"مفاتيح خزائن السَّرد" لسعيد الغانمي قراءة في المشهد السَّردي العربي القديم

‏د. خولة شخاترة

ناقدة وأكاديمية أردنية

 

قرأ الغانمي كنوز التراث السَّردي قراءةً عميقة، وتكشَّفت لديه علاقات جديدة؛ ممّا ‏يعني أنها نصوص متجدِّدة، وكأنَّ كل دراسة تمنحها حياةً جديدة. وفي كتابه "مفاتيح ‏خزائن السَّرد" طبَّق المنهج العلمي وقدّم مفاتيح للباحثين تمنحهم طرائق جديدة في ‏البحث بعيدًا عن النقولات الجاهزة، ومن أمثلة ذلك؛ الردّ على المستشرقين بالحجّة ‏والبرهان، دون افتعال مواقف أو سجالات، وتنبيه الباحثين من النصوص التي حققها ‏بعض المستشرقين والعودة إلى المخطوطات وإعادة قراءتها والبحث عن نسخ جديدة ‏حتى يتمكَّن طلبة العلم من الاطّلاع عليها، والاطمئنان إليها.‏

 

يعود الفضل في كتابة هذه المقالة إلى الشاعر ومدرِّس الفلسفة العراقي علي العطار ‏وإلى الكاتب العراقي أحمد حداد، وهما عضوان في نادي الأدب الحديث، وقد اقترحا ‏عليّ بعض المداخل للتعريف بكتاب "مفاتيح خزائن السرد"(1) للناقد والمترجم الدكتور ‏سعيد الغانمي، فلهما جزيل الشكر.‏

قدَّم الغانمي في مسيرته العلمية والنقدية إلى المكتبة العربية ما يقارب السبعين كتابًا ‏تراوحت بين التأليف والتحقيق والترجمة في مجالات الأدب والفكر والسرد خاصة، ‏ولعلَّ المُطّلع على هذا الإنتاج سيلحظ أنَّ الغانمي صاحب مشروع بحثي ونقدي بدأ ‏العمل به منذ زمن، وتابع العمل في مسارات متعددة للوصول إلى كتابة موسوعة ‏خاصة في السرد العربي القديم.‏

يضم كتاب "مفاتيح خزائن السرد" عشرة فصول؛ كل فصل استقلَّ بذاته صنَّف فيه ‏الغانمي نصًا أو مجموعة نصوص، بحيث يضع كلَّ نص بالمكان الذي يليق به وفق ‏شروط الصنف الذي ينتمي إليه: كرَّس الفصل الأول لمناقشة المصطلحات التي ‏اعتمدها في التحليل، مثل الصنف، المعتمد، اللغة المعيارية، والنخبة الثقافية، والذاكرة ‏الثقافية. أمّا الفصل الثاني فقد عاين فيه حكايات (الأيام) ويقصد أيام العرب بوصفها ‏من أقدم النصوص الشفويّة، درسها ودرس مفهوم البطولة ووأوجه الشَّبه مع الدَّور ‏الملحمي، ثم ناقش مفهوم البطولة في الأدب العراقي القديم قبل جلجامش كنموذج ‏سابق على الحكاية العربية، وحلّل ثلاث حكايات بطوليّة عربيّة، مثل "فناء طسم ‏واحتلال اليمامة" و"حكاية جذيمة والزباء وعمرو" و"حكاية حرب البسوس".‏

في الفصل الثالث انتقل الغانمي إلى الحكايات التاريخيّة التي تدَّعي الموضوعيّة ‏وتروي ما وقع فعلًا، وانتقل إلى السيرة التي استقلّت عن الكتابة التاريخيّة، ثم بيَّن ‏اختلاط السرد التاريخي بالسرد الخيالي في "قصص الأنبياء". ثم خصَّص الفصل ‏الرابع لحكايا الجان بوصفها أدبًا سرديًّا يروى على هامش النصوص الشعريّة ‏وعلاقتها بالعالم السفلي للأموات في النعيم و الجحيم، مثل: رسالة الغفران، رسالة ‏التوابع والزوابع، منامات الوهراني. ‏

