أشياء‎ ‎جامدة وخاضعة‎ ‎لمنطق‎ ‎التبادل‎ ‎التجاري، بالصورة‎ ‎التي‎ ‎تحوّل‎ ‎فيها البشر‎ ‎إلى "سلع" أو "بضائع‎"‎،‎ ‎بحيث‎ ‎يخضعون لقوى‎ ‎وأشياء‎ ‎خارجة‎ ‎عن‎ ‎إرادتهم.‏‎ ‎ويظهر العالم‎ ‎الاجتماعي (الإنساني)‏‎ ‎على‎ ‎هيئة‎ ‎عالم من‎ ‎الأشياء،‎ ‎شأن‎ ‎العالم‎ ‎الطبيعي‎ ‎الأصلي، بحيث‎ ‎يبدو‎ ‎كأنه‎ ‎مستقل‎ ‎عن‎ ‎الفعل الإنساني،‎ ‎شأنه‎ ‎في‎ ‎ذلك‎ ‎شأن‎ ‎استقلال قوانين‎ ‎الطبيعة‎ ‎عن‎ ‎ظواهرها. وبذلك، فإنَّ‎ ‎هذا‎ ‎العالم‎ ‎الاجتماعي‎ ‎يظهر‎ ‎لنا‎ ‎كما‎ ‎لو أنه‎ ‎لم‎ ‎يعد‎ ‎بمقدورنا‎ ‎أن‎ ‎نغيِّره. وهذا الوضع‎ ‎ليس‎ ‎وضعًا ‏‎"‎ظاهريًا"‏‎ ‎وحسب؛ فالعمليات‎ ‎الداخلية‎ ‎في‎ ‎تشكيل‎ ‎صنميّة السلعة والتشيؤ‎ ‎تخلق بنى اجتماعية‎ ‎خارجية‎ ‎يصبح‎ ‎بنو‎ ‎البشر‎ ‎دمى لها"(3).‏

إنَّ التشيؤ‎ ‎كما أورده "لوكاتش" يعني‎ ‎اغتراب‎ ‎الإنسان‎ ‎في‎ ‎ظلّ‎ ‎العلاقات الاقتصادية القائمة اليوم؛‎ ‎‏"حيث‏‎ ‎لم‎ ‎تعد‎ ‎السلع‎ ‎تقاس‎ ‎بقيمتها‎ ‎الواقعية؛‎ ‎وإنما‎ ‎تتحدّد‎ ‎بقيمةٍ مجرّدة‎ ‎يحدّدها‎ ‎السوق. فـ"لوكاتش" يرى أنَّ‎ ‎هذه‎ ‎الفكرة‎ ‎تشكّل‎ ‎نقدًا‎ ‎أخلاقيًا‎ ‎قويًا‎ ‎للنظام‎ ‎الرأسمالي‎ ‎والحداثة‎ ‎الغربية،‎ ‎والتي‎ ‎من‎ ‎خلالها‎ ‎تحوَّل البشرُ‎ ‎إلى‎ ‎أشياء‎ ‎يمكن‎ ‎أن‎ ‎تُباع‎ ‎وتُشترى،‎ ‎وفي‎ ‎هذه‎ ‎الفكرة‎ ‎أيضًا‎ ‎يصبح العالَم‎ ‎الاجتماعي‎ ‎عالَمًا‎ ‎من‎ ‎الأشياء،‎ ‎شأنه‎ ‎في‎ ‎ذلك‎ ‎شأن‎ ‎العالَم‎ ‎الطبيعي، وأصبح‎ ‎المجتمع‎ ‎يمثل‎ ‎طبيعة‎ ‎ثانية إلى‎ ‎جانب‎ ‎العالم‎ ‎الطبيعي‎ ‎الأصلي،‎ ‎وأصبح‎ ‎يبدو‎ ‎كما‎ ‎لو‎ ‎أنه‎ ‎مستقلّ‎ ‎عن‎ ‎الفعل‎ ‎الإنساني"(4).‏

