الخطاب الإشهاري

مها بنسعيد

باحثة مغربية/ مختصة في النقد والتوثيق والأدب المغربي- الإسباني

 

تتوجَّه هذه الدراسة إلى الكشف عن خصائص‎ ‎الخطاب الإشهاري، باعتباره عملية خطابية ‏متميزة تجمع بین النظامين اللساني والأیقوني. فهو يسعى إلى التأثير في المتلقي (المستهلِك) ‏وإقناعه باقتناء المنتوج، باستخدام وسائل إقناع كالوسائل الإعلامیة (الدعاية)، بهدف الترویج ‏للمبيعات عبر وسيط سمعي بصري، بأسلوب مباشر وصريح من منتجٍ إلى مستهلك. ومن ثم ‏يصبح هدف الإشهار استمالة وإغراء المستهلك لشراء السلعة. فهو يندرج ضمن الممارسة ‏الثقافية اليومية لما له من طابع فني واقتصادي واجتماعي وتجاري وثقافي، بما يحمله من ‏معاني الإفصاح التي تؤثر في المتلقي. وهو من بين الخطابات المتداولة في حياتنا اليومية، لِما ‏يكتسيه من طابع ثقافي ودلالي. ‏

 

مفهوم الخطاب

نستهلُّ الدراسة بتحديد مفهوم الخطاب، فقد عرّفه ابن منظور في مادة (خطب) في "لسان ‏العرب" على النحو التالي: الخَطب: "الأمر الذي تقع فيه المخاطبة والشأن والحال..."، ‏والخطابة والمخاطبة: مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابًا، وهما ‏يتخاطبان(...)، الخطبة اسم‎ ‎للكلام الذي يتكلم به الخطيب(...)، الكلام المنثور المسجع ‏ونحوه(...)، والخطبة مثل الرسالة التي لها أول وآخر(...)، والمخاطبة مفاعلة من الخطاب ‏والمشاورة(1).‏

فالخطاب بالنسبة لابن منظور كلام له بداية ونهاية، يتم بين المتخاطبين في تفاعل فيما بينهم، ‏ويُعدُّ "هاريس" أوَّل مَن اهتمّ بالخطاب في إطار الأنموذج الصوري، وأوَّل مَن استخدم مفهوم ‏الخطاب في مقال علمي، حيث عدَّه توليفًا من الجمل، فهو في تصوُّره "متوالية خطيّة تضم ‏أكثر من جملة أوليّة"(2).‏

ومن تعريفات الخطاب أيضًا، ما نجده عند سعيد يقطين: "الطريقة التي تقدَّم بها المادة الحكائية ‏في الرواية وقد تكون المادة الحكائية واحدة، لكن ما يتغير هو الخطاب في محاولته كتابتها ‏ونظمها"(3)، وقد لحق الخطاب بعلم اللسانيات على اعتبار أنه يتكوَّن من وحدة لغوية أساسها ‏سلسلة من الجمل تعبِّر عن أيّ رسالة، ويعتبر في هذه الحالة مجموع قواعد متسلسلة، وتتابع ‏الجمل المكونة للمقول. كما يعرَّف الخطاب، بأنه الوسيط اللساني المستخدم لنقل مجموعة من ‏الأحداث الواقعية والتخيلية، التي سمّاها "جينيت" (الحكاية)، وهو كما عرّفه جابر عصفور: ‏‏"في كل اتجاهات فهمه، هو اللغة في حالة فعل، ومن حيث هي ممارسة تقتضي فاعلًا، ‏وتؤدّي من الوظائف ما يقترن بتأكيد أدوار اجتماعية معرفية بعينها"(4).‏

مفهوم الإشهار

وبانتقالنا للإشهار؛ نجد أنه لا يوجد تعريف موحَّد له لكثرة التعريفات، بسبب انفتاحه على ‏العديد من وسائل الإعلام المرئيّة، والسمعيّة، والمكتوبة.‏

ورد في لسان العرب: مادة (شهر) بمعنى "الشهرة"، ظهور الشيء في شنعة حتى يشهره ‏الناس، وكذلك ظهور الشيء، وشهور العلماء، والواحد شهر، ویقال لفلان فضیلة أشهرها ‏الناس، والإشهار من أشهر الشيء: بمعنى أعلنه وأفصح عنه وصار معلومة لدى عامة ‏الناس(5).‏

