قراءة في رواية "نهر الزَّمن"‏ الإنسان مجرَّدًا من كل حول وقوّة

 

سامر حيدر المجالي

كاتب أردني

 

يروي بطل هذه الرواية سيرة حياته من خلال سِيَر الآخرين؛ فلا يفرد مساحات مطوَّلة للحديث ‏عن نفسه، وإنَّما يلقي الضوء في كل فصل من الفصول على إحدى الشخصيات، ويقدّم وصفًا ‏دقيقًا لها: لتاريخها، وحاضرها، وسماتها النفسيّة، وأفعالها التي أدَّت بها إلى مصيرها. خلال ذلك ‏يغدو بطل الرواية أوضح أمام القارئ، وتتحقق الثيمة؛ إذ إنه يتشكَّل وسط حيوات الآخرين، فيبدو ‏محمولًا -معهم وبهم- على كفِّ قدر لا يترك مجالًا للاختيار. وكل هذا يأتي في سياق يؤكد الفكرة ‏الرئيسة للعمل؛ وهي أنَّ الشخصيات تعيش في نهر الزمن الذي يحرّكها ضمن ثالوث من  ‏الجبريّة والسلطويّة والنهايات المأساويّة.‏

 

تشكّل الرؤية القَدَريَّة عند الروائي الصيني "يو هوا" جوهر روايته "نهر الزمن"، وتترك أثرها ‏على بنائها الفنّي. والعمل، بالمجمل، سرديَّة متقنة ترجمها إلى العربية يحيى مختار في 382 ‏صفحة، وصدرت منها عن منشورات المتوسط طبعتان في العامين 2018 و2019.‏

‏"يو هوا" المولود عام 1960، أحد أبرز الروائيين الصينيين في الوقت الحاضر، بل لعلّه أكثرهم ‏انتشارًا خارج بلده بحسب مقدمة المترجم للرواية. وهو من الجيل الحداثي الذي يتميز بواقعيته. ‏بيد أنَّ الفقرات القادمة ستكشف لنا أنَّ واقعيّته، على الأقل في هذا العمل، سوداوية، وتضع ‏الإنسان في موقع المنفعل الذي لا يملك تغيير شيء أمام قَدَر مرسوم له سلفًا.‏

الزمن -كعادته- يختبئ خلف ستار شفّاف فتتحرك على مسرحه الأحداث، وتشتعل الصراعات، ‏وتكتمل المصائر. لكنه لا يكتفي بذلك في الرواية، إذ إنه يلوّن وجهه بثلاثة عناصر هي أذرعه ‏الفاعلة والمحطات التي لا بد أن تمر بها الشخصيات، فيخضع الجميع له، ويتحركون ضمن ‏ثالوث يتشكل من: جبرية تسيّر الأحداث، وسلطات تروّض الصراعات، ونهايات مأساوية تحكم ‏المصائر.‏

والمقصود في عنوان الرواية، وفي الفقرة السابقة، هو مجمل الزمن، أي ذاك العنصر ‏الأنطولوجي الفاعل الذي لا يكفُّ عن الحركة. أمّا تجلّيه السردي الفيزيقي، في ستينات القرن ‏العشرين، فحالة تساعد على تحقيق إسقاطات سياسية أو اجتماعية، لكنَّ هذا ليس هدفها الأساسي، ‏فهي -كما هو الأمر في كل عمل سردي يضطلع القارئ فيه بمهمة بناء النص بناءً يتجاوز ‏مؤلفه- وَتَدٌ يشدُّ القارئ إلى سياقات الحدث، ليكوّن رؤاه الخاصة، النقدية أو الوجدانية، دون ‏شطط أو تعسُّف.‏

يسترجع بطل الرواية، الشاب "سون غوانغ لين"، أحداث طفولته التي مرَّ خلالها بثلاث مراحل: ‏الأولى مرحلة الطفولة المبكرة حتى عمر ست سنوات في قريته وبين أهله الأصليين في قرية ‏‏"الباب الجنوبي"، والثانية تبنّيه من قِبل زوجين يعيشان في مدينة اسمها "سون تانغ"، والثالثة ‏عودته إلى أهله بعد خمس سنوات من التبنّي..‏

