إربد: بوابة الحياة وموئل الشمس

أحمدالخطيب‎ 

 

‏   بين حضورها ومرايا الذاكرة تقعُ مدينة إربد على بساط من الامتداد الطبيعي لسهل ‏حوران، السهل الذي فتح ذراعيه لحورية القمح وهي تنصت لسبيل الحوريات في جدارا، ‏بين هذا الحضور والمرايا يتلوّن الحاضر بتأثيراته، ويتمدّد الماضي بأغنياته، وبينهما ‏يقف الإنسان الأردني مستندًا على هُوية ضاربة الجذور منذ آلاف السنين‎.‎

‏   تلك هي إربد، وهذا بابها، وهذه علاماتها في كتاب النصوص، وهؤلاء هم بُناتها ‏الذين استقرّوا على لغة واحدة « لغة الأرض»، بوابة للحياة وموئل للشمس، وهذا ‏نسيجها الذي ضُرِبَ به المثل في كثير من الأحداث، إذ مرّتْ عليها غيوم سود ولَم ‏تيبس جذورها، ووطاويط ليل ولَم تُظلِم شوارعها، وسعاة هَدم ولَم تخرَّ أعاليها، وفضاء ‏تتداخل فيه الألسن غير أنها لَم تُغلق ديوانها‎.‎

‏   الوصول إلى ديوانها المفتوح، وقراءته بعين هوية الكائن المنتمي، منذ آلاف ‏السنين، يحتاج من عالِم الآثار أن يرصد منازل التراث، ومن الفنان أن يتوغل في ‏طبيعة الألوان، ومن الشاعر أن يقف على شرفات المتخيّل والواقع، ومن السياسيّ أن ‏يقرأ كرّاس أعلامها، إلى ذلك يحتاج من المؤرّخ أن يعي حركة التاريخ على هذه ‏الأرض، ومن الإنسان أن يتأبّط كأس غايته في طريق الاعتزاز بمكوّنات الإرث‎. 

‏   من العيون التي تنبع في مجرى الحياة، ومن أقاصي الوجد في تكوين الشخصية ‏المنتمية، يتشكّل الحسُّ والحدس، ويتشكّل الزمن وفق هذه المفردات، ويتشكّل التعاطي ‏مع الأشياء وصفاتها، ومن العيون أيضاً تتسلل البنية الدلالية التكاملية لكلِّ مجتمع، إذ ‏لن تستطيع الأجيال المتعاقبة أن تضع يدها على سؤال الهُوية، إذا لَم ترصد في متن ‏مفرداته حقول التعدد الدلالي لهذا المجتمع‎. 

 

المتحف السياسي

‏   حين تضع قدمك على العتبة الأولى لبيت علي خلقي الشرايري المولود في إربد سنة ‏‏1878، تعود بك الذاكرة، إن كنت قارئاً، إلى تلك الزيارات واللقاءات الوطنية التي ‏كانت تُعقد في فِناء المنزل وغرفه وشرفاته، زيارة الملك المؤسس عبد الله الأول، وعز ‏الدين القسام، وياسر العظمة، وغيرهم من الأحرار العرب، كما تعود بك الذاكرة إلى ‏زيارتي تشرتشل ولورنس العرب عام 1921، وحين تخطو إلى الأمام خطوة أخرى ‏ستصافحك الصور النادرة عن رجالات السياسة في الشمال، والوثائق التاريخية المهمة ‏المتعلقة بالاتفاقيات والمعاهدات التي شهد المنزل توقيعها، وعن الإنجازات الوطنية ‏خلال فترة تقلدهم المناصب السياسية‎.‎

‏   الحركة البطيئة في أروقة البيت الذي يعود بناؤه إلى عام 1908، تسرد حكاية ‏غياب الأجيال عن هذا الكنز، والضجيج القادم من بوابة المدينة، والتلوث البصري ‏الذي يصيبك بالدّوار وأنت تحاول أن تتخطى الواجهة الزجاجية للبيت التي غيّرت ‏الكثير من فقه تراثيته، وغيرها من نمطية البنية العقلية للإدارات، تجعلكَ تحثّ الخطى ‏إلى سراديب الحكاية لتقف على شخصية الشرايري في بطون الكتب، الشرايري الذي ‏تسلّم مناصب عديدة في إمارة شرق الأردن، والمملكة الأردنية فيما بعد، حتى وافاه ‏الأجل في الخامس والعشرين من حزيران عامَ 1960، الشرايري الذي يقول في ‏مذكراته: "اتخذت في منزلي هذا وأعضاءَ حكومتي العربية قراراً بتوجيه كتاب لمأمور ‏الأراضي هنا؛ لوضع إشارة على جزء من حوض الحميرة ليصار عليها بناء جامعة ‏لأبناء الأردن خاصة والعرب عامة تسمّى " جامعة اليرموك الأردنية " في 10 أيلول ‏‏1950، لأنها تقع بين سوريا وفلسطين ولبنان.."‏‎ 

