وهجٌ... وكرامة‏

د.عبدالمهدي القطامين‎ ‎

كاتب أردني

‏"ارمِ يا ابن أمي وأبي وأنا سأحمي ظهرك....ارمِ لا ثكلتكَ أمك"، جاءه الصوت من خلفه، التفت ‏المُجنَّد "أحمد شحاده" فوجد العريف "محمد هويمل" يتمترس خلفه ويسدِّد نيران بندقيّته على فوج ‏العدوّ المتقدِّم، ابتسم ابتسامة الرِّضا، عبَّأ حشوة المدفع، أدار عياره قليلًا ثم إلى رتل الدبّابات ‏الذي قطع الجسر بصخب، سدَّد ورمى القذيفة، بينما راح صوته المنتشي يردِّد: "الله أكبر". كان ‏النداء يرتفع ساعة فجر آذاريّ بدت فيه دحنونات الغور متسربلة بلونها الأحمر، وكان على ‏مقربة منهما ضابط الإحداثيات "خضر شكري" ينتظر إشارة من القائد "مشهور الجازي" على ‏الطرف الآخر من الخط: "أيها الأبطال ابدأوا باسم الله رميكم على العدوّ....". بدأت الأيدي ‏المشتاقة لرائحة البارود والنصر -بعد هزيمة لم تبلغ عامها الأوَّل- تقبض بعنف على زناد البنادق ‏والمدافع فيما ارتفعت خيوط الدخان من مقدِّمة رتل الدبّابات المتقدمة، وبشغف وفخر أخذ ‏العريف "تميم" يردِّد: "إصابة دقيقة لثلاث دبّابات"، راح اللهيب يرتفع من غرفة قيادتها‎.‎

‏***‏

‎... ‎اللَّعنة، من أين تأتي كل هذه النيران سيِّدي، لقد فقدنا جزءًا كبيرًا من مدرَّعاتنا التي قطعت ‏الجسر... وأشلاء العسكر باتت تملأ الوادي، أبرَقَ المقدَّم " شلومو" لقائده "عوزي ناركيس"، ‏‏(نريد أن تحمينا الطائرات، سيِّدي الوضع كارثي....)، كان "عوزي" آنذاك يجالس مَن معه مِن ‏الصحفيين ومراسلي وكالات الأنباء الذين وعدوا بأن تكون قهوتهم على مرتفعات السلط، بدت ‏على وجهه المحمرّ ملامح الدهشة والغضب، لم يستطع الردّ على مراسل صحفي وجَّه له السؤال ‏مباشرة: "ما الذي حدث سيادة القائد وأين وعدك لنا؟!"، وراح جهاز اللاسلكي ينقل الأخبار ‏السيِّئة: "لقد بلغ عدد قتلانا أكثر من خمسين جنديًّا سيّدي والساعة لم تبلغ بعد الثامنة صباحًا... ‏إنهم يخرجون من كل حدب وصوب يقاتلون بثبات ولا تستطيع الطائرات أن تلقي حممها على ‏ساحة المعركة، السلاح الأبيض وحده سيدي الآن الذي يحسم المعركة".‏

‏***‏

مدَّ العريف "تميم أحمد" يده إلى جيب معطفه الجيشيّ، أخرج سلسالًا كان قد احتفظ به؛ في داخله ‏صورة ابنته الصغرى "شفق" التي لم تتجاوز الخمسة أعوام بعد، وحين استُدعي على عجل ‏لوحدته العسكريّة ارتمت في أحضانه وخاطبته: "بابا لا تنسَ أن تأتي لي بما وعدتني، فأنا أنتظر ‏عودتكَ بفارغ الصبر..."، كان معها ليوم خلا في السوق وأعجبتها لعبة دُبّ كبير ووعدها أن ‏يشتريها حين يستلم راتبه بعد أيام ثلاثة، ويبدو أنها لم تنسَ الوعد.... طبع قبلة حارّة على وجهها ‏المبتسم في الصورة، وفجأة لمحت عيناه ثلّة من جنود العدوّ على مفترق الطريق المؤدّي إلى ‏الجسر، كانوا يتقدَّمون وهم يطلقون النيران بكثافة، قفز لخندقه الذي أعدَّه لهذه الغاية، اتكأ على ‏حواف أكياس الرمل التي غطّت الخندق، سمّى باسم الله ثم كبَّر وأرخى العنان لبندقيّته، قتل أولهم ‏وأصاب الثاني الذي سقط أرضًا فيما حاول ثالثهم الهرب من وابل رصاصه المنهمر... وفجأة ‏أحسَّ بخيط دم ينساب ساخنًا من جبهته، ثم بدأ كل شيء يختفي من أمام ناظريه، امتدَّت يده ‏رافعة علامة النصر وكان آخر ما لفظ الشهادة، بينما راحت قطرات من الدم تنساب على صدره ‏لتلامس الصورة المثبّتة في الإطار، ثم لم يعُد يرى أو يسمع شيئًا بينما كانت روحه تعانق السماء ‏المنتشية برائحة الشهادة‎.‎

‏***‏

الشمس تتوسَّط كبد السماء فيما راحت خيوطها تلسع الجثث المُلقاة على الطريق الواصل ما بين ‏‏"الغور" و"جسر داميا"، و"عوزي" يتلقّى الصدمة تلو الأخرى فيما راحت الأخبار تَرِدُه تباعًا: ‏‏"فقدنا أكثر من مئة جندي وأكثر من عشرين دبّابة، ما العمل سيدي القائد...؟"، الصمت يطبق ‏على المكان، أخذ "عوزي" يذرع غرفة العمليات جيئة وذهابًا ومن حوله قادة الكتائب ينتظرون ‏منه الأوامر، وبعصبيّة مفرطة يردّ: "سنطلب وقف إطلاق النار الآن، فلا قدرة لنا على تحمُّل ‏المزيد من الخسائر... جيشنا الذي لا يُقهر قُهر اليوم، اتصلوا بأصدقائنا في العالم لمساندتنا وليتمّ ‏الضغط على الملك الحسين ليوقف إطلاق النار"‏‎.‎

