البُعد الإنسانيّ في قصيدة القدس

 

د.عاطف العيايدة

كاتب وأكاديمي أردني

 

تشكَّلت القدس في وعي الشعراء المحدثين كمكان إنسانيّ عانى أهله من الاحتلال العسكريّ الصهيوني ما ‏عانوا، وعلى الرّغم ممّا لهذه المدينة من خاصيّات تاريخيّة وثقافيّة ومکانيّة وأسطوريّة ترتبط بها إلّا أنَّ ‏الشِّعر لم يقف عند هذه الخاصيّات؛ فاستجلب الشعراء البُعد الإنساني في الواقع اليومي والمعاش، وفي ‏هذا الاستجلاب النوعيّ مقارنات تصبّ جميعها في بُعد إنسانيّ مركّب يركّز على استمراريّة الحياة ‏الإنسانيّة بصورها المتنوِّعة في القدس، على الرغم ممّا يجري على أرضها، فحافظت هذه المدينة على ‏طقوسها وعاداتها، وظلّتْ حاضنة للإنسانية على مدى أزمان طويلة.‏

للقدس كمكانٍ خصوصيّة في القصيدة العربية الشعرية، وعلى الرغم من تناولها من أبعادٍ كثيرة إلا أنّ ‏الطابع المشترك فيها يجسّد مكانتها في قلوبِ الناس عامة، وعند الأدباء والشعراء على وجه الخصوص، ‏فـ"القدس معادلُ موضوعيّ للإنسان الفلسطينيّ المصلوب، إذ يشكلان وحدة موضوعية تخاطب الآخر، ‏وتستحثّه من أجل الخلاص"(‏ ‏)؛ لذلك برزتْ بصورة المدينة المقاومة الصابرة على معاناتِها، وقد برزت ‏في قصائد الشعراء بصور الاعتزاز بها، والتغني بأمجادها، وبطولاتها، وتاريخها المشرق، ورمزيّتها ‏الدينية، ولأجل تلك المقاصد تبارى الشعراء في الدفاع عنها بحدّ الكلمة، ببيان خطر تهويدها، وسعى ‏الصهاينة لإخلائها حتّى من رائحة ساكنيها الحقيقيين، واقتلاع جذور أشجارها المعمّرة، وتغيير جميع ‏معالمها.‏

وقد تشكَّلت القدس في وعي الشعراء المحدثين كمكان إنسانيّ عانى أهله من الاحتلال العسكريّ ‏الصهيوني ما عانوا، بالإضافة لما للقدس من "خاصيات تاريخية وثقافية ومکانية وأسطورية ترتبط بها ‏كمكان إنساني معیش، وما تثيره تلك الخاصيات من انطباعات وأحاسيس وما تعنيه من إيحاءات ‏ودلالات ذهنية تلتحم بوعي الكاتب وتشكل جماليات الصورة للمكان عنده"(‏ ‏). ‏

وقد ركّز محمود درويش في كثير من قصائده على القدس كمدينة مسلوبةٍ، لها تاريخ واقعيّ وأسطوري ‏عميق، جامعًا كلّ صفاتها، معليًا من شأنها كمدينة أسطورية للانبعاث والتجدُّد واحتمال ما لا يحتمل، ‏مفردًا لها مساحات من المشاعر الإنسانية، مستعرضًا صور التهميش والظلم والتهجير والتخريب التي ‏مورست عليها، فها هو في قصيدة (تقاسيم على سورة القدس) من مجموعة "يوميات الحزن العادي" ‏يقول(‏ ‏): ‏

