تيري إيجلتون في كتابه "الإرهاب المقدَّس"‏ ‏(الإرهاب صفعة في وجه الرأسماليّة البغيضة)‏

 

علي شنينات‎ ‎

كاتب أردني

 

في كتابه "الإرهاب المقدَّس" يتبنى "إيجلتون" موقفًا على نقيض من الرأسماليّة، ‏ويصفها بالراعية للإرهاب والحاضن الأمين له، ويؤكِّد أنَّ المجتمع الرأسمالي مزيجٌ ‏من المثاليّة والشكوكيّة، من الملائكي والشّيطاني، يخفي سباقه من أجل الأرباح خلف ‏معتقدات ورعة وجليلة، ويرى أنَّ هذا الوضع ليس واضحًا في أيّ مكان كوضوحه في ‏الولايات المتحدة، موطن الحماسة الدينيّة المتوهّجة، وموطن السَّعي الدنيء إلى الرّبح ‏المادي.  ‏

ما هو الإرهاب؟ وأين ومتى بدأ؟ وما أصل المصطلح؟ وما هي دوافعه؟ وكيف يمكن ‏أن يكون الإرهاب مقدّسًا؟ وما هي تمثيلاته؟ وهل ثمة علاقة بين الإرهاب والعقل؟ ‏بين الإرهاب والدولة أو المؤسسة؟ بين الإرهاب والحرية المطلقة؟ وما هي العلاقة ‏بين الإرهاب واللاهوت المقدّس والسامي؟ ما مدى تورُّط الرأسمالية في إنتاج ‏الإرهاب؟

كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير يحاول "تيري إيجلتون" الإجابة عنها في كتابه ‏‏"الإرهاب المقدَّس" والذي ترجمه أسامة إسبر وصدر حديثًا عن "دار خطوط للنشر ‏والتوزيع". و"تيري إيجلتون" هو منظِّر أدبي بريطاني، وناقد، ومفكر عام، وهو حاليًا ‏أستاذ في قسم الأدب الإنجليزي في جامعة لانكستر، وصاحب كتاب "النظرية ‏الأدبية"، ومن أبرز ناقدي ما بعد الحداثة، ويتأثر تفكيره بالماركسية والإيمان ‏المسيحي.‏

يقدِّم "إيجلتون" في هذا الكتاب رؤاه "الميتافيزيقية" حول الإرهاب، وهي رؤى ‏جيوسياسية في الحقيقة لأنه يقدم اعتذارًا مبطنًا في مقدمة الكتاب لليسار السياسي في ‏بريطانيا لأنه الخبير جدًا بالقوى الإمبريالية وحرب العصابات -كما يقول- ويهدف هذا ‏الكتاب إلى إغناء لغة اليسار وتحدي لغة اليمين، لأنه يفسِّر تأويلات لغة اليسار حول ‏ظاهرة الإرهاب وما ينتج عنها بدءًا من الشعائر القديمة، مرورًا بعلم اللاهوت ‏القروسطي، إلى السامي في القرن الثامن عشر، وانتهاء باللاشعور الفرويدي.‏

يذهب الكاتب إلى أنَّ الإرهاب قديم قدم الإنسانية، فقد كان البشر يسلبون ويقتلون ‏بعضهم بعضًا منذ فجر التاريخ، غير أنَّ كلمة "إرهاب" أوَّل ما ظهرت خلال الثورة ‏الفرنسيّة، وهي تسمية حديثة لظاهرة قديمة، وظهرت هذه الكلمة في سياق مصطلحات ‏ثورية فرنسية، وتعني أنَّ دماغكَ قد غُسل وبأنكَ تتبنّى مذهبًا مفخّمًا مستوحى من فعل ‏القتل الصّرف. وعلى نحو متصل يرى الكاتب أنَّ الإله "ديونيسوس"؛ إله الخمر عند ‏الإغريق، هو أقدم القادة الإرهابيين، ذلك أنَّ إله الخمر والحليب والعسل هو أيضًا إله ‏دمويّ لأنه يؤدّي إلى الإفراط في شرب الخمر، وهو متوحش ومفترس لمن يخالفه، ‏ويملك قوة الرَّدع الفتّاكة، إلى جانب صفاته التي تؤدّي إلى الإغواء، فإذا كان له سحر ‏التلقائيّة واللذة الظاهرة، فإنَّ له وحشيّته اللاعقلانية الباطنة، لأنَّ ما يحقق النعيم يغوي ‏بالقتل أيضًا.‏

