إطلالة على القَرابي والسياسي ‏ في المجتمعات "البدائيّة" من منظور أنثروبولوجي

د. محمد جرادات

أنثروبولوجي وإعلامي أردني

 

 

تولي المجتمعات البسيطة العلاقات القَرابيّة أهميّة تتجاوز في درجتها جميع أنواع ‏العلاقات الاجتماعيّة، فالنظام القَرابي يمثِّل المحور الذي تُنظَّم حوله النشاطات ‏السلوكيّة لدى هذه المجتمعات. ولا تنحصر أهميّة القرابة في مجال البحث المتَّصل ‏بالمجتمعات البسيطة، بل تتجاوز ذلك إلى المجتمعات السياسيّة النامية الأخرى، فعمليّة ‏انتقال هذه المجتمعات من التنظيم العشائري القَرابي إلى البيروقراطيّة الإداريّة ‏والتكنوقراط الصناعي، كثيرًا ما تتغيَّر بسبب اصطدامها بالقرابة واعتباراتها.‏

 

مدخل عام ‏

ترتكز علاقة القَرابي بالسياسي من وجهة نظر أنثروبولوجية إلى فرعين أساسيين في ‏الأنثروبولوجيا، هما: الأنثروبولوجيا السياسية، وأنثروبولوجيا العائلة والقرابة، وتعتبر ‏الأنثروبولوجيا السياسية فرعًا حديثًا في الأنثروبولوجيا قياسًا لفروع أخرى عديدة، ‏حيث برزت الحاجة لهذا الفرع بشكل كبير بدايات القرن الماضي على ضوء حاجة ‏الإدارة الاستعمارية، تحديدًا البريطانية، إلى معرفة كل ما يلزم حول الشعوب ‏المستعمَرة، كي تنجح في احتلالها واستغلالها ونهبها والسيطرة عليها، وتبعهم في ذلك ‏الفرنسيون وصولًا إلى الأميركيين. واليوم أصبحت الأنثروبولوجيا السياسية متجاوزة ‏فكرة دراسة المجتمعات والشعوب المستعمَرة إلى دراسة الظواهر السياسية والتنظيم ‏السياسي والثقافة السياسية. أمّا أنثروبولوجيا العائلة والقرابة، فتميّز أساسًا بدراسة ‏ظاهرة القرابة في المجتمعات البسيطة، خصوصًا دراسات الأوائل والروّاد، حيث يندر ‏أن نجد أيًا منهم لم يتناول القرابة.‏

درس الأنثروبولوجيون العديد من المجتمعات، سواء تلك المسمّاة خطأً بدائيّة، ‏والمجتمعات البسيطة والجماعات الهامشية أو المجتمعات المعقدة ومختلف ظواهرها، ‏وكانت إشكالية القرابي والسياسي ظاهرة في كل تلك الحالات، وتوجد في العديد من ‏المجتمعات ضمن أشكال ومضامين متنوِّعة، ولها ارتباط بمجمل البناء الاجتماعي ‏الذي يشكل مجمل العلاقات الاجتماعية ويرتبط بنظم وأنساق اجتماعية عديدة، ويلعب ‏دورًا مهمًا وحيويًا في عملية تنظيم الجماعات البشرية. ‏

تكمن أهميّة دراسة النظام القَرابي نظرًا لمكانته في حياة المجتمعات، وتفيد في التعرُّف ‏على أشكال النظم القرابية في المجتمع، ولأجل تحديد وفهم المجتمع المبحوث باستخدام ‏المصطلحات القرابية، وتفسير ماهية نظام القرابة وعلاقاته بالبناء الاجتماعي ‏والظواهر المختلفة في المجتمع، ومن ضمنها الظاهرة السياسية، كما أنَّ فهم القرابة ‏ضروري لفهم تركيبة الجماعة الاجتماعية المعيّنة، لأنّ للجماعة القرابية وظائف ‏مختلفة، من ضمنها الوظائف السياسية، فالقرابة تلك العلاقة الاجتماعية القائمة على ‏الدم والمصاهرة، موجودة في مختلف المجتمعات، وتختلف أشكالها من مجتمع لآخر ‏لاعتبارات رمزية وأيديولوجية وحضارية، متعلقة بتعبير الناس وتصنيفاتهم ووصفهم ‏لأقاربهم، وقد تكون العلاقة حقيقية أو مفترضة، كما هي الحال بين أفراد الجماعة ‏القرابيّة الكبيرة، وهي علاقة معترف بها اجتماعيًا، كما أنها مجموعة الروابط الناشئة ‏عن الزواج والأبوّة والأخوّة التي تربط أعضاء الأسرة. ‏

