دور إربد في النهضة الأردنية والفلسطينية المعاصرة

 

‏ ‏

تحسين يقين

كاتب وناقد فلسطيني- القدس الشريف

 

يأتي تتويج مدينة إربد كعاصمة للثقافة العربية، تتويجًا لرحلتها ‏العظيمة، فهي العاصمة الثقافية للأردن الحبيب، وهي محجُّ عشرات ‏الآلاف من الطلبة الأردنيين والفلسطينيين والعرب.‏

إنَّها إرادةُ الأردنيين المخلصين المحبين لحواضر الأردن الحديثة ‏والمعاصرة، ومنحها ما تستحق من عمل وتكريم وفرص.‏

وإنَّها إرادة أهل إربد ومن حولها، وحبهم للمكان وطموحهم للفعل، ‏لذلك تقاطع العامل الموضوعيّ بالعامل الذاتي لتصبحَ إربد من أهم ‏المدن العربية في التعليم العالي والحداثة، بل والتنمية السياسيّة.‏

نبتت فكرة هذا المقال من أمرين: موضوعيّ وذاتي، وهما مرتبطان ‏ببعضهما بعضًا؛ فأمَّا الموضوعي، فهو أن إربد الحبيبة تُعتبر ‏العاصمة الثانية للملكة، ولعلَّ مكانها في أوائل العشرينيات بما ‏حولها من خصوبة أرض، كان مؤهلا أيضًا ليكون مركز الإمارة ‏والمملكة فيما بعد، لولا تطرفه في الشمال، وهكذا اكتملت المدينتان ‏ونمتا: عمان القلب وإربد القلب الآخر، كما حواضر الأردن الأخرى، ‏الكرك والسلط؛ فدومًا تُثبت إربد دورها التنويري الوطني والقومي. في ‏حين كان العامل الذاتي هو تأثري العميق بزيارة اربد، مشاركًا في ‏مهرجان عرار، حينما تحدثت عن الدور التنوير لمصطفى وهبي التل ‏الشاعر والمناضل الوطني والقومي ابن تل إربد العالي؛ حيث ‏لاحظتُ وجود العدد الكثير من الطلبة العرب الملتحقين في جامعات ‏إربد، الذين واللواتي تحدثوا عن جامعاتهم باحترام وتوقير، في الوقت ‏الذي أظهروا كبير حبٍ لإربد المكان والسكان.‏

وبالتالي، فإربد تأثيرٌ حضاريّ نهضويّ معاصر وتكنولوجي بشكل ‏خاص، ليس على الأردن وفلسطين، بل على الدول العربية.‏

لعلَّ الجغرافيا وموقع البلاد، تقودنا دومًا إلى ما يمكن ملاحظته ‏تاريخيًا، عن نموّ الحضارات جنوبًا وشمالًا، وذلك الانتقال باتّجاه ‏الوسط والشمال، لكن في حالة إربد، كمنطقة من بلاد الشام، فإنها ‏تُعدّ شمال الأردن وفلسطين، وجنوب بلاد الشام (سوريا)، وهي قلب ‏نابض أيضًا، فقد كانت بداياتها منذ 5000 عام، من خلال ‏حضارات المكان نفسه، ولم يكن الرومان ليختاروها عبثًا حين بُنيت ‏في موقع متوسط بين مُدن حلف "الديكابولس" العشر التاريخية. كما ‏لم يكن من الصدفة أن تصبح في العهد العربي مركزًا من مراكز ‏الفتح الإسلامي، حيث تمت استعادتها حضاريًا، في فترة مبكرة من ‏الدولة العربية الحديثة، بعد معركة اليرموك الشهيرة، وهكذا،  اقترنت ‏إربد بتوأم آخر، هي دمشق، المركز العربي الثاني، وهو مركز فتيّ ‏متدفق، راح يؤثر بالتالي إيجابيًا على ثقافة المكان.‏

‏ لعلَّ تل إربد من أكبر التلال التي أُقيمت هنا، ولم يكن ذلك أيضًا ‏صدفة، حيث إنَّ طاقة المكان، بما فيه من خصوبة وطيب هواء، ‏يدفع الإنسان نحو العيش فيه، ولو انتقلنا تاريخيّا ألف عام أو يزيد، ‏وصولًا إلى أواخر القرن التاسع عشر، فسنرى كيف تشهد البلدة ‏انطلاقة أخرى.‏

