رواية "حابي" للكويتي طالب الرفاعي.. ‏ استلهام الأسطوريّ لطرح المسكوت عنه مجتمعيًّا ‏

 

جعفر العقيلي ‏

كاتب أردني

 

 

 

يُسجَّل للرفاعي في هذه الرِّواية جرأة الطرح عبر مناقشة موضوع "اضطراب النّوع" ‏أو ما يسمّى طبيًّا "التحوُّل الجنسي" من زواياه الأكثر حساسية بالنسبة لمجتمعات ‏‏"مذعورة" ترتضي الانغلاق وترفض الاعتراف بأيّ أمر خارج المسلَّم به والمتعارَف ‏عليه؛ فيسلِّط الضوء على تناقضات المجتمع وأزماته الأخلاقيّة والقيميّة، واحتكامه إلى ‏منظومة من الأطر المحدَّدة التي لا علاقة لها بمنطق أو دين. وهو يوظّف أسطورة ‏الإله الفرعوني ثنائي الجنس "حابي" في تقنية الرِّواية وفي توصيف ما يعتمل في ‏بواطن البطلة/ البطل من اشتباك عضوي ونفسي. ‏

 

 

منذ العتبة الأولى لعمله الروائي الأخير، يضع الكاتب الكويتي طالب الرفاعي قارئه في ‏مواجهة مع أسطورة الإله الفرعوني "حابي"، الذي صُوِّر عبر ما وصل إلينا من آثار ‏على أنه ثنائي الجنس؛ حيث ملامح ذكورية من الأسفل وجسد أنثوي من الأعلى.‏

هذا الانشطار الذي تمظهرَ في جسد الإله "حابي"، كان التقنية التي اعتمدها الرفاعي ‏لتقسيم روايته نفسها الصادرة عن "ذات السلاسل" (الكويت، 2019)، إذ حمل الجزء ‏الأوَّل من الرواية اسم "حا"، وحمل الجزء الثاني اسم "بي"، ليكون القارئ أمام عتبة ‏أخرى، متصلة/ منفصلة، تدفعه للتفكير بمغزى التفكيك الذي أحدثه الروائي على ‏عنوان روايته التي تطرح بجرأة موضوعًا إشكاليًا يندرج ضمن "المسكوت عنه" ‏و"التابو" في المجتمعات العربية عمومًا. ‏

وبالولوج إلى عوالم الرواية، سيتضح شيئًا فشيئًا ما أراده الكاتب بينما هو يتناول ‏قضية "اضطراب النّوع" أو ما يسمّى طبيًّا "التحوُّل الجنسي"، وتحديدًا ذلك الذي ‏يرتبط بأسباب لها علاقة بتشوُّه جيني وراثي، وليس المتعلق بعوامل نفسية وخللًا في ‏الشخصية/ الذات. فالشخصية المحورية في الرواية "ريان" تعيش طفولتها وشطرًا من ‏مراهقتها فتاةً، لتكتشف بعد أن تتأخر العلاماتُ التي تكتمل بها أنوثتها، أنها ذكرٌ ‏‏"محبوس" في جسد أنثى، ومع هذا الاكتشاف تبدأ رحلتها الشاقة والمثيرة في مسار ‏التحوُّل الجنسي.‏

وخلال سرد حكائي يتمثل في التناوب بين الحاضر (تجربة البطلة محيَّرة الجنس في ‏التحوُّل وخضوعها لعمليات جراحية)، والماضي (ممثلًا بالمذكرات التي تسعى إلى ‏نشرها في كتاب)، تناقش الرواية المعنى المحدَّد للهوية الجنسية، وطبيعة الثنائية ‏الكامنة في الجنس البشري عمومًا، ففي الوقت الذي يقرّ به العلم أنّ كل جسد أنثوي ‏يحتوي -بنسبةٍ ما- على جانب ذكوري، وكلّ جسد ذكوري يحتوي -بنسبةٍ ما- على ‏جانب أنثوي، سرعان ما يتحول هذا المفهوم "البسيط" إلى كتلة من التعقيدات في حال ‏زادت نسبة الأنوثة في الجسد الذكوري أو الذكورة في الجسد الأنثوي، وبخاصة عندما ‏ترتبط هذه الزيادة بأمرٍ خارج عن إرادة الإنسان، ويتعلّق بطبيعة تخليقية في الأساس، ‏ولأسبابٍ تعود –علميًا- إلى طفرة جينية حدثت نتيجةَ ما يُعرف اجتماعيًا بـ"زواج ‏الأقارب". ‏