أمّا الفصل الخامس فقد درس فيه حكاية الحيوان مع الإشارة إلى أنَّها وُجِدت في أقدم ‏الآداب المعروفة مثل السومرية واليونانية، وطبَّق عليها ما سمّاه الطبقات الزمنية ‏للنصوص، كليلة ودمنة، النمر والثعلب، الصاهل والشاحج، ثم انتقل إلى السيرة ‏الشعبيّة في الفصل السادس التي لم تستخدم اللغة المعياريّة، وأهمّ ما جاء فيها عثور ‏البطل على أداة التسخير السردي مثل طاقيّة الإخفاء، أو الحصان الطائر، التي تسمح ‏للبطل بالانتقال بين العوالم، في حين خصّص الفصل السابع لأدب الحكمة الذي لم يكن ‏مناسبًا للتحليل الصنفي، لذا فقد تناول أصنافًا سردية ذات طابع اجتماعي تهدف إلى ‏توصيل حكمة عامة تكون جزءًا من الثقافة السائدة، وقد بشّر الكتاب المقدس، كما ‏يذكر الغانمي، بمصطلح أدب الحكمة، ثم انتشر في الآداب القديمة. ‏

وأمّا الصنف السردي الأشهر –المقامة- فقد خصَّص له الغانمي الفصلَ الثامن الذي لم ‏يحظَ بالتحليل الصنفي والسردي الذي يستحقه، وهذا الصنف يقوم على تنكُّر البطل ‏وتنكُّر اللغة، وله بنية ثابتة تربط الراوي بالبطل هي: التنكُّر ثم الانبهار ثم الانكشاف. ‏وكتب في الفصل التاسع عن الرواية ملحمة العصر الحديث في القرن الثامن عشر؛ ‏كي تعكس طبيعة حياة المدينة في الغرب، وقد سمح التصنيف السردي الذي اعتمده ‏بالعثور على "صنف الرواية" في نصوص عربية قديمة مثل "ثأر المختار" وهو نص ‏لم يُنشر من قبل و"الرسالة البغداية" و"دعوة الأطباء" لابن بطلان. وأخيرًا توقف في ‏الفصل العاشر عند دراسة النصوص السردية المترجمة والتي نُقلت إلى العربية ‏وتمكّنت من التفاعل معها ومثّل عليها بِـ"مخاطبات الوزراء" إلى العربية ومقدار ‏التغيير الذي حصل عليه حين كتب ابن عربشاه "فاكهة الخلفاء مفاكهة الظرفاء"، كما ‏درس الحكاية الأمثولة كما في "سلامان وأبسال" التي ترجمها حنين ابن اسحاق ‏وتجاوب معها ابن سينا و"حكاية حيّ بن يقظان".‏

طبَّق الغانمي في كتابه نظريات تقرأ النص السردي قراءة ثقافية، وأدبية، وفصل بين ‏الأشكال السردية التي تتشابه فيما بينها ليصنع رؤية تصنّف النص وتضعه في خانة ‏المعتمد الأدبي؛ لأنها قراءة بعيدة عن الرأي المسبق أو الهوى الشخصي، سيّما أنَّ ‏المعتمد نتاج توافق اجتماعي وإقرار من لدن النخب الثقافية -بحسب الكاتب- وهذا ‏الإقرار يتيح لهذه النصوص أن تحظى بدراسة الباحثين فيما بعد بوصف هذه ‏النصوص نصوصًا تستحق الدراسة، لا بل تصبح مصدرًا للإشعاع والتقليد والتوليد. ‏وهذا يعني أنْ نضع النص السردي العربي بمصاف النصوص العالمية التي تستحق ‏الدراسة والخلود والقراءات المتجددة لها، خاصة أنه يحفر عميقًا في دراسة هذه ‏النصوص، وعلائقها مع نصوص أُنتجت في عصور سابقة عليها من الحضارات ‏القديمة في وادي النيل أو ما بين النهرين أو الحضارة اليونانية، ممّا يفضي في النهاية ‏إلى البناء على الدراسة والاستفادة منها وإعادة النظر في كثير من المسلّمات حول هذه ‏النصوص. ‏