‏"أوقفتني جنديّة صغيرة وسألتني عن قنبلتي وصلاتي.‏

اعتذرتُ وقلتُ للجنديّة: أنا لا أحارب، ولا أصلّي

قالت الجنديّة الصغيرة: لماذا جئت إلى القدس إذن؟

قلتُ: لأعبر بين القنبلة والصلاة، على ذراعي اليمنى آثار حرب‏

وعلى ذراعي اليسرى آثار رب، لكنني لا أحارب ولا أصلي. ‏

قالت الجنديّة الصغيرة: وماذا تكون؟

قلتُ: ورقة يانصيب بين القنبلة والصلاة.‏

قالت: ماذا تفعل بها، ماذا تفعل بك لو ربحت؟

قلتُ: أشتري لونًا لعيني حبيبتي

حسبتني الجنديّة شاعرًا، فأخلت سبيلي.‏

وتساءلت: لماذا جئت إلى القدس إذن؟".‏

لقد عبّر محمود درويش في المقطع السابق عن حزنه الشديد على ما آلت إليه صورة القدس في أنظار ‏الجميع، إذ ارتبطت بعناصر الحرب وأدواته التي منها القنبلة، فمحمود درويش وهو على أطراف مدينة ‏القدس يلتقي بجندية تسأله عن سبب قدومه إلى مدينة القدس، وهي تنتظر منه إجابة واحدة من بين ‏إجابتين، فمَن في القدسِ إمّا أن يكون من الداخلين وفي يده اليمنى قنبلة وهي من علامات الحرب والقتل ‏والدمار، أو أن تكون في يده اليسرى آثار الصلاة دعوة لله بالنجاة، وهنا يظهر درويش حالة الانفلات ‏الأمني في مدينة القدس، لدرجة أنَّ الحياة الإنسانية بأبسط مقوّماتها باتت صعبة على أرضٍ لا تعترف ‏بالإنسان، ولا تعطيه أبسط حقوقه. ‏

وقد حاول محمود درويش في أدبه الشعريّ أن يجعل من القدس مدينة استثنائية متجذرة في التاريخ، ‏وحاضرة في كلّ الأزمان على الرغم ممّا مرّ عليها ويمرّ، فواقعها الإنسانيّ مختلفٌ عن أيّ واقعٍ إنسانيّ ‏آخر، فقد ذاق أهلها من الويلات ما ذاقوا مقابل أنْ يحافظوا على كيانهم الإنسانيّ، لذا كان محمود ‏درويش مهتمًّا بالقدس الموسومة بالمنفى والاغتراب والتشريد والتهميش والظلم والقتل وكلّ الصفات ‏الإجرامية لعدوّ محتلٍّ معتدٍ. يقول(‏ ‏):‏

‏"في القدس، أَعني داخلَ السُّور القديمِ، 

أَسيرُ من زَمَنٍ إلى زَمَنٍ بلا ذكرى 

تُصوِّبُني. فإنَّ الأنبياءَ هناك يقتسمون 

تاريخَ المقدَّس... يصعدون إلى السماء 

ويرجعون أَقلَّ إحباطًا وحزنًا، فالمحبَّةُ 

والسلام مُقَدَّسَان وقادمان إلى المدينة. 

كنتُ أَمشي فوق مُنْحَدَرٍ وأَهْجِسُ: كيف 

يختلف الرُّواةُ على كلام الضوء في حَجَرٍ؟ 

أَمِنْ حَجَر ٍشحيحِ الضوء تندلعُ الحروبُ؟ 

أسير في نومي. أَحملق في منامي. لا 

أرى أحدًا ورائي. لا أرى أَحدًا أمامي. 

كُلُّ هذا الضوءِ لي. أَمشي. أخفُّ. أطيرُ 

ثم أَصير غيري في التَّجَلِّي. تنبُتُ 

الكلماتُ كالأعشاب من فم أشعيا 

النِّبَويِّ: ((إنْ لم تُؤْمنوا لن تَأْمَنُوا)). 

أَمشي كأنِّي واحدٌ غيْري. وجُرْحي وَرْدَةٌ 

بيضاءُ إنجيليَّةٌ. ويدايَ مثل حمامتَيْنِ 

على الصليب تُحلِّقان وتحملان الأرضَ. 

لا أمشي، أَطيرُ، أَصيرُ غَيْري في 

التجلِّي. لا مكانَ و لا زمان. فمن أَنا؟ 

أَنا لا أنا في حضرة المعراج. لكنِّي 

أُفكِّرُ: وَحْدَهُ، كان النبيّ محمِّدٌ 

يتكلِّمُ العربيَّةَ الفُصْحَى. ((وماذا بعد؟)) 

ماذا بعد؟ صاحت فجأة جنديّةٌ: 

هُوَ أَنتَ ثانيةً؟ أَلم أَقتلْكَ؟ 

قلت: قَتَلْتني... ونسيتُ، مثلك، أن أَموت".‏

في هذه القصيدة المضمَّنة في ديوان (يوميات الحزن العادي) برز دالّ القدس بروزّا ظاهرًا وعلنيًّا ‏وواقعيًّا وإنسانيًّا، وجاءت القصيدة على إثر زيارة درويش للقدس بعد انقطاع لا يقلّ عن (25) عامًا، ‏ويروي فيها بلغته الإيحائية أحداث الزيارة الإنسانية بعد غيابٍ طويل، وأهمّها لقاؤه بالمجنّدة الإسرائيلية ‏التي صاحت به: (هُوَ أَنتَ ثانيةً؟ أَلم أَقتلْكَ؟)، فردّ عليها قائلا: (قَتَلْتني... ونسيتُ، مثلك، أن أَموت).‏

