وكان في إربد

 

‏ دينا بدر علاء الدين

‏- أين أنتِ يا حُسْن؟ لقد حضر عمّي شَوْكت.‏

كانت ابنة عمّي سليمان تناديني، بينما هي غارقةٌ في أكوام الصّوف؛ تجهزها للمُنجّد؛ ليعدّ بعض ‏الأغطية استعدادًا لموسم الشّتاء المُقبل. لَبّيتُ النّداء حاملةً حقيبتي التي جهزتُها منذ يومين؛ استعدادًا ‏لضيافة عمّي شَوْكت في إربد، كان ذلك في ربيع عام 1951م، ركبنا الحافلة من أمام الجامع الحسينيّ ‏في عمّان، قاصدين إربد، أثناء ذلك عادت بي الذاكرة إلى ذلك اليوم الذي جاءنا فيه عمّي شَوْكت إلى ‏مدينة بيت لحم حيث تعيش والدتي، ما زلتُ أذكرُ كلماته لوالدتي: "لقد كبرت حُسن ولم تعُد طفلة، ‏ونحن أعمامها أولى بتربيتها"، حدّق في سقف البيت مليًا، وتابع كلماته: "وفي أيّ وقت يمكنك ‏رؤيتها... أهلًا ومرحبًا بكِ، أنتِ تعرفين منزلتكِ عندي، ومقدار احترامي لكِ، إنكِ في سويداء القلب".‏

‏ فارقتُ والدتي، وطالت أيام الحنين بعدها، حدّق إليّ بعينيه الخضراوين الواسعتين قائلًا: "أسعيدة ‏بزيارتكِ لنا؟ ستقضين معنا شهرًا ممتعًا". ‏

مسحتُ بإصبعي خاتمه ذا الفص الأزرق، وابتسمتُ له بودٍّ، فبادلني الودّ قائلًا: "يذكرني جبينك الوضّاء ‏بجبين والدكِ الذي استُشهد في معركة باب الواد على أعتاب بيت المقدس". ‏

كان صوت الحافلة يخفي تنهيداته الدّفينة، ولوعة الفراق تهبُ عينيه بريقًا سرعان ما أخفاه؛ ليواري قصة ‏حزن سرمدية.‏

‏ أخذتُ أردد في نفسي: "كم هي هزيلة حروفي عندما تصف حزنكَ يا عماه!".‏

‏ لا أدري كيف غفوتُ لأصحو على صوت السائق: "وصلنا إربد يا أخوان".‏

‏ من مجمَّع الباصات ركبنا حافلةً أخرى  لتقلنا إلى "عقربا" حيث بيت عمّي الذي تزيّنه زوجته، ‏استقبلتني فاتحة ذراعيها: "ضوءُكِ أنار قلوبنا، تفضلي".‏

‏ ولكنّ زوجة عمّي لا تُجيد التمثيل طويلًا، أخذتْ تتفحَّص ثوبي وهي في حالة غمز ولمز: "أبهذه ‏السرعة اشتريتَ لها ثوبًا؟!".‏

عمّي: "اتقِ الله يا امرأة، هذه ملابسها التي أتت بها من عمّان". ‏

أمسكتْ ثوبي وأخذتْ تتحسَّس قماشته: "كم هو أنيق، كلون الغيوم يبدو أنَّه جديد؟". ‏

قلتُ لها: "لقد أرسلته أمّي من بيت لحم". ‏

قدّمت لنا طعام الغداء، وكان ممّا تنبتُ الأرض: بعض العكّوب المقطَّع المقلي مع البصل، وبجانبه ‏طبقٌ من نبتة الخبّيزة التي طبختها مع زيت الزيتون الذي تمّ عصره من زيتون الكرم، يُصاحب ذلك ‏أكواب اللبن المخيض الشّهي، مع خبز الشراك السّاخن الذي تملأ رائحته المكان. شعرتُ بالعطش، ‏فذهبتُ حيث قربة الماء في ركنٍ منزوٍ، وعندما هممتُ بالشُّرب سقط الكوب من يدي، فانتفضَتْ تلك، ‏وهطلت عليّ بوابل من اللّوم قائلة: "انقصم ظهري نصفين وأنا أحمل قربة الماء من "عين عقربا"، بعد ‏أن باع عمّك الحمار، إنّ النسوة المدلّلات يمتلكن الحمير أما أنا فحماري ظهري".‏