لقد عمد الغانمي في محاولته التأصيل للسرد العربي إلى نصوص عربية أنتجها الفكر ‏العربي في مراحل زمنية متعددة وربطها بما أنتجته منطقتنا من نصوص لحضارات ‏سابقة على الحضارة العربية الإسلامية، فهذه المنطقة تعاقبت عليها حضارات متعددة ‏ومن غير المعقول أن نتجاهلها، ومن المناسب وربما المطلوب دراسة التأثر التأثير ‏وبيان التلاقح الفكري أو المثاقفة بين هذه الحضارات والثقافات، سيَّما أنَّ كل نص في ‏رحلته عبر الزمن سواء تمَّ الاطلاع عليه باللغة الأصلية أو الترجمة أو إعادة كتابته ‏بطريقة جديدة، فإنه سيحمل معه بصمات كل مرحلة: اللغة والأسماء وطرائق التعبير، ‏مثل كليلة ودمنة وغيرها من النصوص، سيّما أنه رمّم بعض النصوص، ومهمّته ‏الترميميّة تشبه ما قام به علماء الآشوريات في ترميم نصوص ملحمة جلجامش.‏

الغانمي كما قلت صاحب مشروع وله هدف، وقد طبَّق المنهج العلمي في كتابه هذا، ‏فبدأ من مقدمة الكتاب بتعريف كل مصطلح سيستخدمه وأيّ منهج نقدي سيطبِّق، كل ‏هذا يفيد طالب العلم وكل باحث، فهو يقدِّم مفاتيح للباحثين تمنحهم طرائق جديدة في ‏البحث، بعيدًا عن النقولات الجاهزة، ورشم العمل النقدي، بمقولات نقدية من هنا ومن ‏هناك، وإنَّما التركيز على القراءة العميقة فلا يترك شاردة، ولا واردة تفوته. والأمثلة ‏كثيرة، لعلَّ أبرزها الردّ على المستشرقين بالحجّة والبرهان، دون افتعال مواقف أو ‏سجالات، وتنبيه الباحثين من النصوص التي حققها بعض المستشرقين والعودة إلى ‏المخطوطات وإعادة قراءتها والبحث عن نسخ جديدة حتى يتمكَّن طلبة العلم من ‏الاطّلاع عليها، والاطمئنان إليها: من خلال اللغة، اللهجة، المادة التي تقدّمها.. وغيرها ‏من الأدوات التي يستخدمها المحقق. فما حدث للنسخ المتعدِّدة لمقامات الهمذاني –‏مثلًا- وما طرأ عليها من تدخُّل وتغيير وتبديل، وما أحدثه المستشرقون من تغيير في ‏بعض النسخ أو نسخة الشيخ محمد عبده فيما بعد، دفعت الغانمي إلى البحث عن ‏مخطوطات جديدة بعيدة عن أيدي العابثين، وإعادة ترتيبها وفق سياقات تراعي علاقة ‏كل مقامة من مقامات الهمذاني بما سبقها، ثم توصَّل إلى أنَّ المقامة البصريّة هي أولى ‏المقامات بناء على طبعتي إسطنبول وبيروت، وليس المقامة القريضيّة كما في نسخة ‏الشيخ محمد عبده، والغريب أنَّ هذه النسخ بُنِي على أساسها أحكام نقدية شوّهت ‏المقامة، وعدّتها صنفًا مشوَّهًا من ضروب القصة، بحسب قول الغانمي.‏