لم يكن الإشهار حديث العهد، بل هو نشاط قديم قدم التاريخ، "يعود إلى عصور قبل الميلاد‎ ‎بحوالي 3000 سنة، عندما كان يعتمد على النداء فقط، والدليل على ذلك ما روته بعض ‏الكتب‎ ‎عن وجود إعلان يعود لذلك التاريخ مقتضاه البحث عن عبد هارب"(6). اكتسى ‏الإشهار فيما بعد طابعًا تجاريًا، بتحوُّله إلى لافتات توضع على المحلات، والمتاجر، تتضمّن ‏صور السِّلع، كصور البراميل الضخمة التي كانت توضع على أبواب الحانات الإيطالية، ‏والصيغ التحريرية التي كانت ترافقها وتمدح أصل الخمور المباعة. وقد اعتبرت‎ ‎هذه الطريقة ‏البدائية في ترويج السلع، مؤشر نشأة الإشهار(7).‏

‎ ‎تطوَّر الإشهار عبر مراحل متعددة يمكن تلخيصها فيما يلي:‏

أولًا- مرحلة العصور العابرة والقرون الوسطى: وُجد الإشهار فيها على شكل رموز وصور ‏بدائية‎.‎‏ وتتميز هذه المرحلة ببساطة الرسالة الإشهارية ومحدودية انتشارها وكثرة استخدامها ‏للإشهارات الشفويّة‎.‎‏ ‏

ثانيًا- مرحلة ظهور الطباعة: في القرن الرابع عشر الميلادي اخترعت آلة الطباعة التي ‏تعتبر من معالم الحضارة، وفي سنة 1940 بدأ استخدام الحروف المتحركة في الطباعة، ثم ‏ظهرت الصحيفة والآلات، وتزايد عدد الراغبين في الإشهار، حيث وجدوا في هذه الوسيلة ‏فرصة لزيادة المبيعات(8).‏

أنواع الرسائل الإشهارية ‏

‏ تطرَّق أغلب العلماء واللغویین إلى تحدید أنواع الإشهار والمتمثلة في:‏

‏1.‏ الإشهار المسموع: ‏

أقدم وسیلة استعملها الإنسان في الإشهار، وذلك عبر الإذاعات والمحاضرات والندوات ‏والخطب... إذ یلعب الصوت دورًا بالغ الأهمیة في التأثیر على المتلقي، بما یحمل من ‏خصوصیات التنغیم والنبر والجهر والهمس، كما تصحب الكلمة المسموعة أحیانًا، الموسیقى ‏فتزیدها طاقة كبرى على الإیحاء والوهم والتخیُّل.‏

‏2.‏ الإشهار المكتوب: ‏

تعتبر التلفزة الوسیلة الأساسیة لهذا النوع من الإشهار، فهي عبارة عن میكروفیلم یتعاون على ‏إنجازه وإنتاجه فریق عمل متخصص في الإخراج والدیكور والأثاث والتجمیل والتسجیل ‏وضبط الصورة والتمثیل... كما یستعمل أیضًا وسائل أخرى تتمثل في الصحف والمجلات ‏والكتب والمنشورات والملصقات على جدارن المدن.‏

‏3.‏ الإشهار السمعي البصري: ‏

‏ تُعدُّ الرسائل السمعیة البصریة ملجأً للإشهار وترویج المنتجات عبرها، مثل: التلفاز والهاتف ‏المحمول والكمبیوتر... فهي ولیدة عصر التكنولوجیا، وتستعمل كوسائط لتحقیق غایة ‏التواصل مع الجمهور(9).‏

تشير الدراسات الإعلامية إلى إمكانية التمييز بين أنواع عدة للفعل الإشهاري، في ضوء تعدُّد ‏أغراضه وموضوعاته، من ذلك:‏

ـ الإشهار الإرشادي: يهدف هذا النوع إلى تزويد الجمهور بمعلومات تفصيليّة عن مكان اقتناء ‏السلعة، وكيفية استخدامها، والانتفاع بمزاياها، وربما اتَّجه هذا النوع وجهة تعليمية تقوم على ‏تلقين الفائدة العملية للسلعة.‏