يجسِّد "ديونيسوس" نصف وحشٍ ونصف إله -كما يراه "إيجلتون"- فهو بذلك صورة ‏معبِّرة عن البشريّة، عن الكائن المتناقض الذي هو أكثر أو أقل من ذاته، فإمّا يفتقر ‏إلى شيء ما، وإمّا يمتلكه بإفراط، ويرى أنَّ كلًا من الآلهة والوحوش خارجون على ‏القانون، ذلك لأنَّ الوحوش تعيش خارج نطاق القانون عبر براءتها غير الأخلاقية، أمّا ‏الآلهة فتُعدُّ فوق القانون حال تنفيذه لأنها قادرة على أن تؤكد تحرُّرها من القانون عبر ‏تعطيله المؤقّت، وهو الأمر الذي يفعله المجرم بطريقة مختلفة. ويرى الكاتب أنَّ ‏المشرِّع يشترك في كثير من الأمور مع منتهك القانون، فهو يتفق بذلك مع "هيجل" ‏الذي يرى أنَّ التاريخ صيغ من خلال سلسلة متعاقبة من المشرِّعين الأقوياء، اضطروا ‏إلى انتهاك الحدود الأخلاقية لأزمنتهم لأنهم كانوا في عربة التقدُّم التي لا يمكن إيقافها.‏

بهذا الطرح الذي يطرحه "إيجلتون" فهو يؤكد أنَّ الإرهاب والعنف الذي يحدث باسم ‏الدين أو دفاعًا عن الإله بشكل أو بآخر، إنما هو نتيجة حتميّة لهؤلاء الضعفاء -‏المواطنون الطيبون- الذين يخاطبون إلهًا صامتًا لا يجيبهم على استفساراتهم حين ‏يسألونه الأسئلة البديهية: هل أنت راضٍ عنّا؟ متى نكون قد فعلنا ما يجعلك تحبّنا؟ هل ‏تطلب منّا مزيدًا من الأفعال لكي نتبعها؟ ما الذي يدفع إلى الخلاص؟ كل هذه الأسئلة ‏وغيرها الكثير ممّا ليس لها إجابة مباشرة مقنعة، أمام غموض الهدف الذي يرمي إليه ‏الإله.‏

ثمّة آراء فلسفية عديدة -يوافقها "إيجلتون"- تنظر إلى النفس كنوع من الهاوية أو ‏اللانهائية، حيث أنها سامية في أعماقها التي لا تُسبر، وما من شيء أكثر بعثًا على ‏الدوار من الحركة التي يحاول بها الذهن -دون جدوى- أن يقبض على نفسه. وهكذا ‏فإنَّ مصدر الإرهاب الحقيقي في قلب الواقع هو النفس الإنسانية، التي هي نوع من ‏العدم. ولأنَّ الأصولي يخشى ذلك الصّدع الكامن في الوجود، فهو يحاول رأبه بقيمٍ ‏مطلقة ومبادئ متشدّدة، وهو يجازف بفعله هذا بإطلاق نوع آخر مختلف من ‏الإرهاب. وعلى هذا الأساس يقول "إيجلتون": ليست المسألة هنا منح "أسامة بن لادن" ‏مقعدًا في البرلمان، وإنَّما منح العدالة لأولئك الذين يمكنهم بطريقة أخرى أن ينفّذوا ‏انتقامًا مريعًا، فالعدالة هي الواقي الوحيد من الإرهاب.‏