لقد أضاع الإنسان نفسه وكفَّ عن تصوُّرها كمركز لنشاطه، فقد أصبح محكومًا بأشياء وظروف من ‏صنعه يعتقد أنه يسيطر عليها، لكن في الواقع "نحن مسيطَر علينا ليس من قبل الطاغية، بل من قبل ‏الأشياء، من قبل الظروف. لقد أصبحنا بشرًا من دون إرادة أو هدف. نتحدث عن التقدُّم والمستقبل، على ‏الرغم من أنه في الواقع لا أحد يعرف إلى أين هو ذاهب، ولا أحد يقول إلى أين تسير الأمور، ولا أحد ‏لديه هدف. في القرن التاسع عشر، استطاع المرء أن يعلن (لقد مات الإله). في القرن العشرين وما ‏يليه، ينبغي أن يقول المرء إنَّ الإنسان قد مات. اليوم يبدو هذا القول المأثور صحيحا: (لقد مات ‏الإنسان، وتحيا الأشياء)، ربَّما ليس هناك مثال يدلّ على شناعة هذه البربرية الجديدة أكثر من فكرة ‏التخطيط الحالي لصناعة قنابل تأتي على الأخضر واليابس"(5).‏

لقد نجح النظام الرأسمالي المتضخم في آخر أطواره، وبعد أن تمكَّن من تحييد معظم الأنظمة والقوى ‏المنافسة وتأجيل البروز المحتمل لبعضها الآخر على الأقل، في إسقاط مفاهيمه المادية على كافة ‏مظاهر التفكير والسلوك اليومي لدى الإنسان المعاصر، ففي هذا العالم (الذي يتحرك بسرعة غير ‏اعتيادية) يجد الإنسان نفسه مجرَّد عنصر تافه من ماكينة الإنتاج المادي العالمية، وهو محكوم ‏بالانخراط في شبكة علاقاتها المعقدة دون أن يكون له أي خيار، إذ تملك هذه الآلة الضخمة كافة أساليب ‏القمع والإغراء على السواء، ممّا يدفع بالإنسان إلى الشعور بالإحباط وعدم جدوى لأيّ محاولة ‏للخلاص، فضلًا عن لذّة الاستسلام لفيض المغريات الحسيّة الذي يوفره الانصياع وبذل الطاعة، ‏وبالإمكان التوصل إلى الخلاصة الفلسفية للرأسمالية من خلال تحليل ظاهرة (التشيؤ) التي تشكل القلب ‏النابض للأيديولوجيات الرأسمالية(6).‏

ولتجاوز ظاهرة التشيؤ، ونظرًا لارتباطها بالمجتمع الرأسمالي، يطرح "جورج لوكاتش" مفهوم (الوعي ‏الطبقي) استنادًا إلى مقولات "كارل ماركس" و"فريديريك إنجلز" اللذين أعطيا لوعي الطبقة العاملة ‏‏(البروليتاريا) أهمية خاصة؛ هذه الطبقة التي حولتها الرأسمالية إلى بضاعة، والتي لا يمكنها أن تحقق ‏حريتها إلا بتحررها من كونها بضاعة أو سلعة، في هذا الصَّدد يقول "لوكاتش": "إنَّ‎ ‎التطور‎ ‎الاقتصادي الموضوعي‎ ‎لم‎ ‎يكن‎ ‎ليتمكّن‎ ‎إلا‎ ‎أن‎ ‎يخلق وضع‎ ‎البروليتاريا‎ ‎في‎ ‎سير‎ ‎الإنتاج، الوضع‎ ‎الذي‎ ‎حدَّد‎ ‎وجهة‎ ‎نظرها؛‎ ‎ولم يكن‎ ‎ليتمكَّن‎ ‎إلا‎ ‎أن‎ ‎يضع‎ ‎بين‎ ‎أيدي البروليتاريا‎ ‎إمكانيّة‎ ‎وضرورة‎ ‎تحويل ‏المجتمع. على أنَّ‎ ‎هذا‎ ‎التحويل‎ ‎ذاته‎ ‎لا يمكن‎ ‎أن‎ ‎يكون‎ ‎سوى‎ ‎العمل‎ ‎الحر للبروليتاريا‎ ‎ذاتها"(7).‏