‏***‏

ضابط الملاحظة الملازم أوَّل "خضر شكري" يُبرق لقائد الجبهة: "سيدي تمّ محاصرتنا من قوّات ‏العدوّ، سأعطيكم إحداثيّات الموقع الآن وأرجو أن يتمَّ قصف موقعنا حالًا، لن نقع في الأسر ‏سنموت ولكن شهداء...". "من أيِّ صخرٍ قُدَّ قلبكَ يا خضر ابن يعقوب...!"، راح العقيد ‏‏"مشهور" يردِّد وهو يوزِّع نظره في القادة المحيطين به في غرفة العمليّات التي أخذت ترتجّ ‏جرّاء القصف المدفعيّ للعدوّ، فيما كان صوت الملازم "خضر" يتردَّد عبر الجهاز: "أحاط العدو ‏موقعي، ارموا موقعي.. دمِّروا موقعي، إني نلتُ الشهادة في سبيل الله، أرجوكَ سيدي الآن، الآن ‏ليكُن القصف؛ سيموتون جميعًا، وسيكونون قتلى ونكون نحن الشهداء... أرجوكَ سيدي لن ‏أستطيع أنْ أتصل بكُم مرَّة أخرى إنهم يقتربوووون....". وحين راحت مدفعيّة كتيبة "خضر" ‏تدكّ موقعه أقسم بعض الجنود الذين أدركوا الواقعة أنَّ السماء بدت آنذاك تبتسم، وأنهم شاهدوا ‏روحًا مضرجة بالدم كانت تحفّها أجنحة بيضاء صعودًا نحو السماء‎.‎

‏***‏

برقيّة أخرى تصل "عوزي ناركيس" قائد جبهة العدوّ الذي أصبح تمامًا في حالة من الهيجان ‏والغضب هذه المرَّة من قائد سرب الدبّابات "شلومو جروسك": "لقد شاهدتُ قصفًا شديدًا عدة ‏مرّات في حياتي، لكنني لم أرَ شيئًا كهذا من قبل، لقد أصيبت معظم دبّاباتي، سيّدي أوقفوا القتال ‏بأيّ ثمن...". مذعورًا هلعًا خائفًا بدا "عوزي" وهو ينتظر ردّ ملك الأردن على طلب وقف القتال ‏الذي طلبه عبْر الوسيط الدُّولي، لكنَّ الرد لم يتأخّر، فقد كان جواب الملك صادمًا له: "لن نوقف ‏القتال ما زال جندي واحد لكم شرقيّ الجسر، إمّا الموت أو الانسحاب"....  "كلاهُما مُرّ".... راح ‏‏"عوزي" يردِّد، "ولكنَّني أفضِّل الآخر... ماذا تقولون أيها القادة؟؟؟؟"، وبصوت واحد ردَّد الكل: ‏‏"الانسحاب يا سيدي، الانسحاب، فقد خسرنا أكثر ممّا خسرناه في حرب حزيران".‏

‏***‏

ارتفع هتاف الجند الله أكبر مثلما ارتفعت أهازيج تحيّي الحسين الملك، كان الجميع يترقَّب ما ‏يقوله الملك عبر إذاعة المملكة حتى جاء الصوت المجلجل: "يا إخوتي في السلاح يا حصن ‏الأردن الحصين ودرع العرب المتين يا معدن الفخر وينبوع الكبرياء، يا ذخر البلد وسند الأمة، ‏وأصل البطولة والفداء، أحيّيكم تحيّة إكبار لا تقف عند حدّ وتقدير لا يعرف نهاية، وأبعث مثلها ‏إلى أهلي من ذوي الأبطال الذين سقطوا في ساحات الوغى بعد أن أهدوا إلى بلدهم وأمّتهم أنبل ‏هديّة وأعطوا وطنهم وعروبتهم أجزل العطاء، فلقد كنتم جميعًا والله أمثولةً يعزّ لها النّظير في ‏العزم والإيمان، وقمّة ولا كالقمم في التصميم والثبات، وضربتم في الدفاع عن قدسيّة الوطن ‏والذَّود عن شرف العروبة أمثولة ستظلّ تعيش على مرّ الزمان‎ ‎‏".‏

‏***‏

حين بدأت الشمس تنوس في الأفق الغربي، شوهدت أرتال من جيش العدوّ تلمّ خسائرها من ‏الميدان، كانت تجرّ أقدامها جرًّا وتنوء أكتافها بما حملت من الجثث، بينما كان الجانب الشرقي ‏من النهر يشهد ملكًا يحتفل بين جنوده بالنصر على ظهر دبّابة محترقة والزغاريد ترتفع معلنة ‏نهاية أوَّل معركة ينتصر فيها العرب على العدوّ المغتصب، وشوهد جريح يحمل سترته ‏العسكريّة وبتثاقل يكتب بدمه على جدار مدرسة الغور التي ملأها الرصاص ثقوبًا: "إنَّها الكرامة ‏لقد انتصرنا".‏‎ ‎

‏- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -‏

‏(*)‏‎ ‎هذه القصة فائزة بالمركز الأوَّل في مسابقة القوّات المسلحة الأردنية- الجيش العربيّ، ‏بمناسبة اليوبيل الفضّي لمعركة الكرامة‎.‎