تتطلب دراسة النظام القرابي تسجيل المصطلحات القرابية المستخدمة في مناداة ‏الأقارب والتحدث عنهم من خلال الطريقة الجينالوجية، بمعنى كيف ينادي الأقارب ‏بعضهم بعضًا وكيف يتكلم كل منهم عن الآخر. وتعتبر عملية الالتزام بالمنهج ‏الجينالوجي مفتاحًا لدراسة العلاقات الاجتماعية القرابية بمختلف مستوياتها، وهي ‏ضرورية لفهم وتفسير هذه العلاقة، فاستخدام مصطلح قَرابي معيَّن يترتب عليه سلوك ‏ما وتذكير المخاطَب بمكانته عند المخاطِب، فتعلُّم النظام القرابي ومصطلحات القرابة ‏لدى أيّ جماعة اجتماعيه يبدأ منذ الولادة. وتعتبر مصطلحات القرابة من أساليب ‏التخاطب العادية بين الناس، ويتحدَّد نمط العلاقات القَرابية وفق خصائص المجتمع ‏وظروفه، خصوصًا الظروف الاجتماعية والأنساق الاقتصادية والثقافية كعوامل ‏مؤثرة، ما يعني وجود أنواع مختلفة للأنماط القرابيّة في العالم، وبالتالي مصطلحات ‏قرابيّة متنوعة ومختلفة.‏

 

أنماط قَرابيّة متعدِّدة

تتعدَّد أنماط القرابة في المجتمعات البسيطة، كالنمط السوداني والهاوائي والأوماهي ‏والكرو والإيروكي والأسكيمو، وهي أنماط تتراوح بين الطابع الوصفي والتصنيفي ‏ذات الوظائف المتنوِّعة، مثل تنظيم العلاقات بين الأفراد خصوصًا الأقارب، فالروابط ‏القرابيّة من أهم الروابط الاجتماعية، ولها قدرتها على توفير الاستمرارية والترابط بين ‏الأجيال، وللقرابة وظيفة مرتبطة بأهميّة الأسرة وكون النظام الاجتماعي ينظَّم من ‏خلال أنساق، حيث ترتبط الأسر مع بعضها بعضًا من خلال روابط تتكوَّن نتيجة ‏الزواج "علاقات مُصاهرة" تربط الزوج بأقارب زوجته وبالعكس، وبالتالي تربط ‏مجموعة كبيرة من أفراد الأسرتين مع بعضهما بعضًا في ظلِّ تنوُّع الجماعات ‏القرابيّة، كالأسرة النووية والأسرة الممتدة والبدنة والعشيرة والقبيلة وجماعة النسب، ‏ولذلك شكّل موضوع القرابة ركنًا مهمًّا في البحث الأنثروبولوجي، حيث تولي ‏المجتمعات البسيطة العلاقات القرابية أهمية تتجاوز في درجتها جميع أنواع العلاقات ‏الاجتماعية، فالنظام القرابي يمثل المحور الذي تنظم حوله النشاطات السلوكية لدى هذه ‏المجتمعات. ولا تنحصر أهمية القرابة في مجال البحث المتصل بالمجتمعات البسيطة، ‏بل تتجاوز ذلك إلى المجتمعات السياسية النامية الأخرى، فعملية انتقال هذه المجتمعات ‏من التنظيم العشائري القرابي إلى البيروقراطية الإدارية والتكنوقراط الصناعي، كثيرًا ‏ما تتغير بسبب اصطدامها بالقرابة واعتباراتها.‏

