تجلّيات اللغة الشعريّة في "اليوسفيّات"‏

 

للشاعر الفلسطيني يوسف حطيني

عمر محمد جمعة

كاتب وناقد سوري

 

في ديوان "اليوسفيّات" لا يكتفي الشاعر يوسف حطيني باجتراح اللغة الآسرة وتشكيلاتها البديعة، ‏إنَّما يضفي عليها جماليّات أبقى حين يذهب إلى التناص واستدعاء صور من التراث الشعري ‏العربي. وعلى الرّغم من علوّ اللغة الشعريّة ومتانتها وتعدُّد أصواتها في الديوان، إلّا أنَّ ذلك لم ‏يمنع الشاعر أيضًا من ابتكار لغة تواكبُ روحَ العصر، تنأى عن الإبهام والغموض والإغراق في ‏الرمزية. وفي "اليوسفيات" يحفرُ الشاعر بلغة شعريّة آسرة صورَ الوجوه التي هدّها الحزن ‏والانتظار، وينفضُ عن أرواحها المتعبة غبار السنين وثقلَ المنافي التي ما زالت تطوي معها ‏حنين اللاجئين إلى بيّارات يافا وشواطئ عكا وجبال صفد وسهول الخليل ووديان عسقلان ‏ومآذن القدس وأجراسها.‏

تُعرَّف اللغة الشعريّة بحسب كثيرٍ من النقاد ومؤرّخي الأدب بأنها اللغة التي يستخدمها الشاعر في ‏نصِّه ليضفي عليه بُعدًا جماليًّا، أو الوعـاء الـذي يحمـل مـشاعره وأحاسيسه العميقة، وهي نتاج ‏تلاحم وانصهار اللفظ مع المعنى مكوّنًا نسيجًا جديدًا أو مولودًا جديدًا نسمّيه النص، بالاعتماد ‏على الألفـاظ الرشـيقة والتشبيهات البليغة والموسيقى التي تخلق إيقاعًا جميلًا، وتـصوير ذلـك ‏تصويرًا دقيقًا يمزج بين الخيال والواقع وبين الوعي واللاوعي. ويرى آخرون أنَّ اللغة الشعرية ‏ترتبط ارتباطًا وثيقًا بثقافة الشاعر ومرجعياته الفكرية وبكل العوامل الذاتية والموضوعية التي ‏تساهم في تمييز تجربته الشعرية برمّتها.‏

وعلى هذا فإنه يمكن القول إنَّ ديوان "اليوسفيّات.. وقصائد أخرى" للشاعر يوسف حطيني ‏والصادر ضمن منشورات اتحاد الكتّاب العرب بدمشق عام 2020، يحاصركَ بجماليّاته ‏وتجلّياته، إذ يكتنز لغة شعرية عالية في تفرُّدها وتجديدها ومتانتها على مستوى الشكل ‏والمضمون، إنها لغة الخلق والإبداع التي أشار إليها أدونيس وغيره من شعراء الحداثة، ولاسيما ‏أنها لغة مغايرة للمألوف، تواكب روح العصر بصورها البيانية المبنية بعناية، وبراعة استخدام ‏الرمز والتشكيل الدرامي متعدّد الأصوات، فضلًا عن رسائلها الدلالية وتناصاتها وبعدها عن ‏جمود اللغة التقليدية، واستفادتها من التراث الشعري العربي وتطويعها بما يلبي الغرض ‏المطلوب.‏

ست عشرة قصيدة هي على التوالي: (اليوسفيات- جنازة أمي- ساعة أبي- امرأة من المخيم- قيامة ‏اليرموك- قصيدة العطر- تناسخ- حاشية على كذبة نيسان- على سفر- بوح دفلى- خطوط يدي- ‏في انتظار ضفائرها- على فرس من كلام- تقاسيم على وتر الحب- قصيدة الرحيل- امرأة من ‏نار)، ناظمها الرئيس معاناة الإنسان، وإن شئنا التقريب أكثر سنقول: الإنسان الفلسطيني في ‏تراجيديا المنفى التي لا تنتهي، والمترعة بالقلق والحزن والانتظار.‏

إنها الأنا المعذَّبة التي يرتقي بها حطيني إلى مصاف الخلود وقد أرّقها الماضي وحكاياه، وفيها ‏يقول: "هناك غزالةٌ ثكلى.. تحدثنا عن الماضي الذي عاشت حكاياهُ.. عن الأطفال قبل أوانهم ‏كبروا.. عن الشهداء.. حين مخيم اليرموك يدفنهم.. فيطلع حولهم شجرُ.. وتعشقُ مثل شاعرنا ‏زهورَ الأرضِ.. حين يرشها المطرُ.. وتبهجها بنفسجةٌ ويحزنها قطارٌ هدّهُ السفرُ"(ص80).‏

بل يرقّ ويشفّ أكثر في لغته وتعبيره حين يتغلغل في جوانيّات هذه الأنا المحاصَرَة بالظلم ‏والعتمة والسواد، يقول:‏