وهذا النوع اللاإرادي من الاضطراب هو محور معاناة "ريان"، إذ تكتشف أنها ‏تعرّضت خلال فترة حمل الأمّ بها لخللٍ في الكروموسومات، أدى إلى خلل في ‏الهرمونات وبنية الجسد وبنية المخّ وتخلُّق الأعضاء التناسلية. وهو ما يستدعي عملية ‏‏"تصحيح جنسي"، تختلف تمامًا عن عمليات التحوُّل المرتبطة بالاضطرابات الذهنية ‏أو النفسية. ومع عملية التصحيح في الجنس، يجد القارئ نفسه مطالَبًا بتصحيح ‏المفاهيم المتعلقة بالازدواجية الجنسية، حيث يساوي المجتمع في العادة بين المتحوِّل ‏لأسباب نفسية أو ذهنية أو استجابةً لقرارٍ يرتبط بمزاجه وميوله "المكتسبَة"، وبين ذلك ‏الذي تستدعيه مقتضيات طبيّة ويكون خارجًا عن إرادة الإنسان وقراره.‏

في الجزء الأول من الرواية تروي "ريان" عن التحديات التي واجهتها والهواجس التي ‏سيطرت عليها منذ الطفولة. فمن الجانب النفسي كانت دائمةَ الشعور بأنها ليست فتاة، ‏وأنها لا تميل لتكون كذلك، فهي تفضّل اللعب مع الأولاد، وارتداء ملابس الذكور، ‏وأيضًا قصّ شَعرها وتقصيره.. لكن هذه الأحاسيس التي لازمتها، لم تكن هي الدافع ‏وراء تفكيرها في عملية "التحوُّل"، فالذي قادها إلى ذلك هو تأخُّر ظهور علامات ‏اكتمال الأنوثة بينما هي تلجُ مرحلة المراهقة، حيث كانت تراقب زميلاتها اللواتي بدأن ‏تباعًا يدخلن عالم البلوغ، في الوقت الذي غابت فيه العلامات التي تشي بذلك عن ‏جسدها، الأمر الذي جعل أمّها تصطحبها إلى الطبيب والأسئلة في بالها تتوالى بلا ‏إجابة.‏

وهنا تكون المفاجأة، إذ بعد سلسلة من التحاليل والفحوصات الطبية، يظهر أنَّ "ريان" ‏تعاني من خلل جيني وراثي، وأنها في حقيقتها ذكَر محاصَر بجسد أنثى. وبقدر ما ‏تثير هذه النتيجة حفيظة الأب سيئ الطباع والشقيقات الأربع لـ"ريان"، إضافة إلى الأم ‏التي اختار لها الروائي سمةَ المثقفة والواعية، فإنها في الوقت نفسه تُشعر "ريان" بقدرٍ ‏من التصالح مع الذات لم تشعر به من قبل، إذ كان هذا الاكتشاف بداية الطريق التي ‏قررت سلوكَها لتحقيق استقرار هويتها الجنسية التي كانت تعاني من التنازع والتجاذب ‏بين جسدٍ يتخذ هيئة الأنثى وأعضاء داخلية تنمّ عن ميول ورغبات ذكورية.‏

وفي تلك الرحلة الشاقة التي خاضتها البطلة على مدار الجزء الأوَّل (حا)، تحدث ‏عملية التحول الأولى، والتي شهدت إزالة الثديين مع الاستمرار في الجرعات الدوائية ‏التي تحفز عمل الهرومونات الذكرية. ولا يقف بجانب "ريان" سوى الأمّ، بشخصيتها ‏المتزنة والعقلانية، و"جوى"، صديقة "ريان" المقربة منها والتي تُطلق عليها لقب ‏‏"حابي" توصيفًا لما هي فيه من اشتباك عضوي ونفسي. ‏

وفي مقابل هذا التفهّم الذي يحتاجه كلّ مَن هنّ/ هم على شاكلة "ريان"، تُشَنّ حربٌ ‏بلا هوادة على الفتاة من أبيها الذي يرى في تحوّل ابنته إلى شاب عارًا تستحقّ عليه ‏القتل، يسانده في هذا الموقف عمّتها وابنة عمّتها والأقارب والصديقات بالإضافة إلى ‏شقيقاتها اللواتي تعلن كلُّ واحدة منهنّ رفضَها لما يحدث بطريقةٍ ما؛ إمّا بتجاهل ‏الموضوع، أو بالمواجهة الحادة والتمسّك بالرأي الذي ينظر إلى التحوُّل بوصفه أمرًا ‏يحرّمه الشّرع ويعاقب عليه الله، وإمّا بقبول المغلوب على أمره.‏

