الكرامة.. ‏ ‏"أَسْوَد صباح العِدا، يُومٍ عليهم شين"!‏

مفلح العدوان

كاتب وروائي أردني

 

 

 

النَّهر فَجْرًا..‏

والصُبحُ مهيبًا إذْ يتنفَّس نورًا وبهجة بميعاد ساعة الكرامة والدم والبارود، معلنًا ميقات ‏بدء الثأر للبلاد، كلّ البلاد هنا، وأهلها، مع نداء "الله أكبر".‏

آنذاك كان الحادي والعشرون من آذار بكامل بهائه، والنشامى يشقّون دروب النصر تحت ‏لواء عزيمة جيش الحقّ، يتوضّأون قداسة ماء الأردن، يُرَتِّلون "جاء نصر الله والفتح".‏

‏***‏

وكان يوم الوفاء للعهد، وعد أولي الهِمّة، فرسان الكرامة، جنود صدقوا ما عاهدوا الله ‏والوطن عليه، في ألّا يدنّس تراب الأردن معتدٍ غاشم، يقينهم أنهم يسيرون إلى الحرب ‏شهداء أو منتصرين؛ في الأولى "أحياء عند ربهم يرزقون"، وفي الثانية شُمّ الجباه، عزّة ‏وشكيمة ورفعة وطن لا يلين.‏

‏***‏

ها هو نهر الأردن شاهد على أشقّاء النجيع، وعلى مرأى مرآة مائِه يختلط الدّحنون بالدم، ‏فيكون هذا التوق البطولي لأرواح تتّقد "فدوى لعيونك يا أردن"، وتكبيرات الجند تتداخل ‏مع بحّة أهازيج العنفوان أن "ما نخاف الموت حِنّا"، يقينهم أن لا ترويدة تعلو "هبّت النار ‏والبارود غنّى".‏

‏***‏

كان الحال في ذلك اليوم يقينًا بـ"المنيّة ولا الدنيّة"، وأنه "أسوَدْ صباح العِدا يومٍ عليهم ‏شين"، والشاهد غور الأردن، والنهر، والجبال الشمّ، والجباه الشامخة، حين كانت عين ‏شمس نهار المواجهة، تنسج من خيوط نورها تاجَ عزٍّ لسمرة الوجوه التي حملت جغرافية ‏الوطن، كل الوطن، وصارت سورًا من نار على الأعداء، وسِوارَ نُورٍ وعزٍّ على كل ذرّة ‏من حمى الأردن، والسواعد كالطَّوْد ترفع الرّايات والبنادق، وجلجلة المدافع ترمي العدوَّ ‏قذائف "إذا زلزلت" في مواجهة حقد الشرّ، ومؤامرة الصَلَف والغَيّ.‏

‏***‏

هُمْ أولو الحق، جنود الجيش العربي، هذا يومهم، "يوم الكرامة"، ويوم الشعب الأردني ‏معهم، فهي معركة العسكر والشعب، التي تأتلف مع عقد العزَّة والكرامات على ثرى ‏الأردن، جيلًا بعد جيل، مذ كان ميشع يقاتل الأعداء على أسوار ذيبان ويقدِّم ابنه قربان ‏كرامة لهذه الديار، وتكرّ الأعوام، ويتبارك هذا الثرى بنجيع الشهادة قرب ماء عفرا، ها ‏هو وجه فروة بن عمر الجذامي يطلّ بكرامة أوَّل شهداء الإسلام خارج الجزيرة العربية، ‏والدم واحد والبطولة واحدة هنا قرب نهر الأردن، وهناك في كل مساحة ينبض فيها ‏الأردنيون منتصرين لجيوش العزّ ودعوات الحرية والانتصار لكرامة الإنسان، وعلى ‏مرمى الصهيل، هنا درب للبطولة والشهادة تفضي إلى مؤتة بوّابة فتح بلاد الشام، وتمتد ‏شمالًا إلى اليرموك وجنود الفتح يسطرون سجلًا في التاريخ ودم الشهادة والعز التي ترفد ‏الأردن من ماء اليرموك، وكأنَّ نهر البطولات دائم الجريان، ومعه آيات طيبات، ودلالات ‏عظيمات، كلها تشرئب عزًا وفخرًا في الحادي والعشرين من آذار، وكأنَّ هذا اليوم تتكثّف ‏فيه رموز الانتصارات ودلالاتها، وترتفع فيه البيارق عاليًا عاليًا، والأغنية يشدو بها ‏البشر والحجر والشجر: (بيرق الوطن علّا على روس النشامي/ يوم المعادي نعرف كيف ‏نكيد الخصاما) فيردِّد الجنود الأبطال: (حنّا يوم الكرامة يومن جانا المعادي/ بالعزّ ‏والكرامة فزنا يوم الجهادي).‏