 

روّاد

كثر هم الروّاد الذين درسوا القرابة، من بينهم "مورغان" الذي كتب "أنساق وروابط ‏الدم والمصاهرة والعائلة البشرية"، و"المجتمع القديم"، واعتبر أنَّ النسق القرابي مبني ‏على العلاقات البيولوجية، لكن الأبحاث الأنثروبولوجية اللاحقة أكّدت جوانب أخرى ‏غير بيولوجية من حيث كونها وسائل تصنيف وتعيين وتحديد المسؤوليات والحقوق ‏والواجبات لأفراد المجموعة، فالقرابة هذه الظاهرة الحضارية والاجتماعية تشكل ‏العلاقة البيولوجية فيها نقطة البداية لظهور المفاهيم الاجتماعية المتعددة للقرابة، ‏والعلاقات القرابية علاقات تفاعلية تقوم على التفاعل المباشر بين الأفراد، ويفتخر ‏الأقارب بانتماءاتهم، ويلتزمون تجاه بعضهم بعضًا بواجبات اقتصادية واجتماعية ‏وسياسية وثقافية، فنسق القرابة ينطوي على الحياة بكل أبعادها، ما يعقد وظيفة ‏القرابة. واعتمد "مورغان" في أبحاثه على المادة الإثنوغرافية التي جمعها خلال ‏دراسته لجماعة "الهنود الحمر" السكان الأصليين في قبائل أيروكي، وعلى المواد ‏التاريخية التي جمعها؛ وتحدَّث عن نوعين من المصطلحات القرابية، الأول: ‏المصطلحات الوصفية، حيث يتمايز الأقارب المباشرون عن الأقارب غير المباشرين. ‏والثاني: المصطلحات التصنيفية، حيث يتم ضمّ الأقارب المباشرين وغير المباشرين ‏في فئة واحدة، ويتم استخدام مصطلح واحد في مناداتهم. واعتبر دراسة المصطلحات ‏القرابية السبيل الأكثر أهمية في توضيح طبيعة القرابة وارتباطاتها المختلفة، حيث ‏يعتمد النظام القرابي على المصطلحات التي ترمز لأصناف الأقارب وعلى السلوك ‏المتوقع إزاء كل منهم. ‏

استمرَّت الأبحاث الأنثروبولوجية بعد الروّاد، وعمل الباحثون على تطوير تلك ‏الدراسات والأبحاث باعتبارها الجانب المهم من جوانب البناء الاجتماعي، فدرس ‏‏"هنري مين" القرابة من زاوية الأبوّة والزعامة الأبويّة في العائلة كمنطلق للتنظيم ‏القرابي ولتحديد حقوق الميراث، وأكد أنَّ العائلة الأبويّة هي الحلقة الأولى في سلسلة ‏التطور القرابي التي بدأت أولًا بنظام زعامة الأم، ودرس "راد كليف براون" القرابة ‏من ناحية العلاقات الاجتماعية وأشكالها المختلفة، حيث تمثل القرابة نظامًا مؤلفًا من ‏الحقوق والواجبات وترتبط بالبناء الاجتماعي الخاص بالمجتمع.‏