ومع هذا، فأنت حينما تتصفح صالة البيت وغرفه ستلحظ مدى الامتداد الطبيعي ‏وارتباط الماضي بالحاضر من خلال بعض الفعاليات التي تُعقد في البيت في فترات ‏متباعدة، وإذ تغادر البيت بعد أن حزتَ على نصيبك من سلّة الماضي وكينونة ‏الحاضر رغم شحّ الغلال، ستعرف أنك وقفت على إرث سياسي شكّل التجربة الأردنية ‏التي لم تخضع إلا لأبعادها الوطنية والقومية والإنسانية.‏

‎ 

المتحف الثقافي

‏   وأنت تغادر بيت الشرايري، وتلتقط أنفاسك التي ذهبتْ في متون المفردة السياسية ‏الأولى، وعادت وهي تتكئ على بنية الرؤية الأردنية، تستفزّك غواية الماضي لتسترسل ‏مع دوائر الفكر، فتحطّ رحالكَ إلى الغرب من تل إربد في بيت عرار، البيت الذي بناه ‏المحامي صالح مصطفى التل عامَ 1888 على طراز البيوت الدمشقيّة القديمة، البيت ‏الذي تعاقبت عليه أعراق متنوعة، من عائلة التل الأردنية إلى المستشار البريطاني « ‏سمرسميث» التابع لحكومة فلسطين زمن الانتداب، إلى الطبيب الإنجليزي من أصل ‏هندي " سنيان " الذي حوّل البيت إلى مستشفى، إلى "د. محمد صبحي أبو غنيمة" ‏الذي اتخذه كعيادة وسكن، إلى شاعر الأردن مصطفى وهبي التل، إلى "محمود علي ‏أبو غنيمة" الذي حوّله إلى مدرسة العروبة الابتدائية، إلى عائلة التل مرّة أخرى، إلى ‏أن آلت ملكيته إلى شقيقات الشاعر « عرار»، فجعلنه وقفاً لذكرى عرار في الثامن ‏عشر من تموز عامَ 1988، ثم نُقلت رفات الشاعر من المقبرة إلى صحن البيت عامَ ‏‏1989‏‎.‎

‏   حين تصافحك شجرة التوت في الساحة السماوية للبيت، وأنت تذهب بعيداً مع ‏أبيات الشاعر « يا أردنياتُ أن أوديت مغترباً»، تقف أمام مكتبة الشاعر وكرسيه ‏وسرير نومه، وتبصر غواية الصور التي جمعته مع العديد من الشخصيات المهمة، ‏وتعقد رحلة إنسانية مع "عشيات وادي اليابس" الذي ذهب فيه إلى الحياة بكامل ‏تجلياتها الإنسانية، نصيراً للمظلوم، ورادعاً للظالم، بلسان حاد اختلطت في مفرداته لغة ‏الأرض. وترشح أمامك عشرات الكتب والمؤلفات التي تسلّحت بهذه الطاقة الإبداعية، ‏وتتنقل أمام الصحف المحلية والعربية التي تناولت سيرته وأشعاره ومراحل نضاله ‏الوطني والقومي ضد الانتداب البريطاني في الأردن وفلسطين‎.‎

‏   لم يكن عرار المولود في إربد في الخامس والعشرين من أيار عامَ 1899، وافداً ‏على الحياة كغيره، بل كان مخلصاً لمتونها التي تتسق مع حقيقة الوجود، ومتصلاً ‏بأبجدية الإنسان الشمولي، درس المحاماة، وأقبل على النضال، وتوزّع بين أشجار ‏الحقيقة معلناً انحيازه للجمال والحرية، هكذا كان، فعانى وشُرّد، ولكنه انتصر للجمال ‏ظاهراً وباطناً، وخلّد ينابيع حرفه، فانتصر له الإنسانُ البسيطُ الذي يريد الاستئناس بقوة ‏حضور الشخصية ووقوفها إلى جانبه، والمثقف الذي يطمح للصعود إلى شجرة التجديد ‏والابتكار، والمبدع الذي يبحث عن الصورة الشعبية التي قادها عرار إلى المركب ‏الصعب، والتاجر الذي يختلس الحقيقة التكاملية التي وقف عليها عرار مع أبناء ‏شعبه، وطلبة المدارس الذين يحاولون الوقوف على نبع المجالدة والمصابرة ونكران ‏الذات التي أسس لها عرار، والباحث عن التاريخ الثقافي والأدبي، والجمهور الذي ‏يتنفس الحرية مع تلك الأمسيات والمهرجانات والمعارض التي تعقد على مدار العام‎.‎