وفي الجزء الثاني من الرواية (بي)، تتم عملية التحوُّل الثانية والتي تفضي إلى تغيير ‏كامل بجنس "ريان" من أنثى إلى ذكر، ما يستتبع إجراء تعديلات في الوثائق الرسمية ‏لإثبات هذه الذكورة التي ظلّت مرفوضة –على الرغم من كل شيء- من المجتمع ومن ‏أقرب الناس إلى "ريان". وهنا لا يجد الذكر "ريان" بدًّا من السفر خارج بلده (الكويت) ‏وبدء الحياة في مكان بعيد، بهويّة وشكل جديدين، لأنَّ "الغرباء" سيكونون أكثر تقبُّلًا ‏لهويته الجديدة.‏

يسجَّل للرفاعي في هذه الرواية جرأة الطرح ومناقشة الموضوع من زواياه الأكثر ‏حساسية بالنسبة لمجتمعات "مذعورة" ترتضي الانغلاق وترفض الاعتراف بأيّ أمر ‏خارج المسلَّم به والمتعارَف عليه. ‏

وإذا كان من الشائع في المدوَّنة السردية أن يضع الروائي مسافةً فاصلة بينه وبين ‏شخصيّاته في حال كان النقاش يدور حول قضايا جريئة ومسكوتًا عنها، لِما قد تثيره ‏من عواصف "متوقَّعة" على المستويين الاجتماعي والديني، فقد اختار الرفاعي تجسير ‏هذه المسافة والاقتراب من الشخصية الرئيسة عبر الرَّوي بضمير "الأنا"، وتقمُّص ‏الحالة الوجدانية والشعورية والفكرية التي تعيشها شخصيَّته "المعذَّبة" وهي تخوض ‏حربها الداخلية والخارجية في سبيل تحوُّلها الجنسي وإعادة ترتيب التفاصيل في ذاتها ‏‏"المشوّهة" دون أن يكون لها يدٌ أو دورٌ في هذا "التشوّه". ‏

أمّا البنية الروائية ككلّ، فهي نسيجٌ قام على جرأة الطرح والانزياح نحو الأنساق التي ‏لا تتوافق مع ميول المجتمع ورغباته وأذواقه التقليدية، بل إنها تنطوي على مواجهة ‏للقارّ في العقل الجمعي باستخدام النقد العقلاني والعلمي الذي من شأنه التغيير ‏الجوهريّ في ثنائيات المسموح والممنوع، والحلال والحرام، وما يتحكم به الإنسان ‏وما هو خارج عن إرادته. إذ اشتغل الرفاعي على ثيمات يمكن وصفها بـ"الصادمة" ‏وغير المألوفة أو المتقبَّلة اجتماعيًا، فاتحًا الباب على مصراعيه للنقاش الذي يفضي ‏إلى إعادة التأمل في الواقع والتفكير الحرّ والجاد في الظواهر التي يفضّل المجتمع ‏إبقاءها في دائرة المسكوت عنه.‏

وبقدر عنايته بالحركة الخارجية لشخصيات روايته، يعتني الرفاعي أيضًا بالأبعاد ‏النفسية، مستبطنًا الذات وما يمور داخلها من هواجس وأفكار، وما يتنازعها من ‏رغبات، ليصور بدقة ما يعتمل الذاتَ الإنسانية التي تعيش محنةً فردية قاسية، ليس ‏فقط على صعيد معاناتها الجسدية من الجراحات والعمليات الطبية، وإنَّما أيضًا المعاناة ‏النفسية تحت وطأة شعورها الدائم بعقدة النقص وعدم تقبُّل الآخرين لها، وبخاصة ‏أقرب الناس إليها.‏

ترصد الرواية واقع المجتمع كونه الحاضنة الأساسية للشخصيات التي تخوض حربها ‏مع جملة من القيم المهيمنة، سواء تلك التي رسّخها المجتمع كأحفوريات غير قابلة ‏للتغيير أو كنصوص دينية لا يمكن الخروج عليها بتفسير أو تأويل، بمعنى أنَّ هذه ‏الأفكار والقيم هي بمثابة سجن لعقل المجتمع ومنعه من التفكير خارج أسوارها ‏المسيَّجة حوله بإحكام. وهذا ما جعل الرفاعي يسلط الضوء على تناقضات المجتمع ‏وأزماته الأخلاقية والقيمية، واحتكامه إلى منظومة من الأطر المحدَّدة التي لا علاقة ‏لها بمنطق أو دين. فمثلًا، في الوقت الذي يثور فيه الأب على ابنته ويتهمها بأبشع ‏الأوصاف لأنها تريد إجراء عملية لتصحيح الجنس، فإنه لا يتوقف عن ممارسة ‏الرذيلة بأوضح صورها، سواء بمعاقرة الخمر أو بالعلاقات النسائية المتعددة خارج ‏إطار الشرعية.‏