تميَّز الأنثروبولوجيون البريطانيون بشكل خاص في دراسة القرابة بالمجتمعات ‏الأفريقية، فدرس "بريتشارد" قبائل النوير في السودان، ودرس "فورتس" قبائل ‏تالنسي، واهتمّا بدراسة جوانب محددة في أنظمة القرابة مثل السلطة والزعامة ‏والوحدة والتجزئة، وأكّد "فورتس" أنَّ الوحدات السياسية القبلية في أفريقيا هي ذاتها ‏الوحدات القرابيّة، أمّا "كروبر" فاعتقد أنَّ المصطلحات القرابية لا يمكن الاعتماد ‏عليها في فهم حقائق التنظيم الاجتماعي، خصوصًا أنَّ بعضها لا يمثِّل أكثر من عُرف ‏قوي دارج لا يعكس حقيقة ما يجري في حياة أعضاء الجماعة، وكشف "كروبر" ‏و"لوي" عن المعايير الرئيسة التي يعتمد عليها سلوك الناس، وبيَّنا الاختلافات ‏الاصطلاحية القرابية كالجنس والعمر والمصاهرة والتشعب والاستقطاب، وركّز ‏‏"مردوك" على عملية إخضاع البحث القرابي للطريقة العلمية الإحصائية المقارنة ‏وإبراز الجانب التطوري والديناميكي للبناء الاجتماعي خصوصًا البنية القرابية، ‏وتناول "مالينوفسكي" جماعة (التروبرياند) حيث لفت نظره موقف الولد من الخال ‏هناك؛ وهو من أبرز الذين درسوا القرابة من زاوية الحاجات العاطفية للفرد.‏

 

تغيُّر العلاقات القرابيّة ‏

تعتبر المجتمعات البسيطة والنامية من أصدق صور الواقع القرابي المتغيِّر، وتعرَّضت ‏مفاهيم القرابة وقواعدها إلى تيارات التحديث التي يفترض أن تضعف منها، فنُظُم ‏القرابة أصبحت تواجه ضغوطًا متزايدة بسبب عملية التغيير الاجتماعي والتمدين ‏والتحديث والتصنيع، لكنها على الرغم من تنوُّع أنظمتها الاجتماعية تشترك في عدة ‏صفات مثل: استقلالها السياسي الحديث واستمرارية اعتمادها التكنولوجي والاقتصادي ‏على الغرب الاستعماري. سيادة الطابع الزراعي الريفي على الرغم من وجود بعض ‏الصناعات في بعض المدن. عدم تبلور مفاهيم المدنية الصناعية نتيجة عدم انسجام ‏هذه المفاهيم مع قيم الأعراف المحلية القبلية. ضيق مجالات الحراك الاجتماعي، ‏وضعف مبدأ الكفاءة والإنجاز أمام الاعتبارات العرفية. سيادة العضوية الثنائية (بين ‏الولاء للدولة الحديثة والعشيرة/ القبيلة المعتمدة على التماسك القرابي والعلاقات ‏القرابية الحقيقية والمفترضة)، حيث تمثل العشيرة أو القبيلة النظام الاجتماعي ‏والفكري والاقتصادي والسياسي والأخلاقي لأفرادها، من دون أن يعني ذلك خلوّ هذه ‏الأنظمة من صراعات داخلية لدى الجماعات الكبرى كالقبيلة، لاعتبارات عديدة منها ‏انقسامها إلى بطون وأفخاذ وعشائر، أو عدم توحُّدها عند مواجهة الأخطار الخارجية.‏

 