ـ الإشهار الإعلامي: إنَّ الهدف الحقيقي لهذا النوع يتمثل في إقامة علاقة ثقة بين المنتج ‏والمستهلك، من خلال تصحيح خطأ شائع عن سلعة معيّنة يتم تداولها في السوق.‏

ـ إشهار الأعمال: يخص فئة معيَّنة من الجمهور، هم الوسطاء التجاريون، وأرباب العمل ‏المنتفعون بالسلعة بشكل رئيس.‏

ـ الإشهار البريدي: يعتمد مروِّجو السلع في كثير من الأحيان الرسالة البريدية لإيصال ‏معلومات مهمة ومثيرة عن سلعهم إلى الزبائن، فيكون هؤلاء على تماس مباشر مع الهدف ‏موضوع الإشهار، من مثل ما تقوم به كثير من محلات البيع، والمطاعم الفخمة، وبنوك ‏التعمير والسلف.‏

ـ إشهار التجزئة: يسعى هذا النوع إلى استمالة الزبون لكي يقتني العلامة من نقطة بيع معيَّنة، ‏على الرغم من وجودها في نقاط أخرى قد تخضع للرقابة والمسؤولية الإدارية نفسها، ولكن ‏التنافس بين الفروع التجارية يستدعي الإفادة من هذا الأسلوب في إغواء المشتري، مثل: ‏‏(دجاجة المزرعة في سوق بندا)، ممّا يعني لدى الزبون: اشترِ العلامة من عندنا، بعلامة ‏خاصة من الموزِّع.‏

ـ الإشهار الدفاعي: يظهر هذا النوع حين يتوالى إشهاران على الوسط الإعلامي نفسه وفي ‏فترة زمنية متقاربة جدًا، يعمل فيها الإشهار الثاني على تحجيم الأثر الإشهاري للسلعة الأولى، ‏وليس هدف هذا النوع زيادة المبيعات بقدر حماية وجودها وتداولها في السوق.‏

ـ الإشهار الدولي: غايته الترويج للسلعة والعلامات خارج الموطن الأصلي لها، ويتخذ هذا ‏الضرب وسائط عديدة أكثر انسجامًا مع طبيعة الجمهور الثقافية والنفسية والدينية ‏والأيديولوجية، والقائمون على تصميم نصوص الإشهار الدولي يتوافرون على معرفة ‏موسوعية تتعلق بأفق انتظار مخالف تمامًا لأفق انتظار أبناء موطن العلامة.‏

ـ الإشهار السياحي: هدف الإشهار السياحي توجيه السائح إلى سلوك سياحي معيَّن مؤطر ‏ثقافيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا بمنطلقات حضاريّة عامة لصاحب السياحة، أو الساهر على تنظيمها ‏من خلال الخدمات الانتفاعية المبرمجة في رحلة معيّنة(10).‏

إنَّ الفاحص لهذا النوع من الخطابات يعاين هيمنة نسبيّة للصورة ثابتة كانت أو متحركة، ‏ولعلَّ ذلك راجع إلى:‏

ـ الوظيفة الجماليّة للصورة.‏

ـ الوظيفة التوجيهية للدلالة، إذ تحيل الصورة على قراءة الخطاب الإشهاري وتأويله وفق ما ‏يبدي من أفكار وحجج.‏

ـ الوظيفة الإيحائية للصورة،وتعويلها على التخييل.‏

ـ الوظيفة الدلالية، فالدلالة -هنا- محصلة تأثير الصورة في المُشاهد.‏

ـ الوظيفة التشخيصية، بفضل الصورة وتجسيدها للفكرة تتحول الموجودات الذهنية إلى ‏موجودات عينيّة ملامسة للوجود الإنساني، فيكون أكثر قربًا منها واحتكاكًا، فتتولَّد لديه الرغبة ‏في امتلاكها والانتفاع بها(11).‏

مكوّنات الخطاب الإشهاري

یُعدُّ الخطاب الإشهاري من الخطابات التي تندرج ضمن الممارسة الثقافیة، كالخطاب الأدبي ‏أو السيمیائي أو البصري، ویتكوَّن من مكوّنین؛ مكوّن لساني ومكوّن أیقوني.‏

