قراءة في "حجر الصّبر" ‏ للأفغاني عتيق رحيمي

قراءة في "حجر الصّبر" ‏

للأفغاني عتيق رحيمي

الوقائع ليست كما تُقال.. والحقائق ليست كما توصف..‏

منال حمدي

كاتبة أردنية

 

كتب رحيمي هذه الرِّواية بأسلوب شيِّق، واستخدم المونولجات الداخليّة في عملٍ بدا وكأنه ‏مونودراما مسرحيّة ببطولة فرديّة (الزوجة)، وجاءت لغة الرِّواية بجمل قصيرة جميلة ‏جعلت من السَّرد في بعض المواضع أشبه بقصيدة النثر. لكنّ كاتبة هذا المقال تتساءل: ‏هل ستمكث هذه الرواية في الوعي الإنساني بوصفها عملًا إنسانيًّا خالدًا؟ وهي ترى أنَّ ‏الرواية تسرد قيمة مبتسرة أو مجتزأة ترتبط بالراهن الضيِّق المنقطع عن سياقه الحضاري ‏والتاريخي. ‏

في كلِّ زمان ومكان يتواجد قبو وبهو. وكلاهما برغم المَعنَييْن المتعاكسيْن في الكلمتين إلّا ‏أنَّهما مفتاح واحد لكلِّ ألم وأمل. وكلاهما أقنعة لفرح أو ترح. أقنعة تبهرنا، وهي تكشف ‏عن عجزنا مع كل محاولة فرار مِنّا؛ من عوالمنا، من محيطنا، عقائدنا، تقاليدنا، وكل ما ‏ضاع وفقدناه في ثنايا ذلك الفرار. ‏

في حزننا نجلس في بهو مفتوح، وفي فرحنا نجلس في قبو منغلق علينا. تختلط علينا ‏المفاهيم كثيرًا كما المعتقدات كما الدراما المنظورة بالصَّوت والصورة والمكتوبة بالحبر ‏الأسود والتي تُمارَس على عقولنا بهدف تنميطها لتصبح خادمًا مخلصًا لأفكار مُمنهجة، ‏لنصبح محتوى فارغًا، تكاد تشغله أحداث كثيرة، إلّا أنَّها هلاميّة لا معنى لها ولا هدف ‏منها، ورائحتها كالبارود. وهؤلاء هم الذين يكتبون، وما زالوا يكتبون؛ حواسنا الهدف ‏وممارساتنا الأساس.‏

حين تبدأ بقراءة رواية الكاتب الأفغانيّ الأصل وفرنسيّ الجنسيّة عتيق رحيمي، الحائز ‏على جائزة غونكور الفرنسية عام 2008،‎ ‎تثق أنكَ عدتَ إلى زمن الجليد والتجمُّد ‏والخوف من ذوبانه، ثم انسياله لئلّا تسقط فيه. يبدأ الكاتب من صفحته الأولى بوصف ‏الغرفة التي تحتوي على أثاث بسيط مكوَّن من ستائر رُسم عليها طيور مهاجرة، وكأنها ‏دالّة على التشتُّت بين الطمأنينة والرَّهبة ممّا يحدث خلف النافذة، والجدران، والباب. ‏

ثمة امرأة شابة تجلس بجانب رجل طريح الفراش معلّق فوق رأسه كيس يحتوي على ‏مصل من الماء المُحلّى المُملّح. وفي فمه أنبوبة؛ فيبدو كأنه أبكم وأخرس، فاقد لقدرته ‏على الحركة، بل تكاد لا تعلم إنْ كان يتألّم! كل ما ينمّ عن الحياة فيه هو تلك العينان اللتان ‏تخضعان لرقابة مشدّدة من المرأة (زوجته) الممسكة بمسبحة سوداء، تسبِّح بها على إيقاع ‏تنفُّس زوجها، بل إنّ أنفاسها أصبحت مضبوطةً على إيقاع أنفاسه. انتبهت أنَّ عينيه كانتا ‏في كل مرَّة تجولان في مكان ما من الغرفة. ‏

المسبحة التي تتساقط حبّاتها بانتظام بين يديها تصبح هي الحدث، والزمان، والمكان، ‏والوقت، والصبر، والانتظار، وعدد الساعات، والدورة الكاملة لتسع وتسعين حبّة تردِّد ‏على إيقاعها اسمًا من أسماء الله الحسنى. وفي كل مرَّة تختار اسمًا تدعو به الله كي يشفي ‏زوجها، وربما أرادت أن تُسمعه صوتها وهي تدعو له. وعلى إيقاع تسابيحها كانت ‏تحسب أوقات الصلاة التي تتبعها خطبة المُلّا الذي يعتبر يوم الثلاثاء يومًا داميًا لأنّ حواء ‏نزفت فيه دمًا نجِسًا (الحيض)! وأحداث أخرى وقعت في هذا اليوم ما جعله مكروهًا.‏