وأسماء الأمكنة محايدة؛ أي أنها لا تشير إلى جغرافيا بعينها، بل هي إشارات إلى قرية ومدينة ‏صينيتين فحسب، والزمن السردي لم يؤثث بإرهاصاته الواقعية التي كانت أهم معالمها الثورة ‏الثقافية التي أطلقها "ماو تسي تونغ" في منتصف الستينات فشكَّلت قطيعة مع الماضي، وكادت ‏تقود البلاد إلى حرب أهلية؛ هذان العاملان (المكان المحايد والزمن غير المؤثث) يفتحان الرواية ‏على مجالات أوسع للتأويل، فتمتلك بعدًا إنسانيًّا عابرًا للمواقيت، على الرغم من سياقاتها الثقافية ‏الواضحة.‏

ولعلَّ لهذا دورًا كذلك في تأكيد الفكرة الرئيسة للعمل؛ أي الجبرية والسلطوية والنهايات ‏المأساوية..‏

 

الجبريّة

اللافت في أسلوب الرواية أنَّ بطلها يروي سيرة حياته من خلال سِيَر الآخرين؛ فلا يفرد ‏مساحات مطوَّلة للحديث عن نفسه، وإنَّما يلقي الضوء في كل فصل من الفصول على إحدى ‏الشخصيات، ويقدّم وصفًا دقيقًا لها: لتاريخها، وحاضرها، وسماتها النفسية، وأفعالها التي أدَّت ‏بها إلى مصيرها. خلال ذلك يغدو بطل الرواية أوضح أمام القارئ، وتتحقق الثيمة؛ إذ إنه يتشكَّل ‏وسط حيوات الآخرين، فيبدو محمولًا -معهم وبهم- على كفِّ قدر لا يترك مجالًا للاختيار.‏

لذا، كانت الفصول قطعًا متجاورات تسير عبرها كل شخصية إلى مصيرها ثم تفسح المجال ‏لغيرها كي تدخل في دوّامة السرد التي تبتلع الجميع. وقد حرص "يو هوا" على خلخلة الزمن ‏السردي خلخلة هيّنة، فلم يُجره على نسق خطي تعاقبي، بل قفز بين المراحل محافظًا على ‏اتصال الحلقات بعضها ببعض. فبعد أن مهَّد بفصل أول أشار فيه إلى مفاصل الأحداث ‏والشخصيات الرئيسة، بدأ الحكاية من المرحلة الثالثة التي أعقبت عودة بطل الرواية من التبنّي. ‏وفيها ألقى الضوء على أبيه وأمه وأخويه. فظهر أولًا أبوه العابث محدود المواهب ضيق الأفق، ‏وصاحب النزوات الدنيئة، الذي تنتهي به الحال غريقًا في حفرة صرف صحي، وتلك نهاية ‏متوقعة لعربدته ودناءته، لكنها أيضًا مفارقة تطرح كثيرًا من الأسئلة عن قيمة وجود الإنسان في ‏هذا العالم.‏

والمرحلة التي انتهت بأبيه في حفرة صرف صحي، بدأت بأخيه الأصغر غريقًا حين أراد إنقاذ ‏زميل له من الموت. وبين الحدثين (غرق الأخ وموت الأب، أو الشهامة والدناءة) يمتد زمن ‏طويل يكون فيه بطل الرواية -العائد من التبني- غريبًا بين أهله، منزويًا عنهم، يراقبهم عن بعد ‏دون أن ينشغل بحقيقة ما يجري لهم. إنه محايد، وربما مستسلم لكل ما يجري أمامه: يعبث أبوه ‏في أحضان عاهرة، ويُسجَن أخوه الأكبر بعد ضربه أباه الذي انتهك حرمة زوجته (زوجة الأخ)، ‏ويرى موت أمه فلا يبدو عليه تأثر على الرغم من أنَّ الأم البائسة عانت طيش زوجها، وفقدان ‏ولدها، وتنمُّر جارتها (العاهرة) عليها، وفوق ذلك مرضًا عضالًا قضى عليها في نهاية أمرها.‏