الظاهرة السياسيّة

تمثل الظاهرة السياسية مفهومًا صعب التحديد، لكن من الممكن تسخيره لدراسة وجوه ‏التنظيم السياسي في المجتمعات المختلفة من دون أن ننفي وجود خصائص نوعية ‏مشتركة لما يعتبر سياسيًا في ظواهر الحياة الاجتماعية مثل: العمومية، أي أنها تهمّ ‏المجتمع بكامله. الأهداف المحددة، بمعنى أنها ذات طابع جماهيري بما تلقاه من اهتمام ‏وتأكيد جماعي. السلوك الواعي، أي اقتران الظاهرة السياسية بدرجة من الوعي ‏السلوكي باعتبار أنَّ السلوك السياسي سلوك قصدي. البحث عن حلول، ويجب أن ‏تكون مقبولة لدى الرأي العام. طابع السلطة أو القوة على مستوى الزعامة والقيادة ‏بشكل خاص. الشرعية، مع الأخذ بعين الاعتبار مقاييس ومعايير الشرعية (القوة ‏والانسجام). تجانس المواقف؛ مع ملاحظة أنَّ المجتمعات المسمّاة "بدائيّة" تُظهر ‏درجة عالية من تماثل وتجانس المواقف لدى أفرادها تجاه الأدوار السياسية والنتائج ‏المترتبة عليها لاعتبارات العلاقات القرابية. وهناك اختلاف في منطلقات الباحثين ‏الأنثروبولوجيين النظرية والتحليلية؛ التي درست الظاهرة السياسية، فمنهم مَن تطلّع ‏للبحث السياسي من زاوية ستاتيكية معتمدة على مفهوم البناء الاجتماعي والمكانة ‏الاجتماعية؛ مثل "بريتشارد" و"فورتس"، حيث اعتبرا البناء الاجتماعي الأساس الذي ‏لا غنى عنه لدراسة جميع ظواهر الحياة الاجتماعية بما فيها من وجوه التنظيم ‏السياسي، ومنهم مَن اعتمد على الزاوية الديناميكية وركز على مفهوم الدور والتنظيم ‏الاجتماعي في البناء الاجتماعي من دون إهمال المكانة الاجتماعية في دراسة مختلف ‏الظواهر بما فيها الظاهرة السياسية. ‏

 

مبادئ البحث السياسي الأنثروبولوجي

هناك مبادئ عامة وأسس اعتمد عليها البحث السياسي الأنثروبولوجي، مثل مبدأ ‏الوحدة والانقسام: حيث يتم النظر للتنظيم الاجتماعي والسياسي من زاوية درجة ‏الانقسام البنائي في المجتمع، ومن روّاد هذا المجال "مارشال ساهلين" في دراساته ‏حول القبائل الأفريقية. ومبدأ التصادم والعُرف: حيث يتم التركيز على مشاكل التصادم ‏والنزاع والوسائل العرفية السائدة والمستخدمة لحسمها؛ وكيفية حلها عبر اعتمادها ‏على قواعد أخلاقية وأعراف وشعائر وعقائد روحية غير مكتوبة تمكنها من تنظيم ‏علاقاتها الداخلية. ومبدأ شكل السلطة: وهو الأكثر شيوعًا؛ حيث يحدد الظاهرة ‏السياسية على ضوء شكل السلطة المشرفة على تنظيم الشؤون العامة. وتحدَّث ‏الأنثروبولوجيون عن عدة "أنظمة" للجماعات "البدائية" مثل: ‏

النظام الأوليجاركي؛ الذي يتميَّز بانفراد عدد قليل من أفراد المجتمع بالحكم والسلطة. ‏النظام الملكي؛ وهو وجود الحاكم الواحد. النظام الديموقراطي؛ الذي يتعلق بسيطرة ‏الغالبية العظمى على السلطة أو ما يسمّى حكم الأغلبية الشعبية. النظام ‏الجيرونتكراسي؛ وهو حكم الشيوخ المسنين "كبار السنّ". النظام الثيوقراطي؛ وهو ‏حكم الكهنوت ورجال الدين.‏

 

ميدان السياسي

منذ زمن بعيد قال أرسطو: "الإنسان سياسي بطبعه". وكشفت أبحاث الأنثروبولوجيين ‏عن تنوُّع الأشكال السياسية "البدائية"، ما ساهم في كشف الحقل السياسي وتحديده ‏حيث لا وجود لمجتمع من دون "حكومة" فهناك دومًا الأعلويّون والأدنويّون. ويؤكد ‏‏"ماكس فيبر" على أسبقيّة السياسة على الدولة. وقال مهدي عامل: "السياسة ليست كل ‏شيء لكنها في كل شيء". وهناك مَن يقول إنَّ نطاق السياسي يبدأ حيث ينتهي نطاق ‏القرابة. وعمومًا تميّز ميدان السياسي بالوظائف المؤدّاة أكثر منه بطرق التنظيم؛ ‏بمعنى طرق تنظيم حكم المجتمعات البشرية وأنواع العمل المساعدة في إدارة الشؤون ‏العامة، والاستراتيجيّات الناجمة عن تنافس الأفراد والجماعات، والمعرفة السياسية ‏والاستدلال، سواء من حيث طرق التنظيم المكاني، أو الاستدلال بالوظائف وطرق ‏العمل السياسي والخصائص الشكلية.‏