على غرار ذلك يرى الكاتب أنه لا يجب الإفراط والتّوحّش لهذه العدالة، وبأنَّ على ‏الآلهة أو القانون أن يرتفعا فوق الانتقام البشري، وإنما هي مسألة تحقيق تكافؤ أو ‏تبادل مُنصِف، ونبذ الفائض في العقاب أو التفاوت بين الجُرم والجزاء. إنَّ الوصيّة ‏التّوراتيّة التي تقول: العين بالعين والسّن بالسّن، غالبًا هي نموذج للانتقام البدائي، ‏وتحثّ المُعتدى عليهم على إنزال عقوبات معادلة للجرائم، وإنَّ الرحمة هي الجديرة ‏بأن تكون مفرطة وليس العدالة. إنَّ قانونًا مشرّعًا بنحوٍ ملائم لهو جوهريّ لحماية ‏جانب الضعفاء، وليس فائض الرحمة ناجعًا دائمًا، فإذا كانت الرّحمة أو التّغاضي ‏شكلين مفيدين فيه، فهو يحتوي على أشكالٍ مدمّرة أيضًا.‏

يرى "إيجلتون" أنَّ ثمة علاقة مضطردة بين الحرية والديمقراطية من جهة والإرهاب ‏من جهة أخرى، إذ إنَّ الحريّة المطلقة تعني غياب الاختلاف، وهذا ما يؤكده "هيجل" ‏في كتاب "فنومينولوجيا الروح" حيث يقول: "إنَّ غياب الاختلاف مرتبط مع قوة ‏الموت المدمّرة أو ما يسمّى إرهاب الموت"، فالحرية المطلقة هي دافع لقتل الجسد، ‏وهي دافع تجريديّ مسعور يتجلّى في الوقائع الملموسة، ولكن لأنه لا يستطيع العثور ‏على صورته في أيّ منها، ينفلت عقاله بجموح ويقع في نوع من العدم. تبدو الحرية ‏في كمالها الأعلى موشكة على الاضمحلال تمامًا، فالحرية المطلقة عاطلة عن الفعل، ‏ولأنها ألغت جميع الحدود تمنعنا من تبرير تصرُّفنا بهذه الطريقة، فحين تمتلك القدرة ‏الكليّة تجد نفسك عاطلًا عن الفعل، وعليه فإنَّ الحرية التي تتبنّاها الحضارة الحديثة ‏كجوهر روحيّ، تمتلك في داخلها نوعًا من الفراغ أيضًا. من هنا يقدّم "إيجلتون" ‏انتقاده اللاذع للسياسة الغربية تجاه الشرق الأوسط، حيث يقول: "واليوم يظهر ‏سيناريو مشابه عبر سياسة بعض الأمم الغربية المُترعة بالفنتازيا، على أمل أن تنقذ ‏الناس الأقل بركة منها، من خلال تدميرهم أولًا، ثم شقّ جثثهم للبحث عن كلمة ‏ديمقراطية منقوشة على قلوبهم".‏

يؤكّد "إيجلتون" أنَّ المجتمع الرأسمالي مزيج من المثاليّة والشكوكيّة، من الملائكي ‏والشّيطاني، يخفي سباقه من أجل الأرباح خلف معتقدات ورعة وجليلة، وهذا الوضع ‏ليس واضحًا في أيّ مكان كوضوحه في الولايات المتحدة، موطن الحماسة الدينيّة ‏المتوهّجة، وموطن السعي الدنيء إلى الرّبح المادي (من الصّحيح على أي حال أنَّ ‏الحضارة الغربية، وليس مطلقًا في بريطانيا، تتمسّك -على العموم- بوجهة نظر في ‏الدّين شبيهة بوجهة نظر مستشار الكحوليين في الكحول، حيث أنَّ الكحول جيد جدًّا ‏طالما لا يعيق حياتك اليوميّة، وهي أيضًا وجهة النظر التي يميل المدراء التنفيذيّون ‏للشركات إلى تبنّيها في الأخلاق). بهذا المعنى يعكس الإرهاب هذه الوحدة بين المثال ‏والعدميّة، ويتجلّى وجهه الشّيطانيّ أو العدميّ بشكلٍ ضاحكٍ وهو يقول: انظر! هذه ‏خلاصة حضارتك الغربيّة العظيمة، إنها مجرّد كومة من اللحم المحترق، خالية من أيّ ‏قيمة، مادة خام متراكمة، مادة لا معنى لها، مبعثرة في الريح مثل كثير من الأعضاء ‏النّازفة، لكن انظر أيضًا إلى المُثل الملائكيّة التي أهدم باسمها منزلك على مسمع منك! ‏تلك هي مثاليّتنا السّامية التي تلهمنا أن نبيدك كقذارة. ‏