قلت: "المعذرة لم أكن أقصد". ‏

ارتدى عمّي الغضب قائلًا: "بعتهُ لأنه كَبُر في السّن، وقد وعدني أبو جمال أن يبيعني حمارًا صغيرًا في ‏السّن وقويًا، ألا تصبرين يومين ريثما تتيسَّر الأمور...!".‏

‏ تركها وذهب لحلب البقرة، تبعتُهُ وأمسكتُ الدلو، بدأ يهدهد فرحي، ويرشُّ وجهي بحليب البقرة، فأضحك ‏هاربةً ثم أعود إليه، في تلك الأثناء مرّ عبد الحليم وهو رجل أبله يتجنّبه أهل القرية؛ لأنه يرميهم بسهام ‏عينه الحاسدة التي لا تخيب. اقترَبَ من البقرة فطرده عمّي قائلًا: "انصرف، قلتُ لك ألف مرَّة لا تقرب ‏هذا المكان أبدًا". ‏

انصرف عبد الحليم وهو يضحك قائلًا: "انتبه إلى الدلو الذي بين يديك لقد فاض الحليب منه".‏

‏ جَرَتْ زوجة عمّي خلف عبد الحليم، ورجمته بالحجارة قائلة: "حسبي الله! أيّها الحسود". ‏

كان عبد الحليم يركض هاربًا من حجارتها وصوت ضحكته البلهاء يملأ الحيّ. ‏

أسرع عمّي وزوجته يقرأان آياتٍ من القرآن الكريم على ضرع البقرة، قالت زوجة عمّي مخاطبة البقرة: ‏‏"حماكِ الله من عين هذا الحاسد وأفاض عليكِ العافية". ‏

أشار عمّي إلى ديك سمين قائلًا: "غدًا إن شاء الله سأذبح هذا الديك احتفالًا بضيفتنا، وسيكون لنا ‏طعامًا شهيًا". ‏

‏ وضَعَتْ زوجة عمّي في صحن بعض الحلاوة التي ابتاعها عمّي من عمّان، وقالت لي: "ناوليها جارتنا ‏أم سالم هديّة لأطفالها".‏

‏ وبالمقابل أرسلت معي أم سالم في الصّحن نفسه السَّمن البلديّ اللذيذ. ناولتُهُ زوجة عمّي وأنا أتساءل: ‏‏"إننا نملك السمن يا خالة..."، فقاطعتني: "جرت العادة ألا نردّ الوعاء فارغًا؛ لذلك وضعَتْ فيه ما تيسَّر ‏لديها".‏

‏ أطلّتْ أم أحمد من حوش بيتها قائلة: "سنسهر الليلة؛ احتفالًا بقدوم حفيدي لقد دعوتُ الجميع".‏

زوجة عمّي: "إنَّ بيتكم لا يتَّسع، ستكون السّهرة في بيتنا، إنَّنا أهل ولا فرق بيننا".‏

‏ تناول عمّي ما تبقى من قلائد البندورة والبامية المجفّفة منذ صيف العام الماضي، والمُعلّقة على ‏مسمار مثبّت بالحائط، ووضعها في إناء. بينما أحضرتْ زوجته الصّاج وأوقدتِ الحطب الذي أحضرتهُ ‏هي وجاراتها من منطقة تسمى" الشريعة"، وخبزَتْ بعض الشراك اللذيذ لوجبة العشاء. أثناء ذلك سمعنا ‏صوتًا يشبه البكاء فقال عمّي: "يبدو أنَّ بلالًا يضرب زوجته، كم هي بليدة هذه المرأة!".‏

‏-‏ لماذا يضربها يا عمّاه؟

‏-‏ بالتأكيد لم تجمع الحطب أو أنها لم تملأ قِرب الماء. ‏

زوجة عمّي: "إنّ زوجها المسكين يعمل راعيًا في كفر سوم، وبالكاد يجد قوت يومه".‏

‏ وقبل أن يأتي السُّمّار، فتحتْ زوجة عمّي صندوق ملابسها، وأخذت بعض القَرنفل المطحون ومسحته ‏تحت إبطها. لمحتُ في صندوقها مدرقتها الجميلة، وحطّة جميلة، وتنوره بيضاء، كان هذا ما بقي لديها ‏من ثياب زفافها، عادت بها الذاكرة إلى تلك الأيام قائلة: "تُذكرني رائحة القَرنفل بحمّام عرسي عندما ‏بدأت أخواتي بحمّامي بينما كنتُ متكوِّرة على نفسي خجلًا، وفي الحفل ارتدتِ النساء المدارق ‏المزركشة، وتوشّحن الشماغ الأحمر على رؤوسهنّ، يضعن تاج العروس في طبق، ويرقصن في دائرة، ‏وهن حاملات الطبق ثمّ تسلّمه إحداهن لأخرى". وبينما كانت تقفل صندوقها بقفل ضاع مفتاحه تنهَّدت: ‏كانت أيام بهجة. ‏