وإذا‎ ‎كان "جورج‎ ‎لوكاش"‏‎ ‎قد‎ ‎ذهب‎ ‎إلى‎ ‎القول بإمكانيّة‎ ‎وضع‎ ‎حدّ للتشيؤ‎ ‎الذي‎ ‎يعانيه الإنسان‎ ‎المعاصر‎ ‎في‎ ‎المجتمعات‎ ‎الرأسمالية، "اعتمادًا‎ ‎على‎ ‎القوة‎ ‎المؤهلة‎ ‎لذلك،‎ ‎أي‎ ‎الطبقة البروليتارية‎ ‎التي‎ ‎تملك‎ ‎الأدوات‎ ‎الثورية لوضع‎ ‎حدّ للتشيؤ،‎ ‎فإنَّ‎ ‎‏"أكسل‎ ‎هونيث" (‏Axel Honneth‏) أحد روّاد النظرية النقدية لمدرسة ‏فرانكفورت يذهب‎ ‎إلى‎ ‎ما‎ ‎يخالف‎ ‎ذلك‎ ‎تمامًا،‎ ‎بحيث يرى‎ ‎ضرورة‎ ‎البحث‎ ‎عن‎ ‎أسباب‎ ‎التشيؤ أولًا،‎ ‎وذلك‎ ‎بعمق‎ ‎أكثر،‎ ‎والتي ترجع‎ ‎أساسًا‎ ‎إلى الأوضاع‎ ‎المستحدثة‎ ‎والجديدة‎ ‎التي‎ ‎عرفتها المجتمعات‎ ‎المعاصرة، ‏أو بصيغة أخرى كيف‎ ‎عمل‎ ‎المجتمع الصناعي‎ ‎المتقدم‎ ‎على‎ ‎دمج‎ ‎قوى‎ ‎التغيير المتمثلة‎ ‎في‎ ‎الطبقة‎ ‎العاملة (البروليتاريا)‏‎ ‎في المؤسسات‎ ‎القائمة‎ ‎واستقطبها‎ ‎نحو الاستهلاك،‎ ‎فتحوّلت بذلك‎ ‎إلى‎ ‎أداة‎ ‎لإبقاء ‏المجتمع‎ ‎القائم‎ ‎والمحافظة على استقراره،‎ ‎وبالتالي فقدت‎ ‎طابعها الثوري‎ ‎ولم‎ ‎تعُد‎ ‎في‎ ‎ظلّ‎ ‎هذه‎ ‎الشروط ‏الطبقة‎ ‎المؤهلة‎ ‎لتغيير‎ ‎الوضع‎ ‎القائم‎ ‎وفي القضاء‎ ‎على‎ ‎ما‎ ‎هو‎ ‎سائد،‎ ‎بل‎ ‎على‎ ‎العكس من‎ ‎ذلك،‎ ‎انحرفت‎ ‎عن‎ ‎مسارها‎ ‎الحقيقي الذي‎ ‎بشَّر‎ ‎به‎ ‎‏"ماركس"‏‎ ‎من‎ ‎قبل‎.‎‏ وبناء‎ ‎على‎ ‎ذلك،‎ ‎أكّد‎ ‎‏"هونيث"،‎ ‎من خلال‎ ‎مقاربته‎ ‎الفلسفية‎ ‎لمفهوم التشيؤ وكيفية تجاوزه على ضرورة توظيف‎ ‎الأعمال الميدانية‎ ‎السوسيولوجية‎ ‎والسيكولوجية لكل‎ ‎من‎ ‎‏"جان‎ ‎بياجي"‏‎ ‎و"جورج‎ ‎هربرت‎ ‎ميد" و"دونالد‎ ‎وينيكوت"‏‎ ‎و"سيغموند‎ ‎فرويد"، ‏والدراسات‎ ‎الأخلاقية‎ ‎التي‎ ‎قدمتها‎ ‎‏"مارتا نوسباوم" (‏Martha Nussbaum‏) و"إليزابيث‎ ‎أندرسون" ‏‏(‏Anderson‏ ‏Elisabeth‏)‏‎ ‎والأعمال‎ ‎الأدبية‎ ‎لكل‎ ‎من "ميشيل‎ ‎هولبيك" (‏Michel ‎Houellebecq‏)‏‎ ‎و"ريمون‎ ‎كارفر" (‏Raymond Carver‏)‏‎ ‎و"هارولد برودكيه" (‏Harold ‎Brodkey‏)‏‎ ‎و"ألفريد‎ ‎يلينيك" (‏Alfred Jelinek‏) وهي الأعمال التي استطاعت‎ ‎أن‎ ‎تبيِّن‎ ‎على ‏المستوى‎ ‎الأدبي‎ ‎والفني‎ ‎كيف‎ ‎أصبح البشر -في‎ ‎ظلّ‎ ‎التشيؤ- يعامَلون كموضوعات "ميتة"‏‎ ‎وخالية‎ ‎من‎ ‎كل إحساس أو عاطفة"(8).‏

