سيرة مدينة ‏

 

د. دلال عنبتاوي

 

سأسرد سيرة مدينة لها في ذاكرتي وحياتي المكان المهم والأميز، وسأتمثّل تلك السيرة وأرويها  كما ‏كانت تروي لنا الحكّاءة الأولى شهرزاد. في الحقيقة هي مهمةٌ جديدة  لم أعهدها من قبل، مع أن ‏المرأة حكاءة بطبعها وساردة من الطراز الأول؛ لكنَّني سأقوم اليوم بهذا الدور وأسرد روايةً وسيرةَ ‏مدينة... هي مدينتي الأولى  ... إربد   ‏

إنَّ المدن مثل البشر تبدأ صغيرة ثم تنمو وتكبر ويشتدُّ عودها وتصبح ناضجة جميلة بهية، مثل ‏امرأة يتفتح شبابها؛ ولكنَّ الهرم قد يزورها فتكبر وتشيخ وتصبح بحاجة إلى رعاية خاصة، وهذا ما ‏يجب أن يقوم به أبناؤها تجاهها فيقدمون لها الرعاية والبر والوفاء والمحبة.‏

حين نقف عند سير المدن ونروي حكاياتها، لا بدَّ أن تكون تلك المدينة تحمل في دواخلنا الشيء ‏الكثير، وخاصةً حين تكون مرابع الصبا وذاكرتنا مع الحياة، قالوا شعرًا: نقّل فؤادك حيث شئت ‏من الهوى ... ما الحبُّ إلا للحبيب الأول. وأنا أتقارب معه كثيرًا هنا، وأقولُ: وبعد هذا العمرِ، ‏وبعد أن طوّفت في المدن الكثيرة ورأيتُ وعايشتُ، وربما أحببت، كذلك أقول: ‏

نقّل فؤادك بين المدن الكثيرة وما الحب إلا للمدينة الأولى ... وقد مرت بحياتي الكثيرُ من المدن، ‏لكن الحب الأول بينهن ظلّ وسيبقى للمدينة الأولى، مسقط الرأس والهوى ومرابع الصبا ... إنَّها ‏إربد. ‏

أحكيها الآن ... تلك المدينة الهادئة الوادعة، أصف سهولها التي هي امتداد لسهل حوران الطافح ‏بالقمح... الذي كان يفيض من خيراته على كل المناطق من حوله، أصف تربتها الحمراء التي ‏يذكرها أهلُها بدعابة خاصة " إربتا تربتا حمرا " وهي فعلا كذلك.‏

‏ في الحقيقة؛ لم يأتِ تداول هذه العبارة وتناقلها على المستوى الشعبي من العبث، فلها ما يؤكدها ‏من خلال تعالقه مع اسمها، إذ تختلف الروايات في تسمية المدينة، إذ هنالك رواية تقول إنَّ ‏الاسم آشوري أُطلق على المدينة بعد احتلال الملك تغلات بلاصر الثالث لها، وتقول دائرة ‏المعارف الإسلامية: «ليس ببعيد أن تكون الأماكن المسماة أرابيلا وأربيل وإربد الواقعة خارج ‏آشور، قد ابتناها أهل أربيلا الآشورية باسم مدينتهم»، وفي رواية أخرى فإن أصل اسم أرابيلا هو ‏كلمة رومانية تعني (الأسوَد)، وقام الرومان بتبديل اسمها إلى أربيلا‎ (Arbela)‎‏ الاسم الذي يشبه ‏تسمية اليونان لها: أرابيلا‎ (Arabella)‎، وكلمة (أرابيلا) تعني الأرض الخصبة، ويقال أيضًا أن ‏اسمها الحالي ليس إلا تحريفًا لاسم البلدة الرومانية القديمة، بيت أربل‎ (Beth Arbel)‎‏ وهو لفظ ‏مشتق من كلمة (الرُبدة)؛ وذلك يعود إلى لون تربة الأرض الحمراء المصحوب بسواد الصخور ‏البركانية المنتشرة في محيط المدينة، كما عُرفت المدينة باسم (الأقحوانة) خلال فترة الحروب ‏الصليبية في فلسطين عام 1099 للميلاد. وورد في كتاب معجم البلدان لياقوت الحموي أنَّ اسم ‏المدينة كان ينطق (إربد) و(أَربد)، ونطقها العرب قديمًا بفتح الألف وسكون الراء، وفي كتاب ‏القلقشندي " صبح الأعشى" جاءت إربد بالفتح والسكون. ‏‎.‎