وهذا ما يتضح أيضًا في موقف "مريم"، الشقيقة الكبرى لـ"ريان"، والتي تقود حربًا ‏ضروسًا في البداية محاولةً ثني شقيقتها عمّا ستُقدم عليه، مستخدمةً ما أمكنها من ‏وسائل ضاغطة، كالاتكاء على تحريم الشرع لمثل هذه العمليات التي تغيِّر -بحسب ‏رأيها- من طبيعة خلق الله. فـ"مريم" التي تقسّم الأمور ظاهريًا إلى محلَّل ومحرَّم، لا ‏تتوانى عن ممارسة ما هو منافٍ للشريعة السمحة من أخلاق، حيث أنها واشية وتسعى ‏لتخريب العلاقات بين الناس، وهي كذلك تدفع "ريان" -كنوع من التخلّص من "عارٍ" ‏ترى أنَّ العائلة ستوسَم به إلى الأبد- إلى السفر ومغادرة الوطن.‏

شخصية الأم هي الأخرى ظهرت وهي تعاني من التناقضات، وإنْ بدرجة أقل، فهي ‏امرأة مثقفة وواعية، وعلى الرغم من ذلك تعْلم بخيانات زوجها لها ولا تتّخذ في سبيل ‏الانتصار لكرامتها خطوة واحدة. هذه المرأة التي تقف بجانب ابنتها خلال رحلة ‏تحوّلها إلى ذكر، تُبدي في ما بعد أسبابًا أخرى عدا حسّها الأمومي لوقوفها مع "ريان" ‏في تلك المحنة. ومن ذلك أنها -وهي التي لم تنجب ولدًا- ظلت تحلم خلال حملها ‏بـ"ريان" بأنَّ المولود القادم سيكون ذكرًا. ولعلّ هذا ما يفسر تمردها على خيانات ‏زوجها لها بعد التحول الذي عاشته ابنتها، حيث شعور الأم بأنه أصبح لها ولد يمكن ‏أن تعيش معه وتتجنب أقاويل الناس عنها في حال انفصلت عن زوجها وعاشت في ‏بيتٍ وحدها. ‏

وقد جاءت معظم شخصيات الرواية مركّبة على هذا النحو، وهو ما منح الحبكة ‏الروائية قوة ومتانة وإقناعًا.‏

ويمكن القول إنَّ الانشطار إلى نصفين كان هو التقنية الأبرز التي اشتغل عليها ‏الروائي، وهو انشطار لا يهدف إلى التفجير والتحطيم، بل إلى تفكيك الأشياء لمنح ‏المتلقي قدرة أكبر على الرؤية ومن وجهات نظر متعددة وزوايا متنوعة، وهذه ‏الثنائيات الانشطارية تجلّت في الموضوع أولًا وهو الأنوثة/ الذكورة، ثم في التقنية ‏نفسها حيث الراوية "حا" ثم الراوي "بي"، وكذلك من خلال الشرق والغرب، ‏والتقسيمات الداخلية، والزمن النفسي للشخصيات، إذ يمكن ملاحظة أنّ جميع ‏الشخصيات كانت لها ردود أفعال تتعلق بأسباب خارجية معلَنَة ترفض ما سيُقْدم عليه ‏البطل من عملية تحول، ودوافع باطنية خفيّة ترتبط بأسباب مخالفة تمامًا للأسباب ‏الظاهرية؛ بمعنى أنها شخصيات ترتدي القناع دائمًا. ‏

أمّا البطل/ة "ريان"، فمنذ البداية اعتنى الكاتب برسمها شخصية متأملة ومرهفة ‏الحس، تحب الموسيقى والرسم وأشكال من الفنون، وهي لرهافة هذا الحس تتعاطى ‏مع مسألة التحول بحساسية شديدة لكن هذا لا يعني ضعفًا، بل هو قوة، قوة التمرد ‏على الواقع والانتصار لصالح ما تؤمن به وتشعر به عميقًا في داخلها. وهو الانتصار ‏الذي يتكلل في نهاية الرواية بوصولها إلى التصالح مع النفس والانفتاح على الحياة ‏بكل ما فيها من أمل.‏