ولعلَّ انفصال البطل هذا، وحياده أمام الخير والشر، هو الذي مكنه من الوقوف موقفًا وجوديًّا من ‏تقلبات حياته، فوصف نفسه وسطها قائلًا: "دائمًا ما كانت تظهر أمامي خيالات مشوشة، ‏وكأني أرى الوقت يتحرك، يظهر أمامي على هيئة رمادية شفافة، تغلّف كل شيء في داخلها، ‏فنحن لا نعيش على هذه الأرض، نحن حقيقة نعيش داخل نهر الزمن. الحقول، الشوارع، ‏الأنهار، البيوت، كلها تشاركنا الانخراط داخل الزمن. الوقت يدفعنا سواء للأمام أو للخلف، ‏ويغيِّر من هيئاتنا".‏

إذن، يفعل الزمن ما يريد، وما نحن إلا قطرات في تياره. والموت حقيقة عادية من حقائقه، ‏نمارسها نحن البشر على الكائنات الأخرى، فنكون أداته لابتلاع حيواتها: نقتلها، نحرقها، نأكلها، ‏نبيدها، نبذرها، نقلعها.. كله سواء، فنحن نفعل تمامًا ما فعله النهر الذي ابتلع حياة أخيه. جميعنا، ‏أحياء وجمادات، آكلٌ ومأكولٌ في الآن نفسه، ومنصاعون لجبريّة قاهرة لا ينجو من سطوتها ‏مخلوق.‏

والأمر لا يتعلق بالموت فقط، بل إنَّ الحضور إلى هذا العالم جبري حدّ العبث، وهو في حقيقته ‏صدفة لا تنتمي إلى أيّ نوع من أنواع المنطق. لقد زُرعت نطفة بطل الرواية في رحم أمه في ‏لحظة عبثيّة قرَّر والده فيها أن يضاجع الأم في حظيرة، بينما الدجاجات تنقر رجليه أثناء الجماع. ‏في ذلك المشهد الكوميدي تخلَّق "سون غوانغ لين"، وكانت حياةٌ رسمها أب هائج، في لحظة ‏جنون، داخل رحم امرأة مستسلمة لطيشه ومجونه.‏

السخرية أو الكوميديا في المشهد السابق، جسر نعبر من خلاله بين ضفتي الرواية؛ أي نصل بين ‏ما هو أدب وما هو معرفة أخرى ليست من جنس الأدب، بين المنطوق والمعنى عند المؤلف، ‏والمقروء والمتخيَّل عند القارئ. وتلك طبيعة الفن، فكل عمل أدبي هو هزَّة إبداعية ينتج عنها ‏هزات ارتدادية بعدد قرّائه، وبقوة خيالهم وعمق ثقافتهم. هزّات الطبيعة تسكن بعد حين، لكن ‏هزات الإبداع لا تسكن ما دام ثمة قارئ يضفي على النص مزيدًا من المعاني. في هذا العمل ‏تطرح الأسئلة الوجودية نفسها على لسان الأدب، متخذة من اللغة والتصوير والمفارقة وسيلة ‏تورِّط القارئ في هذا النوع الشائك من الأسئلة.‏

 

النهايات المأساويّة

هكذا مُهِّد للنهايات المأساوية التي ستلازم الشخصيات؛ إذ ينتحر أبو بطل الرواية بالتبني بعد أن ‏تُكتشف علاقة آثمة أقامها مع امرأة خارج إطار الزوجية، وتتخلى عنه أمُّه بالتبني، المريضة ‏أيضًا مرضًا صعبًا، تاركة إياه للعودة إلى مصيره في "الباب الجنوبي". أمّا "فنغ يوي تشينغ"؛ ‏الفتاة القروية البسيطة، فتدفع ثمن سذاجتها وينتهي بها المطاف بغيًا في المدينة، ثم تمتد المأساة ‏إلى ابنها الوحيد الذي يغدو مشرّدًا في طفولته بعد دخول أمه السجن إثر القبض عليها من قِبل ‏الشرطة أثناء ممارستها البغاء.‏