لقد بدت القدس بعد غياب درويش الطويل عنها غريبة عنه؛ بسبب إبعاده القسريّ عنها، حتى أنَّ ‏شبابيكها القديمة قد أنكرته، وكذلك درجات السلّم المؤدي إلى حاراتها وشوارعها، وهذا يعطي إشارة ‏على عدم احتواء القدس لإنسانها الأصلي، فالقطيعة التي فُرضت على درويش أدّت إلى الوصول إلى ‏أنقاض إنسانيته، بعد أن كان منصهرًا مع مكانٍ تحوّل بفعل الاحتلال إلى دربٍ عسير لا تعبره سوى ‏خيوط الشمس وأقدام العواصف، غير أنّ البحث عن الحرية متواصل على الرغم من أنوف الأعداء، ‏وعلى الرغم من حملات القتل الممنهجة ستظلّ المحبّة والسلام شائعان في مدينة السلام.‏

ففي القصيدة حضور واضح للقدس التي زارها درويش، فوجدها حيّة لم تمت رغم الواقع الّذي يفرض ‏عليها، فالمقاومة مستمرة وسلاحها الوحيد هو الحجر الشحيح الذي تندلع شرارة الحروب منه، فمدينة ‏مقدَّسة كالقدس فيها من التراث الدينيّ ما فيها جديرة بأن يقدّم الإنسان روحه رخيصة من أجلها، بحثًا ‏عن التعايش الإنسانيّ للأجيال القادمة. ‏

وعند قراءة قصيدة "في القدس" للشاعر تميم البرغوثي تلفت انتباهك كمتلقّ الرمزية المكانية للقدس، ‏والصور المرسومة في فضاء القصيدة، فقد بدأ البرغوثي قصيدته بحادثة المرور المرتبطة بالزمن ‏الماضي (مررنا)، محدّدًا وجهة المرور (دار الحبيب)، وفي هذا الابتداء بعدٌ إنسانيّ خالصٌ يعبّر عن ‏حجم الاشتياق لمكان الحبيب بعد طول الغياب عنه، وصعوبة الوصول إليه بعدما حلّ به من نكباتٍ ‏وويلاتٍ. يقول(‏ ‏): ‏

‏"مررْنا علــى دار الحبيب فردّنا

عن الدار قانونُ الأعادي وسورُها

فقُلْتُ لنفســي رُبما هي نعْمة

فماذا ترى في القدس حين تزُورُها

ترى كُلّ ما لا تستطيعُ احتمالهُ

إذا ما بدتْ من جانب الدّرْب دورُها

وما كلُّ نفس حين تلْقى حبيبها

تُـسرُّ، ولا كُلُّ الغـياب يُضيرُها

فإن سـرّها قبل الفراق لقاؤُه

فليس بمأمـون عليها سـرُورُها

متى تُبْصر القدس العتيقة مرّة

فسوف تراها العيْنُ حيْثُ تُديرُها".‏

‏ ففي مقطع القصيدة الاستهلاليّ اندفاعٌ إنسانيّ لا إراديّ نحو المدينة المقدسة التي ترى فيها (كلّ ما لا ‏تستطيعُ احتماله)، فكلّ الذكريات والأشواق والأحاسيس المختزنة في النفس الإنسانيّة تحمل صاحبها على ‏السير شوقًا لمكانٍ زاخرٍ بالأمجاد والحضارة والعمق التاريخي، لذا أظهر البرغوثيّ رغبته الشديدة ‏بالوصول رغم (قانون الأعادي وسورها)، بتكرار المحاولات للدخول مرّاتٍ ومرّات، مصوّرًا رحلته ‏الإنسانية بكلّ أبعادها إلى مدينة القدس، وهو يستقلّ سيّارة الأجرة العموميّة، مبصرًا القدس العتيقة التي ‏عرفها دون أن تراها العين. ‏

فقد أخذنا البرغوثيّ معه في رحلة إنسانيّة نحو بلدٍ إنسانيّ صعودًا وهبوطًا في المشاعر الإنسانية، فمرة ‏يكون في حالة من السعادة والفرح وهو في طريقه إلى القدس التي يشتاق إليها، ومرة تتحول مشاعر ‏الفرح إلى حزنٍ يزداد وقعه بالاقتراب شيئًا فشيئًا إلى القدس. يقول(‏ ‏): ‏