أمّا عن العودة إلى الحَفر في نصوص سابقة تسبق النص العربي بسنوات وكُتبت ‏بلغات أخرى سبقت العربيّة، فهذه تفيد الباحث بالدراسات المقارنة إذْ سيجد ضالّته في ‏هذه القراءة التي تفتح آفاقًا جديدة للبحث في العلاقات الثقافية والتأثر والتأثير ‏والتثاقف. مع الإشارة إلى أنه تناول بالدرس بعض النصوص المكتوبة أو المرويّة ‏شفاهًا في حين تغاضى عنها آخرون لأسباب تعود -في ظنّي- إلى أنَّ عدَّتهم البحثيّة ‏ربّما تخونهم إذا ما قاربوا هذه النصوص، وهم بحاجة إلى أدوات جديدة للنَّظر فيها، ‏ومناهج جديدة تقودهم إلى المفتاح أو الزاوية المناسبة التي ينفذون منها لدراسة هذه ‏النصوص. هذا من جانب من جانب آخر ربَّما هناك معايير حكمها هذا الباحث أو ‏ذاك: دينية أو أخلاقية أو لغوية وبالتالي حكم عليها حكم قيمة ولم يتناولها.‏

يعود الغانمي في كتاب مفاتيح خزائن السرد إلى نصوص عربية قديمة، كالأخبار، ‏والتراجم، وحكايات الرؤيا كتب عنها وحوْلها في كتب سابقة منها مثلًا حكايات ‏الحالمين التي وردت في الفَرَج بعد الشدّة للتنوخي، وحدائق الأزاهر لابن عاصم ‏الأندلسي، وفي ألف ليلة وليلة، فحللها في كتاب "الكنز والتأويل"(2)، ثم عاد إليها في ‏‏"خزانة الحكايات"(3) ودرس علاقتها بـ"الخيميائي" لـ"باولو كويلو"، التي نالت جائزة ‏نوبل، ثم عاد إلى بعض النصوص التي درسها في "خزانة الحكايات" ودرسها ضمن ‏المحدِّدات التي ذكرها في المقدمة حين توقف عند المعتمد الأدبي وعند الصنف. وكذا ‏الأمر بالنسبة لنص بلوقيا؛ فقد درسه وعلاقته بألف ليلة وليلة في "الكنز والتأويل" ‏وتابعه في هذا الكتاب بعد العودة والاطلاع على نسخ جديدة من مخطوطات البحر ‏الميت ونصوص وسيطة بين ملحمة جلجامش ونصوص صغدية مانوية، إضافة إلى ‏ما ورد في ألف ليلة وليلة، التي دفعته للقول إنَّ بلوقيا تحمل عدد من أوجه الشَّبه مع ‏‏"ملحمة جلجامش".‏

أمّا منامات الوهراني فقد درسها في "خزانة الحكايات" وفق تصنيف "باختين" للحكاية ‏المَرحة أو الحواريّات المَرحة. في حين تناولها في هذا الكتاب بالإشارة إلى المعتمد ‏الأدبي الذي يرفض السخرية فتهبط بأسلوبها إلى مستوى العامي والشعبي. لكنَّ الغانمي ‏يجعل من السخرية التي يرفضها المعتمد الأدبي مدخلًا للدراسة ويصل إلى نتيجة أنَّ ‏هذه السخرية عند الوهراني تماثل "الأمثولة في النص الفلسفي". فالسخرية -والكلام ‏للغانمي- تستخدم العالم الغائب المثالي للاستخفاف بالعالم الحاضر المدنَّس وبيان ‏تناقضاته.‏

أخيرًا، لقد قرأ الغانمي التراث السردي قراءة عميقة، بعد الاطلاع الواسع على ‏دراسات ومناهج وعلى مخطوطات جديدة، وتكشَّف لديه علاقات جديدة مع نصوص ‏عربيّة وغير عربيّة، وهذا يعني فيما يعنيه أنها نصوص متجدِّدة، وقابلة للدراسة من ‏جديد، وكأنه يمنحها في كل دراسة حياةً جديدة، فيصبح للنص حيوات متعددة. لقد غنم ‏المفاتيح، وكان سعيدًا بالكنوز السرديّة والمعرفيّة. ‏

 

‏* الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ مفاتيح خزائن السرد: مدونة المعتمد الأدبي والتحليل الصنفي في السرد العربي القديم، ‏سعيد الغانمي، دار الرافدين، بغداد، 2021.‏

‏(2)‏ ‏ الكنز والتأويل: قراءات في الحكاية العربية، سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، ‏بيروت، 1994. ‏

‏(3)‏ ‏ خزانة الحكايات، سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2004.‏