الرجل الملقى على السرير في يده اليمنى إبرة مغروزة متَّصلة بأنبوب، وفي بنصر يده ‏اليسرى محبس زواج "ذهبيّ"، على الرغم من أنه فردٌ من الجماعات الدينية المتشدِّدة التي ‏تقتل بلا هوادة، ومن المعلوم تحريم لبس الذهب للرجل. ‏

من سيرة هذا الرجل الغريب كما تسردها الرِّواية، نفهم أنه يحمل تناقضات كثيرة، ربما ‏في ردود أفعاله وتصرُّفاته، فهو ذاته الذي أرسل خنجره (ذاك المعلّق على الحائط) إلى ‏عروسه في ليلة زفافه مع صورته نيابةً عن حضوره الشخصيّ؛ إذ إنّ وجوده بين أفراد ‏جماعته في تلك الليلة كان أمرًا أكثر أهميّة من حضوره لزفافه. ودام غيابه ثلاث سنوات.‏

تلك الجماعة التي اتخذت من الدين غطاءً للاستئثار بالسلطة كان لها قراءة انتقائيّة ‏ذكوريّة للنصوص الدينيّة؛ قراءة ترسِّخ صورة نمطيّة للمرأة تتجلّى في دونيّتها ونجاسة ‏جسدها من جانب، وتخدم في تحريض الناس على القتال من جانب آخر، فالمُلّا يصف ‏يوم الثلاثاء بالنَّجِس لأنّ حواء حاضت فيه! كما أعلن على المَلأ بعد رفع الأذان أنّ ‏الأربعاء يوم مشؤوم فيه أُغرق فرعون وقومه وأبيد قوم النبي صالح وعاد وثمود، وعليه ‏فلا تصحّ فيه الحجامة ولا الأخذ ولا العطاء، غير أنَّ حديثًا لابن يونس يقول بجواز ‏الجهاد فيه. ومع انتهاء الخطبة طلب الملّا من الجميع أن يأتوا إليه ليأخذوا السِّلاح الذي ‏يعني الشَّرف والعشيرة والدَّم. والمُلّا هنا هو شيخ يقتدي به الآخرون وله الصلاحيّة ‏المطلقة في إصدار الفتاوى والتشريع والأحكام، أي أنّه قدوة، فإنْ كانت القدوة تتَّصف ‏بهذه الصفات فكيف للمجتمع الذي يتبعه؟!‏

تلك الجماعة التي تجتهد بإصدار الأحكام ومحاكمة الأفراد وسَنّ القوانين المشرعنة، هي ‏نفسها الجماعة التي تركت الزوج مصابًا على حاله دون أن يمدّ أحد أفرادها يد العون ‏والمساعدة له ولعائلته، بل إنَّ زوجته كانت تخبِّئة خوفًا عليه منهم خلف الستارة الخضراء ‏التي تحجب بينها وبين الحياة، كما تحجب زوجها عن أعين الجماعة، وعندما اقتحموا ‏عليها منزلها اضطرَّت أن تخبرهم بأنها تبيع لحمها لتكسب قوت عيشها؛ لكي تمنعهم من ‏اغتصابها!! فهم لن يغتصبوا مومسًا، وسيغتصبون عذراوات كلما سنحت لهم الفرصة. ‏وعلى الرغم من هذا وجدت نفسها مضطرَّة لمعاشرة مسلَّح بعمر الثامنة عشرة عامًا، ثم ‏قدَّم لها مالًا لم تأخذه. ‏

 

دلالة العنوان

في الصفحة 13، تقول بطلة الرواية مخاطبة زوجها: "قالوا لي إنه في ظرف أسبوعين ‏بإمكانك أن تتحرَّك، أن تعطي إشارات... لكن ها نحن في الأسبوع الثالث... أو تقريبًا، ‏ولا شيء دائمًا".‏