 

‏ موقعها:‏

تقعُ مدينة إربد في أقصى شمال الأردن، وتمتدُّ حدودها لتصل إلى الحدود الأردنية السورية، حيث ‏نهر اليرموك. وتعدُّ المناطق الشرقية من المحافظة جزءًا من سهل حوران ( الرمثا ) الممتد بين ‏سورية والأردن، بينما تطل الأجزاء الشمالية على هضبة الجولان، وأمَّا من الغرب فتتكون المنطقة ‏جغرافيًا من هضاب متوسطة الارتفاع، تنخفض تدريجيًا لتصل إلى ما دون مستوى سطح البحر ‏في غور الأردن. بينما تمتدُّ المناطق الجنوبية منها في منطقة المزار الشمالي ذات الجبال العالية ‏والطبيعة الساحرة المتاخمة لجبال عجلون. تقع إربد في شمال الأردن، تبعد عن عمان حوالي 85 ‏كيلومترًا، كانت قديمًا مركزًا مهمًا لتجارة الترانزيت في شمال العاصمة عمّان، وتبعد حوالي 20 ‏كيلو مترًا إلى الجنوب من الحدود السورية الأردنية. ‏

‏ ‏

يبلغ عدد سكّان المدينة وضواحيها أكثر من مليوني نسمة حسب الإحصاء التقديري للسكان عامَ ‏‏2019، وهي المدينة الثانية في الأردن من حيث عدد السكان. أمَّا مساحة المدينة مع ضواحيها ‏فُتقدر بحوالي 1572 كيلو مترًا مربع. ‏

يعتبر موقع مدينة إربد متوسط بالنسبة لباقي مناطق المحافظة؛ إذ تقع على دائرة عرض 32 ‏شمالًا وخط طول 35 شرقًا، وتتميز الطبيعة الجغرافية فيها بالطبيعة السهليّة، وإن كانت المناطق ‏الغربية منها ذات طبيعة أقرب للطبيعة الجبلية. ويتميّز جنوب غرب المدينة بتضاريسه الشّاسعة، ‏ووديانه الجميلة جدًّا، ويُمكن قضاء يومٍ ممتع وهادئ بعيدًا عن ضجيج المدينة. ‏

‏. ‏

أمَّا مناخها ففي معظم مناطقها وخاصّة المرتفعة منها، يكون الجوّ معتدلًا في الصّيف وباردًا في ‏الشّتاء، وعادةً ما تشهد المدينة تساقطًا كبيرًا للأمطار في فصل الشّتاء، كما أنّ الثّلوج تتساقط ‏على المرتفعات فيها. ‏

إربد الخرزات: ‏

‏   تُجمع الروايات الشفهية والذاكرة الشعبيّة في مدينه إربد على وجود سبع عشائر ترتبط بهذه ‏الخرزات، وهي: ‏

‏" التل، خريس، حجازي، ارشيدات، دلقموني، شرايري، عبندة " وتعتز هذه العشائر بهذا اللقب ‏الذي يؤكد أصالتها وقدمها ودورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في المدينة. ‏‎ 

كثير منا لا يعلم ما هي خرزات إربد السبع .. وهو مصطلح متداول وله أصله وقصته وجذوره‎ ..‎

اشتُهرت إربد باسم شعبي يتداوله أبناؤها وعُرف بـ " إربد الخرزات"  ومفردها " الخرزة"، والمقصود ‏بها حجر من البازلت الأسود الذي يوضع على فوهة البئر لتجميع مياه الأمطار،  وغالبًا ما ‏يتكوّن من حجرٍ دائريّ تتوسطه فتحة يدخل من خلالها " دلو " لسحب الماء من أعماق البئر. ‏

كان موقع أبار المياه غرب بركة إربد الذي أصبح " مجمع الأغوار القديم " لاحقًا، وبعد وصول ‏أنابيب المياه من "عين راحوب" من قرية المغيّر شرق إربد عامَ 1932، أُهملت هذه الآبار لعدم ‏الحاجة إليها، ومع مرور الزمن وتقادمه عليها انطمرت هذه الآبار‎ ‎واختفت.‏

 

الخرزات في الشعر

وردت عند الشاعر الأردنيّ الكبير مصطفى وهبي  التل " عرار " ابن إربد وشاعر الأردن، مفردة ‏الخرزات، حيث قال في قصيدة في رثاء ابن عمه  فؤاد التل: ‏‎ ‎