المكوِّن اللّساني: یتجلّى المكون اللّساني في البنیة اللغویة للخطاب الإشهاري، الذي یتكون من ‏المستویات اللغویة "المستوى الصرفي والنحوي والتركیبي والدلالي. فالمكون اللساني في ‏الأساس یمثل اللغة التي تمنح المنتوج هویته البصریة واللفظیة، وفیما یخص أهمیة المكون ‏اللساني، فتتمثل في بلاغة الصورة، لأنّها ذات تأثیر كبیر في نفس المتلقي، فهي تستوقفه لتثیر ‏فیه الرغبة والاستجابة.‏

المكوِّن الأیقوني: یتمثل في العناصر البصریة، التي تدخل في تكوین الخطاب الإشهاري، ‏وتكون في الصورة والشكل واللون وطریقة الأداء والحركة المشهدیة. فالمكون الأیقوني عبارة ‏عن مجموعة من التقنیات، یعمل المشهر على استخدامها لجذب انتباه المشاهد المفترض ‏لمضمون الرسالة الإشهاریة، فعلى مصمِّم الإشهار أنّ یعتمد بالدرجة الأولى على هذه ‏العناصر (الصورة واللون والأشكال...) لأنّها تعتبر استقطابًا للفت انتباه المُشاهد. ‏

‏ إنّ أبرز ما یمكن تسجیله حول الخطاب الإشهاري، هو تمثیله لتجربة إعلامیة ذات حضور ‏واضح في الساحة الإشهاریة، یتجلى ذلك في الآلیات الكفیلة قصد إنجاح مشروع إشهاري، ‏یستوجب في الأساس استحضار جمیع المكونات الخطابیة(12).‏

عناصر الخطاب الإشهاري ووظائفه

هذه العناصر هي قِوام الخطاب الإشهاري، ولا بدّ لها من أداء دورها بشكل فعال، حيث تكون ‏مترابطة بعضها ببعض، على اعتبار الخطاب الإشهاري نسيجًا لغويًّا، وغير لغوي تتشابك فيه ‏مجموعة الوسائل، والعلامات وفق عوامل تركيبية، وأخرى دلالية وتتمثل هذه العناصر في:‏

أ- المرسِل: هو الذي يُرسل الرسالة سواء أكانت سمعية أو بصرية أو غيرها، ويمكن أن ‏يكون ذاتًا أو آلة أو عنصرًا طبيعيًا، كما أنه يُحدِث الخطاب، ويقوم بشحنِه بحسب ما تقتضيه ‏المادة الإشهارية اللازمة، وذلك بالنظر إلى الموضوع، ليقوم بعدها بإرساله نحو المتلقي الذي ‏يتحدّد بناء على نوعية المنتوج. وهكذا يعمل المرسِل الإشهاري داخل الخطاب الإشهاري، ‏وهو بذلك يُضمِّن إشهاره "التعبيرية" بحسب ما يُثير ذوق المُرسَل إليه أو المتلقي، مشجعًا ‏رغبته نحو المنتوج، لذلك نجده يكيّف صيغته "الخطاب الإشهاري" حسب الأموال والمقامات ‏التي يقتضيها. فالمرسِل إذن هو محور العملية التواصلية(13).‏

ب- المُرسَل إليه: "المتلقي": هو الذي يتلقى الرسالة، وهو ثاني عنصر مهمّ في العملية ‏الإشهارية، كما أنه المقصود بالإشهار، والعملية الإشهارية لا تتم إلا من خلاله، فهو محقق ‏الوظيفة الإفهامية أو الطلبية، إذ يعمل المرسِل على إفهام المرسَل إليه بجدوى المنتوج، ‏وأهميته، لأجل الإقدام على استهلاكه، ويحقق الهدف الأساسي الذي يُريده المرسل.‏

ج- الخطاب أو الرسالة الإشهارية: هي التي تحقق التواصل، ويمكن أن تكون لسانية أو ‏سيميائية، ومن المفروض في هذا الخطاب أو الرسالة الإشهارية وجود مرسِل يتحدث أقوالًا، ‏ويقابله متلقٍّ يستقبل هذه الأقوال، محاولًا العمل على فهم أنساقها ذات الدلالات المختلفة، كما ‏تكون لسانية وسيميائية "الأيقونية البصرية"، وبعدها يقوم بتحليلها وتأويلها(14).‏