ولا شيء دائمًا! إلّا أنّها وبسبب عينيه اللتين تراهما في كل مرَّة تنقلان النَّظر من اتجاه ‏لآخر، فإنها كانت تدرك تمامًا أنّه يسمعها، ويسمعها جيدًا. تقول في الصفحة 61: "لأنني ‏بتُّ أمتلك جسدكَ من الآن فصاعدًا، وأنتَ تملك أسراري. أنتَ هنا من أجلي. لا أدري إن ‏كنتَ تستطيع أن تراني أو لا، لكنني واثقة كل الثقة من شيء واحد، وهو أنك تستطيع أن ‏تسمعني، تستطيع أن تفهمني. من أجل هذا أنتَ ما تزال على قيد الحياة، نعم. أنتَ حيّ من ‏أجلي، من أجل أسراري". ومع ذلك كانت مع كل حديث تشتمه وتصفه بالعاجز، ربَّما ‏ترسّخ في ذهنه استفزازها المتكرِّر له من أجل تلك اللحظة المُنتَظَرة.‏

ومن هنا؛ من ثنائيّة البَوْح والصَّبر، جاء اسم الرواية (حجر الصبر) والذي يحتمل ‏دلالتين؛ الدلالة الأولى هي دلالة الحجر الأسود الذي يصغي لِما يقوله الناس له فيتخلّصون ‏من آلامهم (بحسب الخرافات)، وكان والد زوجها قد حدَّثها عن الحجر الأسود فقال: "كان ‏هذا الحجر مقعدًا لآدم... لكن بعد أن طرد الله آدم وحواء إلى الأرض، أنزله لكي يتمكَّن ‏أبناء آدم من أن يكلِّموه عن مَشقاتهم وعذاباتهم... وهذا الحجر نفسه الذي قدَّمه جبرائيل ‏لهاجر وولدها إسماعيل كمخدّة بعد أن أبعد إبراهيم الجارية وولدها إلى الصحراء... نعم، ‏إنه حجر لكلِّ مصائب الأرض. إذهبي إلى هناك، بوحي له بأسرارك إلى أن ينكسر... إلى ‏أن تتخلّصي من ألامك"(ص62)، فكان جسد زوجها المسجّى هو ذلك الحجر بالنسبة لها.‏

والدلالة الأخرى حين جعلت البطلة من هذا الزوج حجرَ صبرها، إذ إنَّ هذه الشابة قرَّرت ‏أن تشي له بأسرارها. هذه الأسرار التي جعلت منها كبش فداء لحريَّتها وخلاصها.‏

 

انثيال الأسرار

يقول الراوي على لسان الزوجة في صفحة 28: "منذ قليل كان المُلاَّ هنا. جاء من أجل ‏اجتماعنا للصلاة. بحتُ له بأنني لم أعُد طاهرة منذ البارحة وقد جاءني الحيض، مثل ‏حواء. لم يعجبه ذلك. ولم أفهم لماذا. ألأنني تجرَّأت على التشبُّه بحواء، أم لأنني حدَّثته ‏عن حيضي؟". لقد كذبَتْ عليه في حيضها، وربطَتْ ما قالته للمُلاّ بلقائها الأوَّل مع ‏زوجها بعد ثلاث سنوات من زفافها وكانت حائضًا، وظنّ رجلها أنّ هذا الدم دليل على ‏بكارتها، وهي في الواقع كما جاء على لسانها: "إنَّ فكرة تمرير الدم النجس على أنه دم ‏بكارة فكرةٌ مبتكرةٌ".‏

ها هي الأسرار بدأت تنثال من شفتيها، في بوح جريء مشحون برغبات دفينة، ويقترب ‏من الهذيان أحيانًا. وكلَّما فتحت باب سرٍّ آخر كلما قصُر عمرها وطالت تفاصيل حكايتها. ‏لكنَّ الزوج المسجى مثل جثّة كان حجرها الصبور الذي يسمعها حتى النهاية. ربَّما يعتقد ‏مَن يقرأ هذه الرواية أنّ الرصاصة في رقبة الزوج شلّت حركته فعلًا، وعطّلت حواسه، ‏ولكنه في الواقع يستمع إلى الزوجة بكل جوارحه وهي تكشف أسرارها الواحد تلو الآخر ‏من منطلق شرقيّته التي ستحيل حياتها إلى رماد.‏

وهذا ما تصرِّح به في الصفحة 64: "سأقول لكَ كل شيء، يا حجر صبري، كل شيء. ‏إلى أن أتخلّص من عذاباتي، من مصائبي، إلى أن تـ...أنت". وفي الصفحة ذاتها تقول: ‏‏"ستحصل دوريّات، من المعسكر الآخر، أظنّ، هذه المرّة، إنهم يفتشون كل المنازل.. ‏يجب ألا يجدوك... سيُجهزون عليكَ هذه!"، وتكمل: "لن أدعهم! أنا بحاجة إليك الآن، يا ‏حجر صبري!".‏