الميدان السياسي بحسب "مورغان" و"مين" بالنسبة لطرق التنظيم المكاني يُفهم أولًا ‏كنسق تنظيمي يعمل في نطاق أرض محدَّدة ووحدة سياسية أو كحيِّز يشتمل على ‏جماعة سياسية، ما يشير إلى إمكانية التوافق بين عنصري القرابة والمكان. وبالنسبة ‏للاستدلال بالوظائف فغالبًا ما يُعرف السياسي بالوظائف التي يؤدّيها، حيث تؤمِّن هذه ‏الوظائف التعاون الداخلي والدفاع عن سلامة المجتمع ضد المخاطر الخارجية، وتكون ‏مسألة تأدية الوظائف نفسها من قبل جميع الأنظمة السياسية، والتعددية الوظيفية للبنى ‏السياسية، وأحيانًا كثيرة توصف الوظائف كالبنى السياسية بالإكراه المستخدم شرعًا. ‏أمّا الاستدلال بطرق العمل السياسي ففيه تنتقل نقطة الارتكاز في التحليل من الوظائف ‏إلى مظاهر العمل السياسي باعتبار أنَّ الحياة السياسية مظهر من مظاهر الحياة ‏الاجتماعية ونظام عمل، ويكون العمل الاجتماعي سياسيًا عندما يسعى إلى السيطرة أو ‏التأثير على القرارات المتعلقة بالشؤون العامة. ‏

 

السلطة السياسيّة والضرورة

السلطة مفهوم خطير ومعقّد، وهو ظاهرة طبيعية في أيّ مجتمع سواء كان "بدائيًا" أو ‏غير ذلك، فكل شيء في الوجود يوحي بوجودها، وتنوّعت تعريفات السلطة، فهي ‏مقولة خاصة للعلاقات الاجتماعية والقدرة على إجبار الآخرين ضمن النظام. وهي ‏الإمكانية المتاحة لأحد العناصر داخل علاقة اجتماعية معيّنة ليوجِّهها حسب مشيئته، ‏وهي أكثر قدمًا وأساسية من ظاهرة الدولة، فالسيطرة الطبيعية لبعض الأفراد على ‏بعضهم أساس التنظيمات والعلاقات الإنسانية والتطور البشري، وظاهرة السلطة ‏ترافق الفرد منذ طفولته فهو ينشأ ويتعوّد على تقبُّل الأوامر والطاعة والخضوع لأهله، ‏ودور المدرسة ورقابتها، وكلّما شبّ الفرد ووعي المجتمع الذي يعيش فيه، شعر ‏بوجود السلطة في كل فئة اجتماعية، وهي دومًا في خدمة بنية اجتماعية لا يمكنها ‏المحافظة على نفسها بتدخُّل العُرف أو القانون فقط أو بنوع من التقيد التلقائي ‏بالقواعد. وهي المقدرة (ضمنية أم مكتسبة) على ممارسة السطوة والهيمنة على ‏مجموعة ما، ومظهر للقوة تتضمّن الطاعة، وهي القوة الرسمية، فعند القول إنَّ ‏شخصًا ما يملك السلطة فذلك لا يعني أنه يملك القوة لكن المعادلة السياسية هي التي ‏تمنحه القوة. السلطة مبنية على الفعل، وهي ضرورة إلزامية في التنسيق بين فئتين؛ ‏بين الحكام والمحكومين، وأساسها الشرعية، حيث لكل سلطة شرعية خاصة بها، ‏ويكمن الفرق بين السلطة والقوة والإرغام والعنف في الشرعية، وغالبًا هناك ثلاث ‏سلطات؛ السلطة التقليدية المتعلقة بالإيمان الراسخ في قدسية التقاليد. السلطة ‏الأسطورية المتعلقة بالعبادة والتفاني الشعبي في سبيلها. السلطة العقلانية القانونية التي ‏تستمدّ شرعيّتها من القانون والطاعة والخضوع للقانون. ومن المؤكد أنَّ سلطة الحكّام ‏مستمدّة من سلطة المنصب وليست مستمدّة من سلطة أشخاصهم.‏