‏       "يا إربد الخرزاتِ حيّاكِ الحيا    رغم الجفاءِ ورغم كلِّ تقاطع".‏

إربد مركز زراعيّ مهم، وأحد أكثر مناطق الأردن خصوبة، تمرُّ فيها العديد من الينابيع التي تسقي ‏المحاصيل، وهي قريبة من نهري الأردن اليرموك. وتُحاط بالسهول المزروعة بشتى أنواع ‏الخضروات والبقوليات مثل حبوب القمح والفول والحمص والعدس والقثاء. ‏

‏ في بدايات التفتح فيها كنا نذهب الى المدرسة مشيًا على الأقدام، وكانت حركة المواصلات ‏بسيطة تقوم على استخدام " السرفيس " العام: سرفيس الحي الجنوبي، والشمالي، والغربي، وفيما ‏بعد صار هناك سرفيس الحي الشرقي حين امتدت وبسرعة الى الشرق. كان السرفيس يعمل على ‏ربط المناطق ببعضها بعضا،  وكان هناك مكاتب للتكسي الأصفر لكنها كانت قليلة جدًا،  أذكر ‏منها تكسي الرشيد، وتكسي البرق، وتكسي فراس ... ولم تكن تُستخدم إلا في حالة الضرورة، عند ‏عدم وجود وسيلة مواصلات عامة. ‏

 

‏  تعتبر إربد من حيث ترتيب المحافظات الأكثر أهمّيّة في الأردن، بعد عمّان ويتبع لها تسعة ‏ألوية هي: قصبة إربد، والرّمثا، والكورة، وبني كنانة، والأغوار الشّماليّة، وبني عبيد، والمزار ‏الشّماليّ، والطّيبة، والوسطيّة. ‏

يوصف نمط الحياة فيها بالهادئ، الأقرب إلى الريفيّ، بحكم أن أغلب سكانها من أصول ريفية، ‏وعدد قليل من سكانها اليوم من أصول سورية وعراقية ولبنانية، ويعيش في المدينة ما يقارب 53 ‏جنسية من حول العالم، يتوزعون ما بين طلّاب جامعات، وعمال في المصانع والمدن الصناعية.‏

‏ امّا اللهجة المستخدمة(الشائعة) فهي اللهجة الحورانية التي تسود في قرى إربد، وفي لواء الرمثا، ‏وهي قريبة من لهجة سكان محافظة درعا في سوريا، أمَّا سكان المدينة نفسها فصارت لهجتهم ‏مزيجًا من اللهجة الحورانية واللهجة الشامية بفعل حركات اللجوء والنزوح المتتابعة، بالإضافة إلى ‏عدد من اللهجات الأخرى بسبب تنوع التركيب السكاني فيها.‏