‏"سألملمُ الأشواكَ من دربي

وأجعلُ هجعةَ الماضينَ

رابيةً من العشبِ

وأزرعُ قصةَ التاريخِ في روحي

وأنزعُ فضّة النسيان من قلبي

ولكنَّ المدى المجبولَ في حلكٍ يحاصرني

سوادٌ كلُّ ما حولي

ونفسي في دُجى الظُلَم

وهذا القبرُ يرفعني إلى العَدَمِ

وفوق القبر لا عشبٌ ولا ماءُ

فلا هندٌ تغازلُني

ولا تأتي لتزرعَ وردةً في القحط

نجلاءُ..."(ص77).‏

هذه الذات الغارقة في سوادها سيغدو حزنها مستبدًا ودموعها مالحةً وقلبها موجوعًا مكلومًا، حين ‏يصير الوطن أضغاث رائحة مشتهاة مضمخة بعطر الخزامى والسوسن والسنديان، ما ضلَّ ‏الشاعر أبدًا الطريق إليه، يقول:‏

‏"لديّ إذًا في دمي

وطنٌ من عبيرٍ

يُطلُّ على صهوةِ الريحِ

من غيمةٍ جارحةْ

وما زلتُ أبحثُ

في جسدٍ أنهكتهُ العواصفُ

عن حزنِ نايٍ يُغني لرائحةِ الحزنِ

في دمعتي المالحةْ.."(ص72).‏

ولا يكتفي الشاعر يوسف حطيني باجتراح هذه اللغة الآسرة وتشكيلاتها البديعة، إنَّما يضفي عليها ‏جماليات أبقى حين يذهب إلى التناص واستدعاء صور من التراث الشعري العربي، فها هو ‏يستحضر الشاعر الشهيد عبدالرحيم محمود وحكايته، متواشجةً مع حديث نبوي، قاربه أيضًا في ‏قصيدة "اليوسفيات" حين قال (ص13): "لو وضعوا الشمسَ بين يديّ"، فيما يقول هنا في ‏‏(ص106):‏

‏"سأسألُ عينيكِ عن تربةِ الحقلِ

عن عسلِ النحلِ

عن دمعةٍ هجعتْ في جفون الشهيدْ

وقد ردّدت صوتَه هدهداتُ الحناجرْ

‏"سأحمل روحي...."‏

أتذكرُ عيناكِ حقًا حكايةَ شاعرْ؟

لماذا تطلّينَ من شغفي فجأةً

مثلَ قافيةٍ من عتبْ

سنابلُ شعركِ غائبةٌ لا أراها

ولكنها من ذهبْ

وأحدسُ تحتَ الحجابِ نجومًا

وأحدسُ تحتَ الثياب لهبْ

تعالي لكي نشعلَ النارَ

يا حلوتي في المنافي.. ‏

عليكِ سلامُ القوافي

ولي وعليّ الضنى والتعبْ

وجمع الحطبْ".‏

على أنَّ التناص الأجمل والأبهى حضورًا سيظهر في قصيدة "اليوسفيّات" التي سيتكئ حطيني ‏فيها على قصة النبي يوسف ويسقطها على واقع الإنسان الفلسطيني المتروك للمواجهة وحده، في ‏سرديّة بديعة مقرونة بأسطورة الفتاة سرايا بنت الغول وحكاية شعرها الطويل، يقول:‏

‏"ضعوا يوسفًا داخلِ الجُبّ كي يستريحْ

أخرجوا أرضَ كنعانَ من قلبهِ

واجعلوا قلبَهُ قبضَ ريحْ

وانثروا زهرةَ الوقتِ فوقَ الضريحْ"(ص11).‏

وفي القصيدة نفسها يقول:‏

‏"أخافُ، حبيبةَ عمريَ، سيّارةً أن تمرَّ

أخافُ تهيلُ الترابَ عليّ

وها أنا أهربُ منّي إليكِ

وأهرب منكِ إليّ

خيالكِ يملؤني يا "سرايا"‏

برائحةِ المريميّةِ

بين حقولِ الجليلْ

وحاولتُ ألا أحبكِ

حاولتُ ألا أحبكِ

حاولتُ...‏

لكنني في الغيابةِ

ما زلت أنتظر المستحيلْ!"(ص7).‏

إنَّ علوّ اللغة الشعرية ومتانتها وتعدُّد أصواتها وأداءها الغرض المطلوب في تجسيد الحالة، كما ‏رأينا في الأمثلة السابقة، لم يمنع الشاعر أيضًا من ابتكار لغة تواكبُ روحَ العصر، تنأى عن ‏الإبهام والغموض والإغراق في الرمزية، يقول:‏