 

السلطة السياسيّة في المجتمعات "البدائيّة"‏

تعتبر دراسة ظواهر السلطة من ضمن ميادين الأنثروبولوجيا الحديثة، والبريطانيون ‏روّاد في هذا الحقل، فقد طرح "مالينوفسكي" مشكلة العلاقات بين المؤسسات ‏الاجتماعية للمجتمعات "البدائية" والمؤسسات البريطانية من منظور تعادل الوظائف، ‏واليوم تغير موضوع الأنثروبولوجيا السياسية من التركيز على دراسة السلطة إلى ‏النزاعات والعمليات المتعلقة بتفكيك البنى السياسية وإعادة تركيبها أكثر من الاهتمام ‏بالتوازنات والمؤسسات، وبالتالي أحدثت الأنثروبولوجيا السياسية على هذا الصعيد ‏انقلابًا في مفهوم السلطة من حيث تنوُّع الأنساق ومبادئ التنظيم، فهناك محاولات ‏تحديد الأشكال السياسية للدولة في إطار الأشكال الأخرى لتنظيم السلطة وانتقالها ‏ومعارضتها، وهنالك علاقة وثيقة بين السلطة والقرابة والسلطة والدين والسلطة ‏والشرعية. ‏

والسلطة في أبسط التعريفات هي القدرة على التحرُّك والتأثير في الواقع وامتلاك ‏وسائل تغييره وتحريكه، وبالتالي ليست السلطة السياسية الشكل الوحيد للسلطة، فهناك ‏سلطة اقتصادية، ودينية، واجتماعية وعسكرية، ويقاس الوجود الفعلي للسلطة تبعًا ‏لمدى تأثيرها في الواقع، وترتبط بمفهومي الشرعية والفعالية، وليست دائمًا شرعية ‏ومتطابقة مع المعايير. وعند الحديث عن السياسي فإنَّ المقصود بذلك مجمل العمليات ‏المؤسسية والطقوسية والشخصية أو غير الشخصية التي تقوم بواسطتها مجموعة ‏اجتماعية ما بالمعارضة أو التأييد، بمعنى إعادة تركيب متواصل لسلّم القيم والمصالح ‏والنماذج السلوكية التي تشكل المجموعة، وهنا لا يتحوّل الديني والاقتصادي والحقوقي ‏واقعًا سياسيًّا إلا بمقدار ما يتدخل في إعادة التركيب هذه ويعبِّر عنها.‏

 

خاتمــة

أيّ مجتمع هو أكثر من تجمُّع للأفراد، بمعنى تنظيم، ولا يتصرَّف الأفراد إلا ضمن ‏قوانين وقواعد تنظم سلوكهم وعلاقاتهم، والسياسة متعلقة بمشكلة التنظيم، والضبط ‏الاجتماعي عبر التنظيم للأفراد وعلاقاتهم، ولعلَّ السلطة تبدأ من البيت أساسًا وتكون ‏استعمالاتها لأجل التعزيز والإمداد العسكري (القوة) والإدارة والقضاء، وهناك بُعد ‏تتموضع فيه السلطة خارج المجتمع وفوقه وتؤثر على قدراتها الإكراهية، فالسياسة ‏تؤثر على الجماعة بشكل يذكر بالأسباب الطبيعية، فهي (الجماعة) تخضع للسلطة كما ‏تخضع للتقلبات الطبيعية، فتظهر السلطة كقوة مرتبطة بالقوى التي تحكم الكون ‏وكطاقة هيمنة تربط بين نظام العالم المفروض من قبل الآلهة ونظام المجتمع المنشأ ‏على يد مؤسّسي الدولة، فالطقوس تؤمِّن الحفاظ على نظام الآلهة والعمل السياسي ‏يؤمِّن الحفاظ على الدولة، وبالتالي فإنَّ هناك علاقة بين المقدَّس والسياسي تضفي ‏صفة تدنيسيّة على كل أشكال ومحاولات التعدّي ضدّ السلطة، وهذا يؤكد أنَّ الشأن ‏السياسي يعتبر تعبيرًا واضحًا عن الواقع الاجتماعي؛ وإلا إذا لم يكن كذلك فكيف يحدَّد ‏ويُصاغ ويوصف؟ وكيف تحدَّد وظائفه إذا وافقنا على فكرة حرمان بعض المجتمعات ‏‏"البدائية" من أيّ تنظيم سياسي؟ وعلى كل الأحوال "إذا تكافّ الناس عن التظالم ‏استغنوا عن السلطان".‏