بالمقابل ترتسم مصائر أصدقائه على المنوال نفسه؛ صديقه "كوه تشينغ" يعيش محرومًا من أبيه ‏الذي تخلّى عنه وتزوّج امرأة أخرى، فينتهي في السجن أيضًا بعد أن قرَّر في مراهقته أن يتزوج ‏بنتًا يحبها، فلمّا رفضه أهلها اختطفها بمنتهى السذاجة قبل أن يُلقى القبض عليه في لحظة ‏الاختطاف نفسها. ويموت صديقه الأقرب إلى نفسه "سو يوي" بسبب انفجار مفاجئ في أوعية ‏الدم في دماغه. يرحل الصديق هادئًا هدوءَ الموت، وعاديّةَ الفعل الذي اقترفه النهر بحق أخيه، ‏وروتينيّةَ القسوة التي يمارسها الإنسان على الطبيعة. قصة موت عادية تُضاف إلى تلك العاديّات ‏التي يتشكل منها نهر الزمن، فتُطفِئ نور عيني الصديق فحسب، دون أن يملك القدرة على ‏الإفصاح عمّا يحدث له في لحظة الاحتضار.‏

والسؤال الذي يبرز هنا: ما الجامع بين جبريّة الحدث ومآلاته المأساوية؟ ليس ثمة إجابة ‏واضحة.. الأمور تجري هكذا فحسب، وعلى الإنسان أن يتعايش معها ما استطاع. لعل في هذا ‏حكمة: "إذا كنت لا تستطيع تغيير الواقع، فحاول أن تتأقلم معه". تلك بعض سمات الشخصية ‏الصينية، ذلك أنَّ أولئك الذين وصفهم "أرنولد توينبي" بأنهم واقعيون حتى في معتقداتهم الدينية، ‏متخذًا من تعاليم كونفوشيوس التي هادنت ما كان قائمًا قبلها سندًا له في دعواه تلك، الصينيون ‏هؤلاء جديرون بأن يظهر في أدبهم هذا اللون من الأفكار.‏

وتمتد الدراما إلى الأزمنة كلها، وتظهر في القصص التي يسترجعها بطل الرواية عن تاريخ جده ‏الذي مات أمام عينيه مستسلمًا لسطوة الموت التي يخضع أمامها كل مخلوق، ويسترجع إذ يرى ‏جده في احتضاره، المشهدَ نفسه الذي رآه حين كانت البقرة التي في المذبح تنتظر الموت:‏

‏"روح جدي على وشك أن تغادر جسده كطائر صغير محبوس بداخله سيخرج من فمه ‏المفتوح، بالنسبة إليّ، هذا أمر مثير للدهشة والخوف أيضًا في الوقت نفسه. في عصر ذلك ‏اليوم شاهدت على وجهه الملامح نفسها التي ظهرت على وجه البقرة قبل موتها"..‏

إنها صلة سريّة تصل المخلوقات بلحظة التجلّي الأكبر للقهر؛ أي لحظة الموت، فتقف أمامها ‏مستسلمة:‏

‏"في البداية كنتُ أعتقد خطأ أنا وأخي الأصغر أنَّ البقرة لا تعرف ما الذي ينتظرها. إلا أنني ‏رأيت دموعها، فبعدما قُيدت أطرافها شاهدت دموعها تسقط على الأرض الخرسانية كقطرات ‏مطر ثقيلة، فعندما تواجه الحياة الموتَ تستعرض حنينها اللانهائي تجاه الماضي. لم تكن ‏ملامح البقرة مكسوّة بالحزن فقط، بل يمكنني القول إنني شاهدت ملامحها مكسوّة بنوع من ‏اليأس أيضًا".‏

ويضيف: "كان استسلامها وخنوعها للموت دون أي مقاومة قد جعلاني كمن يرى صورة ‏مكسورة، تجعل مَن يراها قلقًا مضطربًا".‏

الموت منتهى الجبر، بل إنَّ جبريّته تبلغ به حد الاستهتار. لقد بدا هذا واضحًا في موت جده، ‏وإلى حد ما في موت والدته، لقد لاعبهما الموت، واقترب وابتعد، حتى أخذهما في اللحظة التي ‏شاء فيها أن ينهي استهتاره.‏