‎ 

المتحف الأثري

‏   من تحولات الأمكنة واسترسالها في عوالم متنوعة، متقابلة حيناً ومفارقة أحياناً ‏أخرى، يقف متحف سرايا إربد شاهداً على هذا الحنين الحكائي الذي عاشه الإنسان ‏الأردني، فمنذ اللحظة الأولى التي تقتبسها وأنت تقف أمام هذا التاريخ تتصاعد أمامك ‏لغة الأجداد الأوائل، وتتصاعد أمامك مقتنيات البناء الأول للإنسان والمكان الأردني ‏منذ فجر التاريخ‎.‎

‏   شهد البناء تحوّلاتٍ وجدانيةً ونفسية، من قلعة شيّدها "سنان باشا" وفق النقش ‏الحجري عامَ 1886، إلى مقر للحاكم العثماني سُمّي" السرايا"، إلى مركز للشرطة ‏والدرك، إلى سجنٍ وحيدٍ للرجال والنساء على السواء، هذه التحوّلات شكّلت في الذاكرة ‏الجمعية دلالات ومعاني يستحضرها الزائر وهو يتجوّل في الساحة السماوية للسرايا، ‏وهو يتجرد من واقع المتغيرات في الغرف المتتالية والواقعة في طابقين، ومن هذه ‏الدلالات والمعاني، نباهة الإنسان الأردني الذي شهد فأبصر فاكتمل، ورغبته لاستئناس ‏الحضور القاسي للمكان بما شكّله من غرف مؤصدة، وقدرته على تجاوز البنية ‏النفسية للوقائع، وانتماؤه لتشكّل التاريخ مع الاحتفاظ بهوية المكان‎.‎

‏   وأنت تطالعُ في ساحته الداخلية الحفريةَ التي تعود إلى نهاية القرن الخامس قبل ‏الميلاد، فإنك تصغي إلى الحوار الداخلي الذي يصطاد فكرة النشء الأول لهذه البقعة ‏من الوجود، وإذ ذاك، تعود بك الرؤية إلى مباهج الفرح وأنت تستردّ من الإرث المكاني ‏هويتك الموغلة في القِدم، فهنا الشاهد، وهنا التراب الذي اختلط بالإنسان الأردني ‏الأول، وهنا حركة الفصول وميقات عنفوانها‎.‎

‏   لم يكتف متحف سرايا إربد بما يضمُّ من أدوات حجرية وفخارية وعظمية وأواني ‏مزخرفة وأختام وتماثيل ولوحات فسيفساء، بل جذبته رائحة المكان وطمأنينة الأقواس ‏وغواية المساحات المتداخلة إلى التواشج مع بنية الإنسان الأردني الحديث وتوجهاته، ‏فغدا مساحةً للضوء، ومزاراً للثقافة والمعارض والفلكلور، ومداراً لاستبصار الماضي، ‏وخلوة للشعراء والأدباء حين يتفحصون صورة الحياة القديمة بكامل متخيّلها، وهم يقفون ‏أمام هذا التنوع الهائل من اللقى‎.‎

‎ 

المتحف الإنساني

‏   تتشكّل مفردات البيئة المكانية من ملامح البناء وتاريخه، وبما يؤثّثه من معارج لا ‏تخضع لتقلبات عوامل الحياة الطبيعية والإنسانية، وتتفرد هذه البيئةُ بما تحمله من ‏صفات بصرية تنفرد عن محيطها، ومن هذه المساحات المشرقة أمام تحديات العوامل، ‏‏"بيت النابلسي" الذي يُعدُّ واحداً من أقدم البيوت الأثرية في إربد، أُسس عامَ 1920، ‏ويعود لعائلة النابلسي من أصول شامية، بنته على الطراز الشامي المشهور بالفِناء ‏الواسع، واستُخدم كمنزل لعائلة النابلسي والورثة، وتحوّل إلى مدرسة قبل أن تستملكه ‏بلدية إربد الكبرى ضمن مشروع إحياء وسط المدينة‎.‎

‏   البيتُ الذي كان من الممكن أن يشكِّل في المدينة حراكاً ثقافياً وفنياً وإنسانياً ‏وسياحياً، مع البيوتات والمعالم التراثية الأخرى، من مثل: تل إربد وهو أثر قائم في إربد ‏ويحمل في جوفه بقايا المدينة القديمة، وسور إربد القديم الذي يتآكل يوماً بعد يوم، ‏المسجد المملوكي القديم، فندق الملك غازي، دار عبد الله جودة، سوق الصاغة القديم، ‏‏"بيت أبو رجيع"، عمارة محمود جمعة، قصر الملكة مصباح، خان حدو، مطحنة ‏الملقي، وغيرها من البيوت التراثية التي تشكّل هُوية تراثية لمنطقة وسط المدينة أحد ‏المراكز الحيوية للدولة العثمانية خلال العقود الماضية.‏

‏ ها هو يهجعُ على ساحة يتمسرحُ فيها الضجيج، وتتزاحمُ فيها الأصوات، ولا تُعقد فيه ‏الندوات إلّا على استحياء، تضيع معهُ فكرة الإحياء ومناط تجلياتها‏‎.‎