‏"في القدس، بائعُ خضرة من جورجيا برم بزوجته‎ 

يفكرُ في قضاء إجازة أو في طلاء البيتْ‎ 

في القدس، توراة وكهل جاء من منْهاتن العُليا يُفقّهُ فتية البُولُون في أحكامها‎ 

في القدس شرطيّ من الأحباش يُغْلقُ شارعًا في السوق،

رشّاش على مستوطن لم يبلغ العشرين،‎ 

قُبّعة تُحيّي حائط المبكى‎ 

وسياح من الإفرنج شُقْر لا يروْن القدس إطلاقًا‎ 

تراهُم يأخذون لبعضهم صُورًا‎ 

مع امْرأة تبيعُ الفجْل في الساحات طُول اليومْ".‏

لقد انتقل البرغوثي مباشرة بعد الاستهلال المدوّي للإعلان عن زيارته إلى الحديث عن الواقع الإنسانيّ ‏للقدس كمدينة لها تركيبة اجتماعية مختلفة عن المدن الكثيرة، فرغم ما تتعرّض له من احتلال غاشم ‏ظلّت تلك المدينة التي تملي على ساكنيها البحث عن مصادر العيش، والحصول على متطلبات الحياة ‏الإنسانية، فقد ذكر مشاهداته المتنوعة عن الناس الذين لفتوا انتباهه، متحولًا إلى ذكر أماكن أخرى ‏كـ(جورجيا، منهاتن، البولون).‏

فقد ذكر أبعادًا إنسانية اجتماعية متمثلة في صور التجار والسائحين والمستوطنين وبائعات الفجل من ‏حرائر مدينة القدس، وفي هذا الاستجلاب النوعيّ مقارنات تصبّ جميعها في بعد إنسانيّ مركّب يركّز ‏على استمرارية الحياة الإنسانية بصورها المتنوعة في القدس، رغم ما يجري على أرض هذه المدينة ‏العظيمة التي حافظت على طقوسها وعاداتها، وظلّتْ حاضنة للإنسانية على مدى أزمان طويلة.‏

ولشدّة الارتباط الإنسانيّ بمدينة القدس ظلت في عيون أهلها الحاضرين والمشرّدين رمزًا للوجود، ‏وعلامة على الصمود، حتّى أنها رغم السياسة الاستعمارية كما لو كانتْ حرّة طليقة يطارد جند ‏الاستيطان مَن يدافعون عنها فوق الغيم، لكثرة ما وقفوا في وجوههم دون خوفٍ أو تردّد، وتربّصوا بهم، ‏وحاكوا لهم خطط المقاومة التي لم تستطع أسلحتهم المتطورة إبطالها، وفي الجانب الآخر تجتمع القلوب ‏الإنسانية على نداء الله، ملبيّة وساجدة في كلّ الساحات، وعلى الطرق المعبّدة بالأسفلت. يقول(‏ ‏): ‏

‏"في القدس دبّ الجندُ مُنْتعلين فوق الغيمْ‎ 

في القدس صلّينا على الأسْفلْتْ‎ 

في القدس من في القدس إلا أنْتْ؟".‏

ومع حالة الانجذاب نحو القدس في زيارة عسيرة المنال يستحضر البرغوثي أهمّ شاهد على وجود ‏القدس، وهو التاريخ الذي يتلفّت لكلّ متسائل عن القدس متبسّمًا، كإشارة على توافق معه على المشاعر ‏الإنسانية التي تدفعه للبقاء في القدس، ولو كلّف الأمر حياته، لذا تنهال كثير من التساؤلات على كلّ ‏متردّد في اعتبار القدس قضيّة طواها الزّمن، فالعدوّ لم يزلْ بصورته الوحشيّة التي بدأ بها مخطط ‏الاحتلال، لذا لن يستطيعوا إخفاء صوره عن العالم الذي تكشّفوا أمامه، وهنا يؤكد البرغوثي في محاورة ‏خطابية مع التاريخ أنّ هذه الزيارة الأولى لنْ تحقّق المنال، ولن تكون شفيعة له لنيلِ هواه، وتلبية ‏مشاعره الإنسانية التي كم من فتى سواه بحثَ عنها. يقول(‏ ‏):‏