‏***‏

النهر ظُهرًا..‏

وشمس آذار تطلُّ على كل مساحة الوطن، قلب واحد ينبض، والجبهة نار على نار من ‏أقصى الشمال حتى جنوب البحر الميت، والأمكنة والبيوت والدروب كلها تنتفض صفًا ‏واحدًا في داميا والسلط والعارضة وغور كبد والشونة الجنوبية والرامة ووادي شعيب ‏وغور الصافي والبلاد كلها قلب واحد لا يلين. ‏

الحادي والعشرون من آذار، والشمس وقت الظهيرة حائرة من أبطال النصر، والنهر يردِّد ‏وراءهم "الله أكبر"، ويستذكر مع "الكرامة" سفر المعارك التي دارت قريبًا منه؛ فحل، ‏وحطين، وعين جالوت، وها هم أبطال "معركة الكرامة" الآن، يستعيدون بهذا الحضور ‏المهيب بطولات معاذ بن جبل، وشرحبيل بن حسنة، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، ‏وضرار بن الأزور، وعامر بن أبي وقاص، وغيرهم، تحضر البطولات على هذه ‏الأرض، ومعها ترتفع هامات أحفاد هؤلاء الأبطال فخرًا من جنود الكرامة في الجيش ‏الأردني. ‏

‏***‏

على هذه الأرض بساط من نسيج النصر والشهادة، وتضاريس تتماهى فيها قمم الجبال، ‏مع هامات الرجال، والورد فيها حين، يحين الحين، يصير شوكًا بوجه الأعادي، والبتلات ‏تصبح دفلى يُسقى من مُرّها الحاقدون. ‏

على هذه الأرض، حِرزٌ بقدر ما هو سهل، بقدر ما هو وعر كما اسم الأردن، نهرٌ، شاقّ ‏المرور، وعر الدروب، شديد المراس.‏

على هذه الأرض، جندٌ من سلالة صهيل مؤتة، وعنفون الكرامة، وفخر اليرموك، ما ‏زالوا أسودًا فوق الأرض، حضورًا، شهودًا، مقاتلين، صامدين، مخلصين، ومَن ارتقى ‏منهم، تبقى مهابته حاضرة حتى في الغياب. ‏

على هذه الأرض، نبض الأردن، ثرى، وبشرًا، وحجرًا، وشجرًا، وذاكرةً، ودمًا، ووردًا، ‏وشيحًا، ومدنًا، وقرى، وباديةً، وأهلٌ ما بردت القهوة في دلالهم، ولا مسّ الضّيم ضيفهم، ‏رحماء بينهم، أشدّاء على مَن عاداهم.‏

‏***‏

النهر مساء الحادي والعشرين من آذار.. ها هو منتشٍ بالنَّصر، وتكبيرات الجنود، تختلط ‏بأهازيجهم، تتداخل مع زغاريد الفرح، وهتافات الشعب لجيشه الشجاع.. وفي الجانب ‏الآخر كان العدوّ يجرّ أذيال الهزيمة والخيبة، منسحبًا من ساحة المعركة، تاركًا معدّاته، ‏وأسلحته، لتبقى شاهدًا على جيش ورثَ رسالة الثورة العربية الكبرى، وبقي على عهد ‏الأحرار الشامخين. ‏

‏***‏

النهر يفيض قداسةً وعزًّا... ‏

كل عام، تذكار يوم النصر والشهادة.. ‏

الحادي والعشرون من آذار، يلتئم شمل الأبطال من جنود وقيادات، يعودون إلى هنا كأنهم ‏في ذاك اليوم من تلك السنة، ويعلوهم تاج البطولة والعزّ، وهالة من أرواح الشهداء الذين ‏يخرجون بأسمائهم من رخام الجنديّ المجهول، يحتفلون بالنصر، دأبهم جميعًا نداء "عاش ‏الوطن"، ونبضهم يستعيد سجلَّ بطولات يوم الأحرار الأبطال.. يوم الكرامة. ‏