وإذا كان جده قد مات على فراشه، فإنَّ هذا لم ينفِ عنه أن يواجه المأساة في زمن قديم، فكادت ‏تذهب بعقله. لقد اضطر لأن يرهن جثة أبيه الميت كي يعالج أمَّه، ثم لمّا هرب بأمه العجوز من ‏بطش جماعة كانت تلاحقه، نهشت إحدى الضواري جسد الأم وهي ما تزال حية، تاركة الجد في ‏حالة أشبه بالجنون.‏

 

السُّلطة

وبدءًا من عند جدّه يتكثَّف تأثير السلطة، بوصفها رأس حربة الجبر الذي يمارَس على الإنسان ‏من خارج عالمه ومن داخله، فثمة سلطات متعالية تسكن في عمق الميتافيزيقيا، وأخرى مدنَّسة ‏يمارسها الإنسان على الإنسان. نزاع الجد يستدعي حضور السلطة: إنَّ الروح كيان مادي يمكن ‏الإحساس به حين مفارقته الجسد، وحين يستعصي خروجها يمكن استخدام الفزّاعات لإخافتها ‏وإجبارها على الرحيل. والناس يهرعون إلى "بوذا" حين يشعرون بالخوف؛ فالخلاص من ‏السلطة يكون باستدعاء سلطة مقابلة.‏

عند ذاك تُبرز الرواية مكنوناتها؛ تتعدَّد أشكال السلطة التي ينتجها الواقع: الحماة على زوجة ابنها ‏‏(جدة البطل) التي تشرّدت وخسرت زوجها الأول حين تعسّفت حماتها في إصدار الأحكام عليها، ‏الأب على أبنائه، الزوجة على الشاعر البائس إذ تحيله من طاقة متوهجة إلى شخص خانع ‏تمارس عليه ساديّتها المطلقة، الصديق على صديقه كي يلفت نظر الفتيات، الابن على أبيه الذي ‏شاخ، والأوضح من ذلك، بل ما يحتمل إسقاطًا سياسيًّا مباشرًا؛ سلطة المدرِّسين على التلاميذ، إذ ‏يمارسون بحقهم أقسى أنواع العقوبات الجسدية والنفسية، فيزرعون فيهم الخنوع والجبن والأنانية ‏والوشاية. تلك نواتج الاستبداد الغاشم الذي يدمّر الإنسان، حاكمًا ومحكومًا، ويستخرج أسوأ ما ‏فيه. ‏

‏"لم تكن سلطة معلمنا قائمة على الحكم الصائب، بل كانت قائمة على سياسة التخويف ‏والعقاب القاسي. كان حكمه هوائيًّا محضًا، ولذلك فقد كان عقابه يأتي دائمًا بشكل مفاجئ لا ‏يمكن التنبؤ به، لم يكن يكرر أنواع العقوبات التي يطبقها علينا".‏

ويحطم الاستبداد كل علاقة إنسانية جميلة مثلما حطَّمت سلطة المعلمين علاقة بطل الرواية "سون ‏غوانغ لين" بأعز صديقين من أصدقائه، إذ يُكرَه المرء على التضحية بأنبل مشاعره كي يحمي ‏نفسه من البطش الذي يترصَّد به: "لقد تسبَّبَ تسلّط الكبار في إنهاء علاقة الصداقة البريئة ‏بين أطفال مثلنا. لم أتحدَّث معهما لفترة طويلة بعدها. ظلت الحال هكذا حتى عدت إلى قرية ‏الباب الجنوبي".‏

الرواية بالمجمل عمل جميل ومشوّق، ولعلَّ صبغته الإنسانية البارزة عولمت ملامحه المحليّة ‏وجعلته عابرًا للثقافات. أمّا رؤياه المغلَّفة بالجمال والتشويق فتقدّم فلسفة تُخضع الإنسان لقوى ‏تتجاوز قدرته على النجاة من بطشها، ثم لا تطرح حلًّا ولا تفتح أفقًا، بل تكتفي بالإشارة إلى فم ‏الغول الذي يترصَّد العابرين جميعهم عند نهاية الطريق.‏