‏"وتلفّت التاريخُ لي مُتبسّما‎ 

أظننْتَ حقًا أنّ عينك سوف تخطئهم، وتبصرُ غيرهم‎ 

ها هُم أمامك، متْنُ نصّ أنت حاشية عليه وهامش‎ 

أحسبتَ أنّ زيارة ستُزيحُ عن وجه المدينة يا بُنيّ‎ 

حجاب واقعها السميك لكي ترى فيها هواكْ‎ 

في القدس كلّ فتى سواكْ".‏

فالموقف الإنسانيّ من مدينة القدس يحتّم على كلّ إنسانٍ أن يتعاطف معها كقضيّة إنسانيّة شعبيّة، ‏وكأزمة عربيّة تمخّضت عنها منظومة من الأزمات، ونجمت عنها قضايا إنسانية لم تزل عالقة إلى ‏يومنا هذا، فالإنسان هو مركز الوجود، وهو شريان الحياة والعصب الممتدّ في الحضارات والأزمان، ‏ولولاه لظلّت الأفكار طريحة العقل لا تظهر على حيّز الوجود، ولا تلمس وجه الأرض، فهو من يمتلك ‏أدوات الانفتاح والتوسّع الثّقافي والدّمج الإنسانيّ والفكريّ، لكنّه في القدس تحديدًا إنسانٌ مغلوبٌ على ‏أمره، مصادرة حرّيته، وفي كل يوم تزداد قضيّته تعقيدًا وتشبيكًا، والتاريخ خير شاهد على ما جرى ‏ويجري. ‏

يقول(‏ ‏): ‏

‏"يا كاتب التاريخ مهْلًا، فالمدينةُ دهرُها دهران‎ 

دهر مطمئنّ لا يغيرُ خطوه وكأنّه يمشي خلال النومْ‎ 

وهناك دهر، كامن متلثم يمشي بلا صوت حذار القومْ‎ 

والقدس تعرف نفسها‎ 

اسأل هناك الخلق يدلك الجميعُ‎ 

فكلُّ شيء في المدينة‎ 

ذو لسان، حين تسألُهُ، يُبينْ‎ 

في القدس يزدادُ الهلالُ تقوسًا مثل الجنينْ‎ 

حدْبًا على أشباهه فوق القباب‎ 

تطوّرتْ ما بيْنهم عبْر السنين علاقةُ الأب بالبنينْ".‏

ينادي البرغوثي على كاتب التاريخ؛ لكي يتمهّل قبل تدوين الأحداث عن مدينة القدس بالصورة التي ‏يراها، ويخبره أنّ لهذه المدينة دهرين ينبثقان عن دهر زمنيّ واحد، فالدَّهر الأوَّل في حالة اطمئنان على ‏مستقبل مدينة القدس رغم كلّ ما تتعرّض له، وقد ربط هذا الدَّهر بأحلام مَن يمشي في نومه، دلالة على ‏المؤمّل من الإنسان الفلسطينيّ الصامد على أرضه، أمّا الدَّهر الآخر فدهر مستتر عن أولئك الذين تخلّوا ‏عن قضيّة القدس، وتظاهروا بالتخفّي.‏

أمّا القدس فهي تعرف نفسها حقّ المعرفة، وهي القادرة على الإفصاح عن حالها، فهنالك قباب مسجدها ‏الأقصى التي تربطها بالسّماء، وتوثّق العلاقة معها كما يوثّق الأب علاقته بالبنين، وهنا يظهر البعد ‏الإنسانيّ بصورته الصريحة ضمن علاقة إنسانيّة تؤسس لصرح الإنسانيّة.‏

‏ ‏

•الهوامش:‏

‏(‏ ‏) الضمور، عماد (2015)، مقال بعنوان: تشكلات القدس في الشعر العربي الحديث، الموقع ‏الإلكتروني: ‏https://www.addustour.com/articles‏).‏

‏(‏ ‏) حرب، أحمد (2020)، صورة القدس في أدب محمود درويش، 2020، ‏https://www.alhadath.ps/article‏).‏

‏(‏ ‏) درويش، محمود (2007)، يوميات الحزن العادي، بيروت، رياض الريس، ط4، ص98.‏

‏(‏ ‏) السابق نفسه، ص98.‏

‏(‏ ‏) البرغوثي، تميم (2009)، في القدس، دار الشروق، القاهرة، ص7. ‏

‏(‏ ‏) السابق نفسه، ص8. ‏

‏(‏ ‏) السابق نفسه، ص9. ‏

‏(‏ ‏) السابق نفسه، ص9. ‏

‏(‏ ‏) السابق نفسه، ص10‏