المكان والأزمنة؛  حيث السهول تعانق الجبال، في اكتمالٍ لجمال ‏الطبيعة، وجمال موقع البلدة المطلة شمالًا على سورية، وغربًا على ‏فلسطين، خلق حالةً سكانيّة فريدة من نوعها، لعلَّ التعبير الأردني ‏العروبي فيها منقطع النظير.‏

الحالة السكانية الفريدة، والمكان المتوسط والجميل، جعلت إربد في ‏بدايات القرن العشرين مكان جذبٍ فعليٍّ للعيش، وبالتالي للعب دور ‏حضاريّ مهم فيما بعد.‏

طبيعة التنوّع السكاني، بأصولهم الريفيّة والحضريّة، جعلت شعبها ‏دادا في التطوير وإثبات الذات المبدعة، فقد عاش أهل إربد ‏ومحيطها مع الوافدين العرب من فلسطين إثر نكبة عام 1948 ‏ونكسة عام 1967، فكانت الحضن الأكثر دفئًا، وهي إربد الغالية ‏التي جادت بالدفاع عن فلسطين والقدس، فكان الشهيدُ وصفي التل ‏أحدَ أبطالِ معركة القدس، وهو ابن الشاعر المناضل مصطفى وهبي ‏التل، ومعهم آخرون، وقد كان احتضانهم لأخوتهم غرب النهر ‏احتضانًا أصيلًا، لربما نفرد له مقالًا آخر يفي أهل إربد دورهم ‏القومي، بل الوطني، كون الضفتان مرتبطتين عضويًا كما لم ترتبط ‏بلاد بأخرى.‏

كما كانت وما زالت بلد الوافدين من سورية ولبنان، كونها قلبًا من ‏قلوب بلاد الشام، وكونها كذلك فقد صارت مكانًا للعراقيين. والجميل ‏في ذلك كلّه هو حرص المواطنين جميعًا على جعلها وطنًا ومستَقرًا، ‏

فراح المزيج الجميل يبدع في التعمير والإعمار، ولم تأتِ سنوات ‏السبعينيات، حتى تأسست فيها واحدةٌ من أهمِّ الجامعات العربية، ‏التي لم تكن لتحبو بل راحت تمشي وتركض، فإذا إربد (ميريلاند ‏الأردن المعتمدة في اقتصادياتها بشكلٍ أساسيّ على الموارد ‏البشرية)، تصبح المهد العربي للعلوم والتكنولوجيا، حيث تأسست ‏جامعة العلوم والتكنولوجيا في منتصف الثمانينيات، فقط بعد عقد ‏واحد من الوجود ضمن جامعة اليرموك الفتية، التي كانت الجامعة ‏الأردنية الثانية في المملكة.‏

صحيح أنَّ الجامعات في إربد جعلت المدينة مكان جذب للكثير من ‏الأعمال، لكن الحق يقال إنَّ الجامعات هي من اختارت المدينة ‏مكانًا للتفرغ العلمي، التي جذبت كمكان أيضًا الطلبةَ والعلماء ‏للدراسة والعمل.‏

وتزهو إربد اليوم بالمكتبة الحسينيّة في جامعة اليرموك، التي تُعدُّ من ‏أكبر المكتبات في الشرق الأوسط، لما لذلك من دليل نهضوي، ‏حيث انتشرت هنا أيضًا دور نشر الكتب، وهي أرض التكنولوجيا ‏الأردنية المتميزة عربيًا، تحوي أكبرَ عددٍ من مقاهي الإنترنت؛ فعدد ‏مقاهي الإنترنت للفرد هو الأعلى في العالم، وبذا فقد دخلت المدينة ‏موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية في هذا المجال

لقد كان تفكيرُ المغفور له الملك الحسين بن طلال الملك الباني، ‏مدفوعًا بروح الشباب في منتصف السبعينيات، تفكيرًا استراتيجيًا ‏أردنيًا وعربيًا، حين أسّس جامعة اليرموك، الجامعة الأم، ليتناسل ‏منها 3 جامعات فيما بعد، خصوصًا جامعة العلوم والتكنولوجيا؛ فقد ‏كان استشراف الملك للمستقبل يستدعي البدء في التكنولوجيا، ولم ‏يمضِ عقد من الزمان، حتى أصبح السوق العربي والأردني سوقًا ‏طالبًا لهؤلاء الخريجين والخريجات، فيما كان لتأسيسها في إربد ‏صدى في القدس، حين تأسّست كلية العلوم والتكنولوجيا في بلدة ‏‏"أبو ديس" شرق القدس، فكانتا من أوائل الجامعات المختصة بعالم ‏الحاسوب، حيث كان لهما دورٌ في النهضة المعاصرة منذ أواسط ‏الثمانينات تحديدًا.‏