مفهوم الخطاب التربوي وخصائصه ‏

‏-‏ مفهوم الخطاب التربوي الإقناعي:‏

الخطاب التربوي الإقناعي خطاب إنساني، له دواله ومدلولاته، ومرجعياته؛ إنه نص مرتبط ‏بسياق؛ إنه خطاب ينطوي على قيم أخلاقية توجيهية، وينبني على سياق فعله، ويرسم موقع ‏وجوده في فضاء له مرجعياته وسننه. يثير الخطاب التربوي الإقناعي نشاطًا فكريًا ولغويًا ‏بهدف البحث عن علامات الاهتداء مستقبليًا لرسم مسارٍ تربويٍّ واعٍ يتأسَّس على معطيات ‏حجاجية‎ ‎إقناعية. فالخطاب التربوي الحجاجي الإقناعي إلى جانب الخطابات السردية ‏والخطابات الوصفية، صنف وجنس من أجناس الخطاب، له بُعد سياقي وبُعد منطقي وبُعد ‏لغوي، ويقوم على الدعوى ودحضها؛ مستهدفًا إقناع الآخر بصدق دعواه والتأثير في موقفه ‏أو سلوكه تجاه تلك القضية. وكلما كان الإدعاء مبررًا بمجموعة من القضايا الداعمة له؛ كلما ‏ظهرت كفاءة المدّعي الحجاجية في الوضعيات التواصلية. ‏

من سمات هذا الخطاب؛ اعتماده في صياغة منهجه الإقناعي على مبادئ منتظمة، تؤسس ‏على معطيات ذات بعد إنساني لساني واجتماعي وأخلاقي؛ فمن المبادئ الأساسية وجود ‏مقاصد وأهداف وتوجهات، يتم بلوغها انطلاقًا من اللغة في أجلى تمظهراتها البيانية؛ لتحقيق ‏كفايات (منهجية) و(تواصلية) و(ثقافية) و(استراتيجية). ولذلك فهي وسيلة الخطاب التربوي ‏الإقناعي في تنفيذ المقاصد والتوجهات. كما أنَّ (الملاءمة) من مبادئ الإقناع في هذا الخطاب، ‏الذي يتوجَّه لأصناف متعددة من المخاطبين؛ لذلك يفترض في العدة الحجاجية أن تكون ملائمة ‏لملكات واستعدادات الصنف المخاطب بالأصالة. ‏

وطبيعة الخطاب التربوي الإقناعي؛ خطابية جدلية حوارية، تبليغية، موضوعية؛ كما أن له ‏حججه المنطقية المعقولة للنفي والإثبات؛ فكلمات الخطاب وتراكيبه وصوره واستعاراته ‏وتشبيهاته عناصر تجعله خطابًا حجاجيًّا إقناعيًّا.‏

ويقتضي الخطاب التربوي أساسًا التأثير والإقناع؛ فهو يعتمد بالدرجة الأولى على خصوبة ‏المخاطبات؛ حتى أضحت قضية المخاطبة في السياق التربوي أمرًا محوريًا من خلال العلاقة ‏الأصيلة بين المخاطبين في مجال التربية؛ فالخطاب التربوي يتوجه إلى متلقٍ فعلي أو محتمل؛ ‏وبذلك تتحاور الذوات وتتجادل ويحاجج بعضها بعضًا.‏

ويسعى الخطاب التربوي الإقناعي إلى الأخذ بالحجاج؛ باعتباره بديلًا فعالًا عن العنف؛ حيث ‏يتم التعويل عليه في السعي لتحقيق نتيجة معينة؛ وذلك باعتماد خطاب مقنع ذي طابع حواري، ‏يقوم في أساسه ودعواه على منهج رصين محكم(15).‏

‏-‏ تحليل الصورة:‏

 

 