جماليات مدينة إربد: ‏

من خلال جولة في وسط مدينة إربد القديمة، يُمكن زيارة متحف دار السّرايا الشّهير، الذي يكشف ‏عن أصول إربد القديمة، وهو مبنيّ على الطّراز العثمانيّ، يعود إلى القرن التّاسع عشر، ويضمّ ‏العديد من المعروضات مثل الفخّار والتّماثيل والفسيفساء والمجوهرات التي يعود تاريخها إلى عام ‏‏3200 قبل الميلاد، كما أنّ ساحة المتحف جميلة، وتستحقُّ الجلوس فيها بعد الانتهاء من جولة ‏المتحف، أو قبلها، كما أنّها تضمّ العديد من التّوابيت القديمة. وبالقرب من المتحف، يُمكن ‏مشاهدة بيت الشّاعر الشّهير عرار (مصطفى وهبي التّل)، وهو أحد أكثر الشّخصيّات الوطنيّة ‏والأدبيّة شهرة في الأردن. ويتوسط المدينة مسجد إربد الكبير الذي يحكي قصة المدينة حينما شهد ‏الكثير من الأحداث السياسية والاجتماعية وغيرها، وبالقرب من هذا المسجد الكبير  كانت النساء ‏القادمات من القرى القريبة اللواتي يعملن بالزراعة وتربية الماشية يأتين  إلى المدينة ويقمن بهذه ‏المنطقة،  يبعن في السوق الشعبي البسيط المحاذي للجامع، هؤلاء النساء هُنَّ  لقّاطات الخبيزة، ‏والعلت، والسبانخ.  وكانت بعض النساء يحضرن البيض البلدي من بيوتهن، والأخريات اللواتي ‏يقمن بتربية الأبقار والأغنام يصنعن الجبن الطازج ويبعنه في السوق، كنا نسميه " الجبنة ‏الخضراء "، ويقمن في بعض الأحيان كذلك ببيع جلود تلك الأغنام في سوق قريب من سوق ‏الصاغة، عُرف بسوق الجلود وما زال إلى لآن يحتفظ بشيء من حضوره في المدينة. وقبل ‏الغروب وقبل عودتهن المسائية إلى قراهن في الباص الوحيد الذي كان يقوم بنقلهن في ذاك ‏الزمن، تتبضع تلك النساء حاجياتهن من الأسواق القريبة التي كان أشهرها في ذاك الوقت سوق ‏البخارية، نسبة إلى مدينة بُخارى التي وفد منها عمال السوق، وهم أسّسوا وبنوا هذا السوق فُسمّي ‏باسمهم، ثم السوق الثاني؛ وهو سوق الحميدية الذي سُمّي بهذا الاسم نسبة إلى شقيقه في ‏الحضور سوق الحميدية الذي يتوسط دمشق العزيزة. وكان أهل الريف يفدون إلى المنطقة ‏المعروفة ب"سوق الصّاغة" مع بدايات الصيف ورحيل الشتاء؛ وذلك لشراء مصاغات الذهب ‏استعدادًا لطقوس الزواج. وما أتذكره أنّ أغلب الصّاغة في السوق كانوا قد وفدوا إلى إربد من ‏أماكن بعيدة ــ بلاد الفرس وأرمينيا ـــ إذ أن أغلبهم من العجم والأرمن، وكانوا يتقنون فن صياغة ‏الذهب  وتجارته. أمّا أشهر الأسواق في إربد فهو سوق شارع السينما الذي يمتد بالجهة الشرقية ‏المقابلة للجامع الكبير، وكانت بضاعته غالبًا من أرقى البضائع التي يحضرها التجار من تركيا ‏والشام ... هذا الاسم للشارع يكشف لنا أن إربد في بداية الستينيات من هذا القرن كانت منفتحة ‏على العالم،  أذكرُ أنّني  كنت أرافق أمّي وجاراتها ونساء الحي للذهاب إلى السينما التي كانت ‏تخصّص للنساء يومين في الأسبوع، كل اثنين وخميس، تتجمع النساء ظهرا للذهاب وحضور ‏الأفلام العربية التي كانت تنتجها السينما المصرية في ذلك الوقت، وأذكرُ أنَّ المدارس كانت ‏تشجع على زيارة السينما، وقد حضرنا أشهر الأفلام آنذاك من مثل فيلم جميلة بوحيرد المناضلة ‏الجزائرية، وفيلم المناضل عمر المختار. ‏

كان في المدينة¬¬ أربعة دور سينما هي: الجميل، الدنيا، الفردوس، والزهراء.. أمَّا حركة المسرح ‏فكانت ضعيفة في المدينة في ذلك الوقت، وقد نمت هذه الحركة في المدينة ونشطت بشكل جيّد ‏بعد افتتاح جامعة اليرموك وتأسيس فرع لدراسة المسرح فيها، فبدأت الحركة المسرحية تنشط في ‏المدينة، وتضاءل بالمقابل حضور السينما من قبل الجمهور.‏

 

بيوت إربد التراثية: ‏

أولها وأهمها بيت الشاعر الأردني الكبير عرار، كذلك بيت علي خلقي الشرايري، بيت الشريف ‏الملاصق لبيت النابلسي، بيت أبو رجيع، وبيت سعيد جمعة، بيت الجمل، عمارة محمود جمعة، ‏قصر الملكة مصباح الذي بناه المعماري فالح كريزم، بيت حسن الشيخ حسين، بيت الجيزاوي، ‏بيت جورة القحار.‏

وفي المدينة العديد من الميادين منها:‏

‏ أوّلُ الميادين وأشهرُها الميدان الذي يتوسط المدينة ويحاذي الجامع الكبير الذي عُرف بميدان ‏الساعة، ثم ميدان الزهور، ميدان الجامعة القريب من (جامعة اليرموك)، ميدان القبة، ميدان ‏مجمع النقابات، ميدان علي خلقي الشرايري، ميدان فضل الدلقموني، ميدان الدرة، ميدان ‏الصعابنة،  ميدان الثقافة، ميدان الشهداء،  وحين امتدت المدينة واتسعت باتجاه الشرق كثرت ‏ميادينها واتسعت رقعتها كثيرًا.‏