‏ سألتها: "أين تاج عرسكِ؟".‏

أجابت: "أهديتُه لزوجة أخي يوم عرسها، سأغسل ثياب عمِّك قبل أن يحلّ الغروب ويأتي السُّمّار".‏

‏ ساعدتُها في تنظيف الملابس التي كانت تغسلها في "الطّشت"، وهو وعاء كبير واسع من حديد.‏

‏ وفي المساء حضر الأهل والجيران يتعلّلون، ويستذكرون يومهم الذي مضى، وأكواب الشاي تُدار بينهم ‏على مدار السهرة، قالت زوجة عمّي لمعزوزة: "أتذكرين العيد الماضي عندما تزحلقتِ أثناء الدَّبكة ‏وكُسرت يدكِ؟".‏

معزوزة: "لا أعادها الله من أيام". ‏

زوجة عمّي: "رفضتِ الذهاب إلى أربد ليراكِ الطبيب". ‏

معزوزة: "ماذا تقولين؟ يكشف عن يدي طبيب! إنَّ كَسْر يدي لأهون عليّ من أن يمسّها رجل". ‏

علت ضحكاتنا لكلام معزوزة، وفي نهاية السهرة استأذن الجميع عائدين إلى بيوتهم.‏

‏ جافى زوجة عمّي النوم ليلتها، كانتْ قلقة على البقرة، أشعلتْ ضوء السراج، وذهبتْ إلى الحظيرة ‏لتتفقَّدها، فتبعها عمّي، وعندما رجعا قالت: "غدًا سأحضر قطعة من ملابس ذاك الأبله وأُحرقها؛ لأَرقّي ‏البقرة، علّني بذلك أطفئ نار عينه الحاسدة".‏

‏ ومع صياح الديك علا دخان الحطب محتضنًا إبريق الشاي، وعلى رائحة العجين الذي تَخمّرَ ‏استيقظتُ، وقبل أن يذهب عمّي إلى عمله برّ بوعده وذبح الديك، ممنِّيًا نفسه بمرقِه اللّذيذ، غابتْ زوجة ‏عمّي وتركتني أغلي الماء؛ لأغمس الديك المذبوح فيه، ثمّ أنزع ريشه، وبينما كنتُ كذلك، عادتْ ‏وأحضرتْ معها قميصًا، وقصّتْ منه قطعة صغيرة، وأحرقتها، ثمّ ذهبتْ إلى البقرة، وأخذتْ ترقّيها، ‏وتحوّطها بالدخان، وتقرأ عليها آيات من القرآن الكريم، ثمّ أطفأتْ القماشة، ومسحتْ جبين البقرة بما ‏تيسَّر لها من رماد القماشة قائلة: "فقأ الله عينكَ يا عبد الحليم". ‏

فجأة سمعنا صوتًا خلف الباب: "أعيدي إليّ قميصي، لقد رأيتكِ وأنتِ تسرقينه عن سلسلة الحجارة التي ‏نَشَرْته فوقها؛ ليجفّ".‏

‏-‏ عن أيّ قميص تتحدَّث أيّها الأبله؟ ‏

‏-‏ قميصي.. لقد سرقتِ قميصي. ‏

أخذتْ ترميهِ بالحجارة: "انصرف من هنا، إن علمَ شَوْكت بمجيئكَ، فسيقتلكَ".‏

‏***‏

‏ انتهتْ ضيافة عمّي لي، وفي رحلة العودة كانتْ نوافذ عيوني تتطلّع إلى عمّان، استقبلتنا ابنة عمّي ‏سليمان قائلة: "جاءتنا يوم أمس ضيفة عزيزة، أتتْ لتسلّم عليكِ". ‏

شممتُ رائحتها تعبق المكان، غدا قلبي كأرياش عصافير لوَّنها الفرح، أتت أمّي حاملةً في يديها نفحة ‏من قداسة الأقصى، وبخورًا من السيدة العذراء، كان حضنُها غطاءً يقيني همهمات القدر، إنّها هي... ‏إنّها أمّي.