وفي كل مرة تفتح باب موت آخر لها بانثيال أسرار جديدة كانت تبدِّل كيس الحقن (المُملّح ‏المُحلّى). ثم تتابع سردها عن أمِّه التي كانت تصفها بالعاقر لأنها لم تُنجب وتحثّه على ‏الزواج من أخرى. ولتتجنَّب الزوجة ذلك لجأت إلى عمّتها (بائعة الهوى) إذ إنَّها (العمّة) ‏كانت عاقرًا، فأرسلها زوجها إلى الريف لتخدم والديه بل واغتصبها والد زوجها وظلّ ‏على هذه الحال حتى فاض بها، فهشّمت جمجمته، لتُطرَد ولتصبح على ما هي عليه.‏

تكمل سردها وتفتح الباب مشرّعًا على سرٍّ من أسرارها. ثم تمعن في إيذائه وصدمه، ‏وكسر دفاعاته، بل وتهشيمها عندما تخبره بأنه هو العاقر الذي لا ينجب! وأنّ ابنتيه ليستا ‏منه، ثم تسترسل بالحديث دون توقُّف وتخبره عن الحلول التي قدَّمتها لها عمّتها ‏بمضاجعة المشعوذين من الرِّجال مرّة ومرّة ومرّة لتنجب له، لتتخلَّص من كابوس الطلاق ‏إلى الأبد. ليس لأنها تحب زوحها، بل لأنَّ المجتمع سيحاكمها..‏

تحدِّثه كيف التقت بالعمّة بعدما طُردت وظنَّ الجميع أنها ماتت. ثم تشعر بالجوع فتقطع ‏الرواق إلى المطبخ وتتناول بصلًا وقطعة خبز متيبِّسة، وتستأنف حديثها عن مدى حبّ ‏عمّتها لها وحبّها لابنتيها، ثم تضع قطعة بصل على خبز جاف وتجرع الماء الذي ‏وضعته لترطِّب به عيني زوجها.‏

تتابع حديثها دون توقُّف. تخبره عن أحوال عائلتها التي تتكوّن من سبع فتيات ولا يوجد ‏بينهنّ صبيّ واحد! وتتبع حديثها بلقمة جديدة من قطعة بصل وكسرة خبز. تُتابع الحكايات ‏والأسرار كما شهرزاد، تخبره القصة تلو الأخرى. تسرد له حكاية روتها جدَّتها عن ابنة ‏الملكة التي تتزوج من أبيها الملك. ‏

تأكل قطعة خبز وقطعة بصل.‏

تحدِّث زوجها عن احتقارها لأمِّه واحترامها لأبيه الذي اتَّهموه بالجنون لأنه امتلك الحكمة ‏والذي تقرَّبَتْ منه "بكثير من الخشية" بسبب ما حدث مع عمَّتها وما عانته من والد ‏زوجها، وفي اللحظة ذاتها تشعر أنها مسكونة بعمَّتها، وأنّ هناك شعورًا مهيجًا يسيطر ‏عليها بأن تعيش الرّغبة التي عاشتها عمّتها. تأكل ما تبقى من طعامها الجاف. تبتلع اللقمة ‏بصعوبة. ثم تطفئ القنديل وتنام.‏

في نهاية الرواية يتعاظم إحساس الزوجة باقتراب لحظة النهاية، لحظة الموت. فاقتربت ‏من خشوعها أكثر، ومن مؤانسة إحساسها بدم بدأ يجفّ من جسدها للتوّ. وبصوت مرتاب ‏تقول في صفحة 108: "إذا كان كل دين هو حكاية كشف، كشف حقيقة، فإنَّ حكايتنا ‏نحن، يا حجر صبري، هي دين أيضًا. ديننا نحن! تُمسي..."، نعم، إنّ "الجسد هو كشفُنا" ‏فالعجز لا يكمن في الجسد والأطراف واللسان العاجز عن النطق، فالمرأة/ الزوجة هنا ‏قامت بكل ما يلزم لرجل كانت متأكدة أنه سيصحّ وكانت تستدرجه للنهوض على قدميه. ‏تستدرجه بإغاظته على الدوام من خلال اعترافاتها التي صعقته مرارًا وتكرارًا. العجز ‏الحقيقي في العقل والنهج والمنطق والأسلوب، وهمجية التعامل، والتقليد الأعمى الذي ‏يجعل من المُلّا قاتلًا. ‏

 

التماهي مع الإهداء

أخيرًا نجحَتْ. فنهضت وكشفت الستارة. تلك التي كانت تحجبها عن الحياة. ‏

فتحت الستارة حتى آخرها. ثم أرادت أن تكمل إلا أنَّها لم تستطع إكمال ما ستقوله. فهناك ‏يدٌ أمسكت بها من الخلف، يد رجلها. فقد وقف بجسارة وقوّة دبّت بكل جسده.‏

