الغبار

‏ قصة: عمر ضمرة‎*‎

كاتب أردني

 

قالت الخبيرةُ في الأرصاد الجويّة إنَّ هناك ثلوجًا ستعمّ مختلف المناطق، حيث أكّدت أنَّ الثلوج ‏ستتراكم في الطرقات وعلى ارتفاعاتٍ منخفضة عن سطح البحر.‏

كانت ترتدي تنورةً سوداءَ وكنزة صوفيّة سُكّريّة اللّون مع ربطة على العنق أشبه بالوشاح الصغير. ‏وكانت تتدلّى خصلات شعرها الكستنائيّ المتموِّج والمعتنى به بمجفف الشعر، على الوشاح ‏والكنزة.‏

كانت سيجارتي على وشك الموت، وكنتُ أستعدّ لإحياء سيجارة أخرى من علبة السجائر الزرقاء ‏المُمدَّدة أمامي على الطاولة، وأنا أراقب النشرة الجويّة.‏

في الواقع أثارت الفتاة الخبيرة بأحوال الطقس غريزتي، وسألتُ نفسي هل هي متزوجة أم مخطوبة ‏أم عزباء..؟ قد تكون تعيش قصة حبٍّ مع أحدهم. كيف ستمضي هذه الليلة، هل لها أخوة ‏وأخوات..؟ ربّما. أم وحيدة لوالديها..؟ ما ديانتها..؟ هل هي مسلمة؟ أم مسيحية؟ سنية أم شيعية؟ ‏كاثوليكية أم بروتستانتية؟

ماتت السيجارة الثانية، أطفأتُها على عجل. قلتُ: سأشعل أخرى بعد النَّظر من النافذة.‏

كانت الحركة في الشارع منعدمة...لا مارَّة ولا حتى سيارات. وكان السكون يخيِّم على ليلتي.‏

قالت إنَّ الثلج سيكون صباحًا. لن أنام.. هكذا قرَّرت. معي سجائر كافية، فقد أخذتُ احتياطي ‏تحسُّبًا لأيّ طارئ.‏

سأشاهد الثلج مع ساعات الفجر الأولى. سيكون منظره جميلًا، وسيترك انطباعًا أجمل بأنَّ ‏الأرض تغتسل وتتطهَّر، فقد كان لديّ إحساس، ومنذ الصغر، بأنَّ الثلج ينقّي الجوّ ويشبه ‏الكحول الطبيّة التي تطهِّر الجراح، ولا أعلم مصدر هذا الشُّعور.‏

أصبحت الساعة الثانية والنصف تمامًا، لقد شعرتُ بالنُّعاس، إلا أنني تذكّرتُ الثلج.‏

أطفأتُ السيجارة وقررتُ أن أغفو قليلًا، لن يفوتني منظر تساقط الثلج. فجأة تذكّرتُها.. ابنتي ‏الوحيدة التي ماتت منذ سنتين مع والدتها إثر حادث مروريّ.‏

قلتُ في دخيلتي: مضت سنتان، آن الأوان لكي أنسى... يقولون إنَّ الزمن يداوي جراحنا... وأنا ‏كذلك قلتُ معهم، مواسيًا نفسي الثكلى، وقلبي المُحطّم.‏

لم أغفُ نهائيًّا وبقيتُ أدخن بشراهة. أصبحت الساعة الرابعة فجرًا. سمعتُ صوت الريح يلطم ‏النوافذ، ويبحث عن أيّة شقوق ليُحدث صفيرًا مرعبًا. قمتُ إلى النافذة وأزحتُ الستارة لأشاهد ‏الثلج. إلا أنني لم ألحظه... حتى أنها لم تمطر. قلت بالتأكيد الثلج قادم. الخبيرة في الأرصاد ‏الجويّة أكّدت ذلك، بناء على معطيات عالميّة.‏

كانت جميلة جدًا، مكتملة الأنوثة. لا يمكن أن تكون إلا خبيرة وعالمة بالتفاصيل.‏

بدأتُ أحسُّ بطعم الغبار في أنفي وفمي، وتساءلتُ، كيف ولماذا؟ غبار في كانون والمنخفض ‏القطبي والثلج!! لا يمكن.‏

لكنَّ الدقائق التي كانت تمرّ، كانت تجذب معها المزيد من الإحساس بالغبار الذي يزكم أنفي ‏وفمي... فعلًا بدأتُ أشعر وكأنني أختنق. قلتُ: "متى سيبدأ الثلج بالتساقط؟"، قمتُ مرَّة أخرى ‏إلى النافذة وكانت الساعة تقارب السادسة صباحًا. يا إلهي غبار وزوابع...أكياس سوداء تتطاير ‏في السماء، وسجائر ميتة، وقطط منتفخة تموء على الشارع وكأنها تتألم، بينما الكلاب المنتفخة ‏أيضًا تقفز في الشارع وألسنتها متدلية على غير العادة، وتكاد تلامس الإسفلت... كلاب كثيرة ‏وقطط كثيرة... وجرذان بأذنابها الطويلة وأسنانها البارزة، إلا أنها بدت أقل بشاعة مما اختزن في ‏ذاكرتي من صور لها في البرامج الوثائقية.‏

الله أكبر ما الذي يحدث...؟‏

أين الثلج؟!‏

عدتُ إلى الطاولة لأجد أنَّ علب سجائري نفدت. بحثتُ في كل مكان. قلتُ: أنا عملتُ حسابي، ‏واحتطت جيدًا، إذْ ابتعتُ العديد من علب السجائر. كيف تموت كلها.‏

لم أجد أيّ سيجارة. تضايقتُ كثيرًا، وتفاقم إحساسي بالاختناق جراء الغبار. ذهبتُ إلى النافذة مرة ‏أخرى لأرى القطط والكلاب والجرذان.‏

إلّا أنني لم أشاهد غير الأكياس البلاستيكية المتطايرة في السماء، والتي كانت تكبر وتكبر وتحلّق ‏عاليًا بفعل الريح والغبار.. وبدت مثل التوابيت.‏

قلتُ: ربّما تغيَّرت العادات وأصبحوا يضعون الجثث في أكياس مخصَّصة للتحليق في السماء، ‏بدلًا من دفنها في التراب... على الأقل ستجد الطيور الجارحة ما يسدّ جوعها، وستغدو أكثر ‏فرحًا، إلّا أنَّ دود المقابر سينقرض، ربّما يصبح نباتيًّا. ولكن البكتيريا.... أف... ما هذا ‏الهذيان!!‏

بدلًا من الثلج يأتي الغبار الذي بدأ يكسو جلدي ورأسي، حيث أحسستُ برأسي الكبير بفعل الغبار ‏المتراكم، وكذلك أذنيّ وأنفي وفمي وعينيّ ولساني.‏

قلتُ إنَّ الموت يأتي غالبًا في الصباح، ربّما أنني سأموت. لست خائفًا من الموت أو الاختفاء ‏والذهاب إلى المجهول، إلا أنني غضبتُ كثيرًا، لأنهم كذبوا علينا مثل العادة.‏

لم يأتِ الثلج، بل أتى الغبار الذي أصبح صديدًا، وغضبتُ لأني لم أبتَع ما يكفي من علب ‏السجائر، لقد صدَّقتهم وصدَّقت نفسي... إلا أني وايّاهم كنّا نخدع أنفسنا، ولم يكن إلا الغبار ‏الذي غطّى السماء هو وحده الحقيقة المُرّة التي كانت تفرض واقعًا قاسيًا يزيد من ألم جراحنا... ‏فبدأتُ بالصراخ.‏