الصورة المعروضة هنا عبارة عن لوحة كاريكاتورية موضوعها تربوي، وهي ذات وظيفة ‏إخبارية حجاجية أفادت الإقناع، تجسِّد لنا دور نساء ورجال التعليم في تكوين وتربية الناشئة. ‏تحمل الصورة رسالة شكر وتقدير للسادة الأساتذة على تضحياتهم وجهودهم المتواصلة، ‏ودعوة المتعلمين للافتخار بهم، وحثّهم على الاجتهاد والمثابرة في التحصيل. كما بيَّنت ‏الصورة أيضًا فخر الأساتذة بنجاح المتعلِّم الذي شكلته أيديهم.‏

تتكون الصورة من متعلم مبتسم يرتدي قميصًا أحمر، وسروالًا أزرق، يحمل على ظهره ‏حقيبة مدرسية ملتفتًا للخلف قائلًا: "أعزائي المعلمين شكرًا لكم جميعًا"، عبارة مكتوبة وسط ‏أعلى الصورة باللون الأسود الغامق داخل إطار أبيض، تحيل على اعتراف وتقدير وشكر من ‏طرف المتعلِّم لجميع الأساتذة في تكوين مساره.‏

‏ يتسلق المتعلِّم سلم النجاح المكوَّن من أيادي الأساتذة من مختلف المواد الدراسية، فكل مادة لها ‏عطاؤها وتأثيرها الخاص، وجوههم ضاحكة مبتهجة، ينظرون إليه نظرة تحفيز وتشجيع، ‏يشهدون على تقدُّم المتعلم المتسلق لسلم النجاح، وهم يمهدون له الطريق ليصل إلى قمة الفوز ‏بالنجاح في مستقبله. كما دعت عبارة الشكر إلى احترام الأساتذة وتقديرهم فهم رسل العلم ‏يحافظون على أمانته بتأدية الواجب بكل ضمير. ‏

بجانب الأساتذة؛ يوجد خطاب مصاحب داخل سهم أبيض متجه نحو الأعلى، يحمل عبارة ‏‏"حلم" المكتوبة باللون الأسود دليل على أنَّ المتعلِّم متفوِّق في مساره، يتطلع لحلم يودُّ تحقيقه، ‏والفضل يعود لهم جميعًا. ممّا ساهم في توضيح مضمون الصورة. طلب العلم أساس تحقيق ‏الأحلام.‏

تزخر الصورة بمجموعة من المكونات الأيقونية واللغوية، بمجموعة من الدلالات ‏والإيحاءات، فعلى مستوى الألوان يدل اللون الأحمر على الحب والمودة التي يكنها المتعلم ‏لأساتذته، ويرمز اللون الأزرق إلى الهدوء والصفاء والثقة بالنفس، بينما يرمز اللون الأخضر ‏إلى التفاؤل بمستقبل مشرق وزاهر، ويرمز اللون البني إلى الدعم والتوجيه وشعور المتعلم ‏بالواجب والمسؤولية. وهذا ما عبَّر عنه المتعلم بنظراته المليئة بعبارات الامتنان، والتقدير ‏والشكر لما قدَّم له أساتذته من جهد وعلم وقيم ترسّخت في ذهنه.‏

كما يمكن تفسير الاختلاف بين الضوء الساطع المسلَّط على التلميذ، واللون الرمادي الفاتح ‏المحيط بالأساتذة إلى الحيوية والنور، باعتبارهم جنود الخفاء يسهرون على تثقيف الأجيال، ‏وبناء لبنة التعلم فيهم، وترويتهم من بحور العلم والمعرفة، ودليل أيضًا على الحب والغيرة في ‏بناء جيل واعد.‏

تحمل الصورة رسالة قيمة تعنى بتقدير الجهود المبذولة من طرف الأساتذة، وإعادة الاعتبار ‏للمتعلمين والأساتذة، والتطلع لمستقبل أفضل، فخلف كل طالب ناجح أساتذة عظماء؛ استشهادًا ‏بقول "نيوتن": "إذا كانت رؤيتي أبعد من الآخرين فذلك أني أقف على أكتاف العمالقة".‏

استنادًا لما سبق، يُعدُّ الخطاب الإشهاري فنًّا تواصليًّا قديمًا، استخدمه الإنسان منذ القدم، ‏للترويج لمنتوجاته بطرق تقليدية تطورت بتطور المجتمع، حيث أصبح حلقة مهمة في سلسلة ‏التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، باستحضاره للصورة التي تلعب دورًا ‏اتصاليًّا تأثیریًّا وإقناعيًّا للتمكُّن من استمالة أكبر عدد من الجمهور.‏