أمسك بشعرها وضرب رأسها بالحائط. تقول له وهي تنازع الموت (ص109): "قضي ‏الأمر.. إنكَ تنفجر". تمامًا كالحجر الأسود الذي أخبرها عنه والد زوجها عندما قال: ‏‏"بوحي له بأسرارك إلى أن ينكسر... إلى أن تتخلّصي من آلامك".‏

وهنا يتماهى الحدث مع الإهداء الذي كتبه رحيمي في بداية الرِّواية، حيث ذكر أنّ الرواية ‏كُتبت لذكرى الشاعرة الأفغانيّة "ناديا أنجومان" التي قتلها زوجها بوحشيّة في العام ‏‏2005، ووضع رحيمي استهلالًا على لسان الشاعر والمسرحيّ الفرنسيّ "أنطونين ‏أرتو"، يقول فيه: "للجسد، من قبل الجسد، مع الجسد، من الجسد، وحتّى الجسد"، لكنَّ ‏الكاتب -وفي مفارقة منه- أظهر هذا الموت في الرِّواية على أنه نجاحٌ وانتصار، حين ‏نجحت المرأة القتيلة (الزوجة) في جعل حجر صبرها (الزوج) ينفجر... لربَّما كان هذا ‏النصر والنجاح في الرِّواية هما المعادل الموضوعي للألم والظلم والخسارة على أرض ‏الواقع.‏

‏***‏

كتب رحيمي هذه الرِّواية بأسلوب شيِّق، واستخدم المونولجات الداخليّة في عملٍ بدا وكأنه ‏مونودراما مسرحيّة ببطولة فرديّة (الزوجة)، وجاءت لغة الرِّواية بجمل قصيرة جميلة ‏جعلت من السَّرد في بعض المواضع أشبه بقصيدة النثر. ‏

هذا العمل امتدحه العديد من الكُتّاب والنقّاد، وأتوقع أنّ جمهوره الغربي كان الأكثر إعجابًا ‏به لأنه يطّلع من خلاله على أسرار مجتمع الحريم في مجتمع شرقي مغلق؛ فالرواية ‏تكشف عن نظرة المجتمع للمرأة باعتبارها جسدًا يتملّكه الرجل في مجتمع بطريركي ‏ينظر إليها ككائن ضعيف وناقص، وتكشف أيضًا عن قمع وعنف السلطة الذكورية، لكنّ ‏الكاتب اختزل حضارة شعب كاملة في سرديّة كانت بؤرتها المجتمع الذكوري واضطهاد ‏المرأة والجماعات المسلحة التي تتخذ الدين غطاءً للاستئثار بالسلطة، وتحرِّكها مصالح ‏سياسية عُليا. ‏

هل هذا كل ما يمكن أن يُقال عن المجتمع الأفغاني في عمل روائيّ؟ أم أنّ الكاتب المولود ‏في كابول والذي يعيش في فرنسا منذ عام 1984 يتحدَّث عن بُعد، ويقول ما ينبغي أن ‏يُقال، وما ترغب به الذائقة الغربيّة تاركًا ما لا ينبغي التطرُّق إليه؟ فهذه الدولة التي تقع ‏في قلب القارة الآسيوية، تعاقبت عليها حضارات عديدة منذ ثمانية آلاف سنة، ومنذ عقود ‏قليلة كانت تزخر بشواهد التحضُّر والتمدُّن والعراقة، وما يجري حاليًا ما هو إلا حالة ‏طارئة للنيل من عراقتها، ولعلَّ مَن تخرّجوا في أعرق كليات الطب والمسرح والفنون ‏الجميلة في كابول –على سبيل المثال- ما زالوا أحياء ويشهدون على زمن مختلف، وهو ‏زمن ليس ببعيد كانت فيه المرأة تخوض غمار مجالات الحياة العصريّة في العمل ‏والدراسة بشكل طبيعيّ.‏

هذه الرواية التي فازت بجائزة مرموقة وتحوَّلت إلى فيلم سينمائي عام 2012 تدعونا ‏للتساؤل: هل ستمكث في الوعي الإنساني بوصفها وعيًا إنسانيًّا خالدًا؟ هي سردٌ لحالة ‏تحدُث، نعم تحدُث بمرارة وألم، لكنَّها مبتسرة أو مجتزأة ومرتهنة إلى واقع ضيِّق منقطع ‏عن سياقه الحضاري والتاريخي، فالوقائع ليست كما تُقال.. والحقائق ليست كما ‏توصف..‏