قصيدة النثر: ‏ خواطر في الحقيقة الماثلة أمامنا

 

غازي الذيبة

شاعر وكاتب أردني

 

 

كان دخول قصيدة النثر بسماتها الغربيّة عن طريق الترجمة إلى العربيّة أمرًا يسيرًا، ‏صحيح أنه جوبه بسيل جارف من النقد، وغالبه مُصاب بالخوف والرّهبة من فنّ دخيل، ‏إلّا أنَّ هذه القصيدة وجدت مناصرين لها، وجمهورًا يستقبلها، لكنها بقيت تقف على ‏هامش الشعريّة العربيّة السائدة حينها، وربَّما ما تزال إلى اليوم خجولة من أنْ تضع قدمها ‏على أرض الشعريّة العربيّة بقوّة، على الرّغم من انتشارها الواسع؛ ذلك الانتشار الذي ‏جعل كاتب هذا المقال يتساءل: ما الجدوى التي يمكن أن يحققها الشعر بكل أنواعه في ‏الحياة؟ وهل علينا صناعة اختلافاتنا حوله على قاعدة الأصالة والتحديث في الفنون ‏الأدبيّة؟

 

ما يزال مفهوم قصيدة النثر ملتبسًا لدى كثيرين، ولكنّني دائمًا ما أعود إلى عبدالقاهر ‏الجرجاني والسابقين في فهم مدارج الكلام وفنون الأدب، وما أفردوه من إيضاحات ‏نظرية بشأن النثر والشعر، وأميلُ لكي لا أقع في الخلط، إلى الجرجاني في تفصيله للنظم ‏في النثر والشعر، وأرى أنه اقترب ولو مفهوميًّا من تفسير الإيقاع النثري، لكنه على ‏الرّغم من عبقريّته، أبقانا مرتبكين في خلق نظرية جديرة بالحكم على قيم هذه القصيدة، ‏لعدم وجود أساس لها في الشعرية العربية.‏

لقد ظلَّ الأمر مُشكلًا عليّ، ربّما لعجز فيّ، أو لعجز أيضًا في فهمي للنظم في النثر، الذي ‏جاء التنظير له في حقبة زمنية كانت فيها اللغة، تدرج على ألسنة متنوِّعة، بحكم أختلاف ‏الألسنة في الحواضر العربية، والإسلامية التي احتضنت أقوامًا وأجناسًا من شتى بقاع ‏العالم القديم، يتحدثون بلغات شتى، لها نظمها الإيقاعية ونحوها في القول والشعر والنثر.‏

وبرأيي، فإنَّنا اليوم ومع تطوُّر الدراسات اللغوية، أحوج ما نكون لباحثين يستنطقون منجز ‏قصيدة النثر وإيقاعها، للخلوص إلى مفاهيم تمنح المشتغلين عليها، فسحة لاستدراك مأثرة ‏هذه النوع الشعري، الذي ما يزال التقعيد والتنظير له محشوًّا بالغموض‎.‎

لا أنكر أنَّ مساحة قصيدة النثر أكثر سعة من القصيدة التقليدية (ستصبح قصيدة النثر ‏تقليدية ذات زمن مقبل) في استحضار المضامين والمواضيع التي توائم زمننا، وأنها ذات ‏إشعاع مؤثر في الوجدان، لكنني أرى أنَّ ذلك كله، لم يجعلها تتجاوز المنطقة التي أنتجتها، ‏كفنّ قادم من خارج سياق اللسان العربي، يحتاج الاشتغال على برمجته ليدخل لحمة هذا ‏اللسان، إلى جهد مختبري كبير من المشتغلين عليها، ليمكِّنهم من تخليق نظريتهم في ‏النظم، لإعادة إنتاج سياق لها، يحتمي بأفق قادر على تطويرها وتمكينها من أن تكون ‏فاعلة وحيوية في إضافاتها للفنون الأدبية الشعرية‎.‎