‏ وبالطبع كان لجامعات أربد الدور الأساسيّ، لما تميّزت به من ‏مكان جاذب، حيث لم تهدِ إربد خريجيها الأردنيين والفلسطينيين ‏للعالم العربي، خاصة في الخليج العربي والمملكة العربية السعودية، ‏بل فتحت أبوابها لعشرات الآلاف من الطلبة العرب للدراسة.‏

من ناحية أخرى، فقد كان لإربد الأردن والعرب، دورٌ فكريٌّ وسياسيّ ‏على طلبة الأردن وفلسطين، لما تتميز به من انفتاح ثقافي، ‏باتجاهات وطنية، وديمقراطية، فمنها انطلقت العقول على جانبي ‏النهر، للتحدث في قضايا الديمقراطية والمواطنة والحريات؛ فلم يكن ‏من الغريب أن يكون خريجوها في الضفتين، دعاةً وطنيين أصليين ‏لكل عوامل التحديث والنمو السياسي باتجاه العدالة الاجتماعية، ‏فكانت إربد المكان حاضنة لتلك العقول والأفكار، وبالتالي وجدنا ‏ارتباطًا مباشرًا ما بين العمل الوطني والعمل نحو العدالة، كونهما ‏غير مجزئتين. لقد شارك خريجو جامعات إربد بشكل خاص، ‏والجامعات الأردنية بشكل عام في كل الأعمال الوطنية، وكانوا دومًا ‏في طليعة التنوير التربويّ والثقافيّ والتنمية السياسية، ولعلَّ استئناف ‏الحياة الديمقراطية البرلمانية في المملكة، بعد تجميدها لعقد ونصف ‏إثر هزيمة عام 1967، إلا استشرافًا من جلالة الملك الحسين- ‏رحمه الله-، حينما قرأ بحكمته التحولات التي تحدث في المملكة، ‏حيث كانت جامعة اليرموك من روافع العمل الوطني والسياسيّ.‏

واليوم في ظلِّ انتشار الجامعات في الأردن وفلسطين، نجد أنَّ ‏المؤسسين والمشاركين فيها، هم جزءٌ من إربد، مصنع العلماء ‏والمتنورين.‏

أمَّا الغد، فهو جميل، فالبلد الصغيرة صارت مدينة حديثة معاصرة، ‏وهي في مرحلة نمو لا يقتصر دورها على الأردن وفلسطين، بل ‏على البلاد العربية والعالم؛ فحين أصبحت الأردن رقم واحد في عالم ‏الكمبيوتر عربيًا، لم يكن ذلك من فراغ، بل كان بسبب العمل الجاد ‏الذي نبت ونما وأزهر في إربد.‏

دوما نظرت إربد غرب النهر بحب وحنين وشوق، وهي الآن تنظر ‏في كلِّ الجهات حبًا لأبناء العروبة، لتكون وطنًا كريمًا، تزهر فيه ‏النفوس وتبدع.‏

ولعلَّ تأثير إربد على نهضة الأردن وفلسطين المعاصرة أمرٌ جدير ‏بالتعمق والدراسة، من خلال عقد ندوة علمية تشترك فيها من تحب ‏من جامعات الأردن وفلسطين، خصوصًا ونحن نحتفي بإربد عاصمة ‏للثقافة العربية، لما كان لها من خصوصيّة ظاهرة في النموّين ‏التكنولوجي والسياسي؛ حيث تقاطعا في آخر عقدين، فيما يُعرف ‏بالإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.‏

وأخيرًا، ليس هناك انقطاع ولا تفكيك بين عاملي الوطنية والقومية، ‏وبين العمل باتجاه مجتمع المواطنة والحريات، جنبًا إلى جنب مع ‏التطور التقنيّ والتكنولوجيّ، وهنا يحضر الحورانيّ، إربديّ اللون، ‏شاعر الأردن وفلسطين مصطفى وهبي التل، الذي كان من أوائل ‏الشعراء العرب المتحدثين عن التحرر الوطني مقرونًا بالعدالة ‏والحرية والتنوير والحداثة. ‏