‏"نعمْ.. يا حشيشةَ قلبيَ

نحنُ بخيرٍ فلا تجزعي

ربَّما نالنا تعبٌ من غبارِ الطريقِ

ولكنَّنا نستحمّ كما تعلمينَ

بوجْدِ ابتهالاتك الطاهرةْ

ونحملُ شوقَ العيونِ الحزينةِ

للقدسِ والناصرةْ

أنا يوسف الطفلُ والولدان

وأمُّ العيالِ

وبنتايَ يا أمّنا الراحلةْ

جميعًا.. جميعًا

حفظنا شذا المريميّةِ

في رئة العائلةْ"(ص33).‏

أمّا الرمزية المفهومة ذات الدلالات المفتوحة، فسنراها مجسَّدة في قصيدة "قيامة اليرموك" ‏‏(ص52)، وفيها سيتخذ الشاعر من ألوان العلم الفلسطيني عناوين وعتبات نصيّة يروي فيها ‏فصولًا موجعة من حكايا المخيَّم الذي يسمّيه "فلسطيننا الصغيرة". ‏

في "اليوسفيات" يحفرُ الشاعر يوسف حطيني بلغة شعرية آسرة صورَ وجوهنا التي هدّها الحزن ‏والانتظار، وينفضُ عن أرواحنا المتعبة غبار السنين وثقلَ المنافي التي ما زالت تطوي معها ‏حنين اللاجئين إلى بيارات يافا وشواطئ عكا وجبال صفد وسهول الخليل ووديان عسقلان ‏ومآذن القدس وأجراسها، لمدن تنهض دومًا من تحت الرماد. ويوم يتشهّى الكتابة عن الطفل ومن ‏ثم الشاب والأديب الأكاديمي سيكتبُ عن الحُبّ على الرغم من رمال هذه المنافي، يقول:‏

‏"إنه الحُبّ..‏

فاليومَ خمرٌ وخمرٌ وخمرٌ

وفي الغدِ

نشربُ نخبَ الحنينْ

إنَّ عشقكِ أمرٌ

إلى أبدِ العاشقينْ

إنه الحبّ..‏

أن تتهجّأ رملَ المنافي

ولا يتبقّى من الأبجدية

إلا كتابُ دمشقَ

ورائحةُ الياسمينْ"(132).‏

يُذكر أنَّ الشاعر د.يوسف حطّيني أديب وأكاديمي وباحث وناقد فلسطيني، وُلد في مخيم اليرموك ‏بدمشق عام (1963)، وهو حاليًا محاضر في جامعة الإمارات العربية المتحدة. حاصل على ‏إجازة في اللغة العربية من جامعة دمشق عام 1986، ودبلوم الدراسات الأدبية العليا من الجامعة ‏نفسها عام 1988، ودبلوم التأهيل التربوي من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين ‏الفلسطينيين في مدينة عمّان عام 1996، وماجستير في الأدب العربي الحديث (أدب ونقد: القصة ‏القصيرة) من جامعة دمشق عام 1992، ودكتوراه في الأدب العربي الحديث (أدب ونقد: رواية) ‏من جامعة دمشق عام 1997.‏

صدرت له أعمال أدبية عدة في حقول الشعر والقصة والرواية والمسرح والنقد نذكر منها:‏

في الشعر: "صرخات في ضجيج السكون"، "بيني وبين حبيبتي شيئان"، "نجمة في سماء الجليل" ‏‏(قصائد قصيرة جدًا)، "بنفسجة في سحابة" (قصائد قصيرة جدًا)، "اليوسفيات.. وقصائد ‏أخرى"، "قصيدة البردة الفلسطينية". ‏

وفي نقد الشعر: "في سردية القصيدة الحكائية (محمود درويش نموذجًا)"، "عبدالرحيم محمود: ‏فارس الوطن.. فارس القصيدة"، "القدس في الشعر العربي الحديث"، "الشعر الإماراتي.. قراءات ‏في الموضوع والفن"، "موسوعة الشعر الفلسطيني"، "السياق السردي في الشعر العربي ‏المعاصر"، "القصيدة القصيرة جدًّا (جذورها- تداخلاتها- ملامحها)". ‏

وفي القصة: "مدينة البامياء"، "ذماء" (قصص قصيرة جدًا)، "الطريق إلى مخبز شبارو"، "جمل ‏المحامل" (مئة قصة فلسطينية قصيرة جدًا)، "شجرة العائلة". ‏

وفي نقد القصة: "سميرة عزام: رائدة القصة القصيرة الفلسطينية"، "القصة القصيرة جدًا بين ‏النظرية والتطبيق"، "دراسات في القصة القصيرة جدًا"، "القصة القصيرة الإماراتية"، "ملامح ‏السرد القرآني: دراسة في أنماط القص والتلقي والشخصيات والبيئة القصصية".‏

وفي الرواية: "رَجُل المرآة".‏

وفي نقد الرواية: "مكونات السرد في الرواية الفلسطينية"، "السرد العُماني الروائي الحديث"، "في ‏ظلال النخيل.. دراسات في الرواية الإماراتية"، "مصطلحات السرد في النقد الأدبي"، "أغصان ‏على شجرة السرد الروائي العربي"، "كنعان ساردًا روائيًا: قراءات في الروايّة الفلسطينيّة"، ‏‏"الرواية العربية في الغرب (سبعة ألوان سرديّة في قوس قزح مهاجر)"، "الصّوت والصّدى ‏‏(ستّ نوافذ عربية على السّرد العالمي)".‏