 

 

المراجع باللغة العربية

‏-‏ أبو عزالدين، فريدة، الفكر العربي، ما هي السلطة، بيروت، معهد الإنماء العربي، ‏‏1983.‏

‏-‏ بالانديه، جورج، الأنثروبولوجيا السياسية، ترجمة علي المصري، بيروت، المؤسسة ‏الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1990.‏

‏-‏ جوبر، بيتر، السياسة والتغير في الكرك، ترجمة خالد الكركي، عمّان، 1988.‏

‏-‏ جورداني، ج. الفكر العربي، السلطة السياسية في المجتمعات البدائية، ترجمة ماري ‏جنابزي، بيروت، معهد الإنماء العربي، 1983.‏

‏-‏ الجوهري، محمد، الأنثروبولوجيا أسس نظرية وتطبيقات عملية، ط1، مطابع سجل ‏العرب، القاهرة، 1980.‏

‏-‏ الحداد، محمد؛ والنجار، محمود، الأنثروبولوجيا مقدمة في علم الإنسان، الكويت، ‏الناشر الدولية، 1985.‏

‏-‏ السيد، رضوان، الفكر العربي، المجتمع والسلطة؛ إشكالية الاستمرار والوحدة، ‏بيروت، معهد الإنماء العربي، 1983.‏

‏-‏ مير، لوسي، مقدمة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ترجمة شاكر مصطفى سليم، ‏بغداد، وزارة الثقافة والإعلام، 1965م.‏

‏-‏ النوري، قيس، طبيعة المجتمع البشري في ضوء الأنثروبولوجيا الاجتماعية، الجزء ‏الأول، بغداد، مطبعة الآداب، 1972.‏

‏-‏ النوري، قيس، طبيعة المجتمع البشري في ضوء الأنثروبولوجيا الاجتماعية. الجزء ‏الثاني، بغداد، مطبعة الآداب. 1972.‏

 

 

المراجع باللغة الإنجليزية

‎-‎ Barnard, A. & Good, A. Research practices in the study of ‎kinship. London, Academic press. 1984‎

‎-‎ Ember, C. & Ember, M. Cultural anthropology, 7th edition. ‎USA. 1993‎

‎-‎ Fortes, M. & Pritchard, E. African political systems. ‎London, oxford university press, 1950‎

‎-‎ Fox, R. Kinship & marriage. Cambridge, C.U. press, 1967‎

‎-‎ Hicks, D. & Gwynne, M. Cultural anthropology. USA, ‎Harper collms college publishers. 1984‎

‎-‎ Hunter, D. 7 Whitten, Ph. Anthropology contemporary ‎perspectives. 3rd edition, Boston. 1982‎

‎-‎ Keesing, R. Kin groups & social structure. New York, USA. ‎‎1975‎

‎-‎ Sahlins, M. Tribesmen. New Jersy. USA. 1968‎

‎-‎ Schusky, E. Manual for kinship analysis. Lanham, ‎university press of America. 1931‎

‎-‎ Service, E. The Hunters. USA. 1979‎