 

المصادر والمراجع والهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ ابن منظور أبوالفضل جمال الدين محمد(ت 711هـ)، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، ج ‏‏14، مادة [خطب]، ص 1195-1194.‏

‏(2)‏ ‏ أمين رقيق، بلاغة الخطاب المكتوب دراسة لتقنيات الحرف واللون والصورة في خطاب ‏الدعاية التجارية، رسالة مقدمة لنيل شهادة دكتوراه علوم في علوم اللسان العربي، جامعة ‏محمد خيضر- بسكرة، كلية الاداب واللغات، قسم الآداب واللغة العربية، إشراف د.محمد ‏خان، 2013/2014، ص6.‏

‏(3)‏ ‏ سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1989، ص7.‏

‏(4)‏ ‏ جابر عصفور، آفاق العصر، ط1، دمشق- سوريا، دار الهدى للثقافة والنشر، 1997،ص48.‏

‏(5)‏ ‏ ابن منظور: لسان العرب، مرجع سابق، ص487.‏

‏(6)‏ ‏ محمد‎ ‎جودت‎ ‎ناصر،‎ ‎الدعاية‎ ‎والإعلان‎ ‎والعلاقات‎ ‎العامة،‎ ‎دار‎ ‎مجدلاوي للنشر والتوزيع،‎ ‎عمّان- الأردن، ط1، ‏‎1997‎، ص‎ 185‎‏.‏

‏(7)‏ ‏ شروق خلیل: دور البنية اللغوية في الخطاب الإشهاري، إشهارات تليفزيونية سياحية أنموذجًا، ‏إشراف د.خلیل یاسمینة عبدالسلام، مذكرة لنیل شھادة الماستر في الآداب واللغة العربیة ‏تخصص: اللسانیات والسیاحة، جامعة محمد خیضر- بسكرة، كلیة الآداب واللغات، قسم ‏الآداب واللغة العربیة، 2014/2015، ص19.‏

‏(8)‏ ‏ شروق خلیل، المرجع السابق، ص20.‏

‏(9)‏ ‏ بن ناصر لامیة- بركاني حلیمة، أسالیب الإقناع في الخطاب الإشهاري- إشهارات موبلیس ‏أنموذجًا- مقاربة سیمیائیة، إشراف خیار نورالدین، مذكّرة مقدّمة لاستكمال شهادة الماستر في ‏اللّغة العربیّة وآدابها تخصّص: علوم اللّسان، جامعة عبدالرّحمان میرة -بجایة- كلیّة الآداب ‏واللّغات، قسم اللّغة العربیّة وآدابها، 2016/2017 ص27-28.‏

‏(10)‏ شروق خلیل، مرجع سابق، ص27-29.‏

‏(11)‏ ‏ بوفكرون خديجة، استراتيجية الحجاج في الخطاب الاشهاري، مقاربة تداولية، إشراف ‏مجاهد ميمون، مذكرة مقدمة لنيل شهادة ماستير في اللغة العربية وآدابها، تخصص: لسانيات ‏الخطاب، جامعة د.مولاي الطاهر سعيدة، معهد اللغة العربية وآدابها قسم: اللغة العربية ‏وآدابها، 2015/2016، ص56-58.‏

‏(12)‏ أساليب الإقناع، مرجع سابق، ص30-31.‏

‏(13)‏ صابرة هجرس، القيمة الحجاجية في الخطاب الاشهاري "موبيليس نجمة جيزي" ‏أنموذجًا- مقاربة تداولية، إشراف هندة كبوسي، مذكرة مكملة لنيل شهادة الماستر في ميدان ‏اللغة العربية والأدب العربي، جامعة العربي بن مهيدي- أم البواقي، كلية الآداب واللغات ‏والعلوم الاجتماعية والإنسانية، الجزائر، 2012/2013، ص44-45.‏

‏(14)‏ المرجع السابق، ص45-46.‏

‏(15)‏ المرجع السابق، ص45-46.‏