وعلى الرّغم من أهميّة الحريّة التي تمنحها هذه القصيدة، ذات الإيقاع الحر، وربّما غير ‏المنضبط بنظم رياضي معيَّن، إلا أنَّ كثيرين يجدون الكتابة فيها سهلةً ويسيرةً، وتعوِّضهم ‏عن تعقيدات الوزن والإيقاع الغنائي الذي تأسست عليه الشعرية العربية. لكن هذا ‏الاستسهال، لم يكشف لنا إلى اليوم ماهيّة قصيدة النثر، أهي مزاوجة بين فنون شعرية ‏ونثرية أم ماذا؟ أهي قصيدة ذات بنية مكتملة، ذات خصوصيات واضحة، تلتئم فيها ‏شروط الشعر، أم هي فنّ يمكن أن يكون غير الشعر، يرتبط بنوع يجب أن نبحث عن ‏إطار له؟

وليكن، فما هي شروط الشعر؟

أهي الإيقاع، الوزن، المفارقة، الصورة.. وما إلى ذلك من اشتهاءات يلتقطها النقاد ‏ويضعونها في موازين مشاغلهم النقدية حول الشعر الذي استقرَّ فهمنا لطبيعته منذ قرون، ‏وبات الإخلال بها مثلبة، تثير حساسيات شديدة بشأن الأصالة والحداثة. ‏

لنعترف أيضًا، بأنَّ قصيدة النثر بعد أن جلبها شعراء روّاد في خمسينات القرن العشرين، ‏إلى الفنون الشعريّة العربيّة من قلب الفنون الشعريّة الغربيّة، برَّروا جهودهم هذه، بأنَّ لها ‏أصولًا في الأدب العربي، مستحضرين الشاهد على ذلك من نصوص في كتب التصوُّف ‏العربي، وجدوها تقترب في بنائها مع قصيدة النثر الغربيّة حين تترجم إلى العربيّة.‏

كان دخول قصيدة النثر بسماتها الغربيّة عن طريق الترجمة إلى العربيّة أمرًا يسيرًا، ‏صحيح أنه جوبه بسيل جارف من النقد، وغالبه مُصاب بالخوف والرّهبة من فنّ دخيل، ‏إلّا أنَّ هذه القصيدة وجدت مناصرين لها، وجمهورًا يستقبلها، لكنها بقيت تقف على ‏هامش الشعريّة العربيّة السائدة حينها، وربما ما تزال إلى اليوم خجولة من أن تضع قدمها ‏على أرض الشعريّة العربيّة بقوّة، على الرغم من انتشارها الواسع. ‏

اليوم، احتشدت المكتبة العربية بكتب قصيدة النثر، وبات الحصول على قصيدة تفعيلة أو ‏عمودية، أمرًا مثيرًا. وهذا لا يعني اختفاء هذه الأنواع الشعرية، لا، فانتشار الفنون بات ‏يخضع لآليات معقدة في النشر والاحتفاء وغيرها من التفاصيل التي تُخضع الفنون لآليات ‏العمل الإعلامي، وتُسيِّد هذا على ذاك.‏

يجعلني انتشار قصيدة النثر بهذا الزخم، أتساءل عن الجدوى التي يمكن أن يحققها الشعر ‏بكل أنواعه في الحياة، وهل علينا صناعة اختلافاتنا حوله على قاعدة الأصالة والتحديث ‏في الفنون الأدبية؟

للحقيقة، تمدُّنا قصيدة النثر بفضاء لا متناه من المعاني الجديدة، والصور والمشاعر ‏والتحليقات، تصل إلى مناطق بكر، لم يطأها الشعراء من قبل، أي أنها منجز مُلهم، قادر ‏على التحرُّك في أكثر من منطقة تضيء الوجود والوجدان، وتحقق حرية التحرك في ‏مجرّة الشعر والإضافة إليها، بما يفضي إلى لذّة استثنائية، وهذا يتفق مع لغة عصرنا‎.‎

ولنعترف أيضًا، لقد خفت صوت المعمارات الفخمة، المهندسة باتفاق مع البحور أو ‏الإيقاعات الرياضية في بناء القصيدة، أو هو يحاول البقاء، ذاك أنَّ الغَرف منه أصبح ‏مكرورًا، يستمدّ وقعه من المُكرَّس في الشعريّة العربيّة السابقة، ولا جديد كثير فيه، وإنْ ‏ظهر ما يحتمي بالجدّة حينًا هنا أو هناك، فإنه مقصور على الاستسلام للقالب النمطي ‏الجاهز، لذا فما نحتاجه لنواكب أرواحنا المغتربة في العالم الغريب، هو أن نخرج من ‏صناديق الأجداد؛ لا هجاء لهم، بل امتنانًا لما دفعونا إليه من تحقيق الوصول إلى هواء ‏الحريّة في كتابة، تحاول أن تسعنا ونسمّيها قصيدة النثر‎.‎