يقف "تيري إيجلتون" في هذا الكتاب على نقيض من الرأسمالية، ويصفها بالراعية ‏للإرهاب والحاضن الأمين له، وبأن كل التفجيرات الإرهابية التي حدثت، ما هي إلا ‏صفعة مناسبة ومستحقة لوجه الرأسمالية البذيء، ذلك أنها تتبنّى المفهوم الحديث ‏للإرادة كقوة تجريدية تسخّر العالم لرغباتها، وتتجلّى هذه الإرادة كعجرفة إمبرياليّة ‏وآلة عسكريّة. في المقابل يقف "إيجلتون" في صفّ الاشتراكية التي هي بلسم يعالج ‏الإرهاب -على حدّ قوله- ويضيف بأنه ليس من المفاجئ أنَّ بعض أولئك الذين كانوا ‏يحتفون البارحة بموت الاشتراكية، سيشعرون في الوقت المناسب بحنين عميق إليها. ‏يمكن أن يتمنى الاشتراكيون أن يشهدوا انحسار الرأسماليّة، لكنهم لا يمتلكون خططًا ‏كي يحقّقوا ذلك بقنابل نوويّة قذرة، فأسلحتهم هي نقابات العمّال وليس التيفوئيد، وهم ‏يريدون أن يجرّدوا الطبقات المالكة من الملكيّة وليس أن يبيدوها. ينبغي إذًا على أولئك ‏الذين يتباهون اليوم أنَّ بروليتاريا "ماركس" غرقت دون أن تترك أثرًا، أن يتناولوا ‏أقراص دواء الإشعاع بدلًا من الشمبانيا، ذلك أنَّ الاشتراكيين رفضوا دومًا تكتيك ‏الإرهاب. بهذه الصورة فإنَّ الإشتراكية هي بلسم الإرهاب وليست الوجه الآخر له، ‏والذين أعلنوا بنوع من الاستسلام نهاية التاريخ، أو كانوا على الأقل يعتقدون ذلك قبل ‏تدمير مركز التجارة العالمي، كانوا يهدفون إلى إعلان الانتصار النهائيّ للرأسمالية، ‏ولكن نزعة الظفر الحمقاء هذه هي التي حرّضت الجماهير في العالم الإسلامي على ‏التّمرُّد، مطلقة بداية مرحلة تاريخيّة جديدة تمامًا.‏

يختتم "إيجلتون" كتابه "الإرهاب المقدّس" بقائمة طويلة من الهوامش والمراجع التي ‏استند إليها في بحثه عن الإرهاب ودوافعه النفسيّة والسياسية والاجتماعية، وتعريفات ‏الانتحار والإضراب عن الطعام ودوافعهما وتعريف الموت القسري والإرادي ‏والتفريق بينهما، واستند أيضًا إلى آراء فلسفية لِـ"هيجل" و"كيركيغارد" و"ماركس" ‏و"نيتشه" وغيرهم، كما استند إلى المدرسة النفسية الفرويدية وبعض من مسرحيات ‏شكسبير، حين ربط بين الفن كأداة للهروب من الواقع من جهة وبين الإرهاب كأداة ‏للهروب من جهة أخرى. وينتهي الكاتب إلى أنَّ هناك أفكارًا، وهناك طرقًا في التفكير ‏فيها بذور الحياة، وهناك أفكارًا أخرى ربّما في مكان عميق في أذهاننا، تنمو فيها ‏بذور الموت، لذا فإنَّ مدى نجاحنا في معرفة هذه الأنواع من الأفكار، وفي تسميتها ‏وتحديدها بوجه عام، ربّما يحدِّد بالفعل مدى نجاح مستقبلنا.‏