لقد أخضع الفكر الغربي -الذي دشّن عصر الحداثة بالعقلنة- الإنسان وجعله يسقط سقطة رهيبة في آفة ‏‏"التشيؤ"، فهو لم يكتفِ بتشييء الأشياء ونزع الطابع السحري عنها، بل إنَّ الإنسان نفسه في هذه ‏المنظومة قد تحوّل إلى "شيء" تحت ضغط الإكراه الاقتصادي المتنامي والسباق المستعر نحو الربح، ‏فأفرغه من حاجياته الروحية والأخلاقية، ويبدو أنه لم يتم الالتفات بعد إلى صيحات مدرسة فرانكفورت ‏التي وقفت على هذا الانسداد الإنساني المضني، ودعت بالتالي إلى "عقل تواصلي" بدل "العقل الأداتي" ‏‏(هابرماس) وإلى الانفتاح على الفنون والكتب المقدسة من العهد القديم والحديث (أدورنو وهركهايمر). ‏وهي الصيحة نفسها المدوية لفيلسوف مغربي لا يفتأ يردِّدها في مؤلَّفاته بنقده للفصل بين العقل والإيمان ‏والأخلاق والشرع، لكن من منظور خصوصيّة مجالنا التداولى الإسلامي، ودعوته بالتالي إلى تلبية ‏حاجيات القلب نفسه(9)،‎ ‎يقول طه عبدالرحمن في سياق حديثه عن العقل البديل: "إنَّ العقل الموسّع هو ‏العقل الذي تزدوج فيه قوى الإدراك، بحيث تكون كل واحدة من هذه القوى الإدراكية عبارة عن قوّتين ‏اثنتين، إحداهما قوة خارجيّة أو حسيّة لا تدرِك من الأشياء إلا ظواهرها وقوانينها، والثانية قوة داخليّة ‏أو معنويّة تقف على البواطن والأسرار ويشترط فيها التحقق بالعمل الديني"(10).‏

ختامًا، لقد آن الأوان لكي يستعيد الإنسان قيمته وأن يؤمن بقدرته على خلق قيم جديدة تُعلي من شأنه ‏ومكانته في الوجود، وأن يضع في حسبانه أنَّ السيطرة الممارسة عليه اليوم في ظلّ المجتمعات ‏المتقدمة صناعيًّا هي سيطرة لم يشهد التاريخ الإنساني لها مثيلًا، لأنها تمارَس عليه باسم التقدُّم العلمي ‏التكنولوجي؛ فالتكنولوجيا تغريه يومًا بعد يوم وتجعله يتعلق بها ويوثق رباطه بها حتى حوّلته إلى كائن ‏آلي يصغي لندائها أكثر ممّا يصغي لذاته ولبني جنسه.‏

 

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‎ ‎انظر: كمال بومنير، من غيورغ لوكاتش إلى أكسل هونيث: نحو إعادة بناء مفهوم التشيؤ، ‏مجلة هرمس، مركز جامعة القاهرة للغات والترجمة، المجلد الثاني، العدد الرابع، أكتوبر ‏‏2013، ص79.‏

‏(2)‏ ‎ ‎جورج لوكاتش، التاريخ والوعي الطبقي، ترجمة حنا الشاعر، دار الأندلس، بيروت، ط1، ‏‏1979، ص77.‏

‏(3)‏ ‎ ‎إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة محمد حسن غلوم، عالم ‏المعرفة، الكويت، العدد 244، 1999، ص309.‏

‏(4)‏ ‎ ‎نفسه، ص31.‏

‏(5)‏ ‎ ‎إيريش فروم، كينونة الإنسان، ترجمة محمد حبيب، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط1، 2013، ‏ص30.‏

‏(6)‏ ‎ ‎فؤاد الكنجي، الرأسمالية وفلسفة التشيؤ، الحوار المتمدن، العدد 4997، بتاريخ 26 نونبر ‏‏2015.‏

‏(7)‏ ‎ ‎جورج لوكاتش، التاريخ والوعي الطبقي، ص181.‏

‏(8)‏ ‎ ‎انظر: كمال بومنير، مصدر سابق، ص86-89، بتصرف.‏

‏(9)‏ ‎ ‎عادل الطاهري، الحداثة: الطريق إلى التشيؤ، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ‏الرباط، بتاريخ 27 يونيو 2019.‏

‏(10)‏ طه عبدالرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، المركز ‏الثقافي العربي، بيروت، 2012، ص107.‏