دعونا إذن من الكلام عن فضاء هذا النوع من الكتابة، ولنقف متأملين منجزه الذي لم ‏يتجاوز القرن بعد من عمره. نحن في القرن الحادي والعشرين، ومهمّة الكتابة -أيّ كتابة- ‏لم تعُد مقتصرة على التوقف عند نقطة بعينها، لتأمُّلها، بل أضحت أكثر انفتاحًا على ‏الأنواع الكتابيّة، وهي تتماسك بقصديّة أو من دونها في الإفصاح عن جماليّاتها، أكان ‏المكتوب، بمقاييس الصارم رديئًا أم عبقريًّا.‏

لكن هذا لا يمنعنا من التوصُّل إلى استنتاجات، تفصح عن جودة المكتوب أو عدمه، ذاك ‏يحتكم إلى قدرتنا على إدراك كنه المكتوب، وإمكانيّاته في دفعنا إلى التخييل أو الاندهاش ‏أمام البساطة أو التعقيد.‏

تشكّل سمات قصيدة النثر -وهي بالضرورة تواكب الزمن الذي تنتج فيه من ناحية البناء ‏والمحتوى النفسي والتفاصيل التي نعيشها والتأثيرات التي تمسّنا ونتفاعل معها- ذاتها في ‏إنتاج ذاتها، وتقود المعاني إلى قاموس جديد، نحتاجه في حياتنا، لنمنحها بعض الجدوى ‏من اللغة وفنونها.‏

في النقد القديم، هناك قواعد واضحة، تقول إنَّ هذه القصيدة جيدة وتلك أقل جودة. ‏وتفصح أسواق العرب الشعرية القديمة، عن موازنات معقدة، تخضع لذائقة المتلقي سواء ‏أكان شاعرًا فحلًا أم شاعرًا جديدًا. لكن في النقد الحديث -وهو غربي، لا يد للشرق فيه- ‏يقع تقييم النص الشعري في مكانة مختلفة تمامًا، تحكمها آليّات وتصوُّرات مركّبة، تستند ‏على عوامل لم تعُد تخضع لمدرسة نقدية، فالعرب لم يتمكنوا من إنتاج مدرسة نقدية في ‏العصور الأخيرة، وما يزالون يترنّمون بأزمنة النقد القديمة.‏

لقد قرأتُ نصوصًا أجنبية، بما تيسَّر لي من فهم وإدراك لثقافة منتجيها وسيرهم الشخصية ‏وعوالمهم، وبعضها لشعراء نالوا جائزة نوبل، وعلى الرغم من ذلك لم تفلح تلك القصائد ‏بتمكيني من الاندهاش بها، أو التأثير بي، وبعضها أخذني إلى مساحات ضوئيّة فاتنة.‏

ربّما يكمن عدم فهمي لجزء من نصوصهم في قصور معرفي عندي، لكنّني أدرك أنَّ فنّ ‏الباليه المعقّد الذي تتمازج فيه الأصوات البشريّة وآلات الموسيقى والإيقاعات وحركة ‏الجسد، فنٌّ راقٍ ومذهل، لكنني لم أستمتع إلا ببعض المقطوعات منه، ولم أتيم حبًّا ‏بملاحقته.‏

لنتوقف إذن عند التاريخ الثقافي لمنتج القصيدة، ويمكن تحصيل معرفته بالمعايشة أولًا، ‏وسيكون من الصعب معرفة هذا على المشتغلين بالكتابة الشعرية، دون أن يوازي إنتاجهم ‏تعليقات عليه، تفضي على مهل إلى تشكيل تصوُّرات واضحة، قد تؤطّر لاحقًا مبنى ‏نقديًّا، يمكِّن من وضع خطوط وفواصل لهذا الفن الشعري الذي أصبح حقيقة ماثلة أمامنا.‏