سليمان القوابعة في "دروب الرمل" ‏ التقنيات التقليديّة والرؤية العميقة ‏

د. سلطان الزغول*‏

 

يبني سليمان القوابعة رواية "دروب الرمل"- (الآن ناشرون وموزعون/2017)، ‏وهي آخر عمل روائي نُشر للكاتب- على توازي ودمج ثنائيتين أساسيتين؛ الثنائية ‏الأولى رأساها الفلسطيني التائه الذي يناضل لاستعادة وطنه المفقود، والغجري التائه ‏الذي انقطع أمله في الوصول إلى وطن. أمّا الثنائية الثانية فرأساها بدويّ من جنوب ‏الأردن يدافع عن أغنامه بمواجهة الذئاب، وفلّاح من أهوار جنوب العراق يدافع عن ‏مزروعاته بمواجهة الخنازير، وكلاهما (الأغنام والمزروعات) وسيلة الحياة والاستمرار ‏لكلٍّ من البدوي والفلّاح. لكنّ الطرف المركزي من أطراف الثنائيتين هو الفلسطينيّ ‏الذي يتّصل خلال تيهه بالأطراف الأخرى كلها: الغجري الذي كان يوازيه في مرحلة ‏ما، ثم يساعده على اجتياز دروب الرمل، والبدوي والفلاح اللذين يحتضنانه ويعينانه، ‏بل يجاهدان معه لاستعادة وطنه. ‏

ولا تنفصل أيّ من الثنائيتين عن الأخرى، فهما تتكاملان لتحملا خطاب الرواية ‏الذي يحتفي بالحرية، انطلاقًا من إطار قومي في الأساس، على المستوى الأفكار أولًا، ‏ثم على مستوى الخطّ الجغرافي الذي تسير عبره الشخصيات، من القدس إلى عمان ‏فجنوب الأردن، ثم شرقًا إلى بغداد وصولًا إلى الأهوار في جنوب العراق.‏

يشيد القوابعة روايته على الشكل التقليدي، فنحن أمام حدث روائي يتصاعد حتى ‏يبلغ ذروته فتنفكّ عقدته، كما أن مسرح الأحداث واضح، وهو فلسطين والأردن ‏والعراق، وزمانها جليّ، وهو نهاية خمسينيات القرن العشرين وأوائل ستينياته. أمّا صيغة ‏الراوي العليم فهي صيغةُ السرد الأساسيّة، وإن قاد دفة السرد أحيانًا أحدُ الشخصيتين ‏الرئيسيتين (يحيى وسامح)، لجلاء جوانب الأحداث بشكل أكثر وضوحًا. أمّا ‏الشخصيات فهي ذات سمات وملامح جليّة بنيت بعقل منطقيّ يستند إلى وقائع ‏التاريخ، بل إنّه يستعين في بعض المشاهد بشخصيات حقيقية، كيعقوب الزيّادين ‏الطبيب الماركسي، ابن جنوب الأردن الذي نجح عن دائرة القدس في الانتخابات ‏البرلمانية عامَ 1956، والذي يساعده أثناء اعتقاله في سجن الجفر، وعسكريا تعرض ‏للإصابة بجرح خطير في أحد مشاهد الرواية، وتيسير السبول الشاعر والكاتب ‏المختلف، الذي يظهر فتى صغيرًا متحمّسًا منتقِدًا بحرارة الأوضاع السياسيّة ‏والاجتماعيّة في مشهد آخر.‏

من أبرز ما تتميّز به الرواية وصف عالم الصحراء؛ رملها ومفاجآتها، وتنقل ‏الغجر في أرجائها القصيّة غير معترفين بالحدود بين الأقطار العربية، تحمل أجسادهم ‏عبء قسوتها، بل يتساقط بعضهم صرعى في مواجهتها، ويغطي وجوههم غبارها ما ‏إن يصلوا إلى محطة من محطات ترحالهم الدائم. وهو عالم خبره القوابعة وأتقن جلاء ‏أسراره في أكثر من عمل روائي من أعماله، أمّا الجديد فهو وصف عالم الأهوار ‏المدهش بطبيعته القاسية، الفلاحين الذين يجولون المياه الضحلة بمراكبهم يصيدون ‏الأسماك، ويزرعون الأرز (الشلب)، ويربون الجواميس، ويواجهون الخنازير البرية التي ‏تحاول تخريب مصدر رزقهم.‏

تبدأ الرواية باعتقال "حسيب سعيد" أثناء مشاركته في مظاهرة سياسية، ثم نقله ‏من القدس إلى عمان للتحقيق، قبل أن يُنفى إلى الشوبك، وبعد مدة قضاها في ‏الجنوب القصيّ أُعيد إلى سجن المحطة في عمان. وقد تعرّض خلال ذلك لضغوط ‏رجال الأمن حتى رضخ أخيرا. وسرعان ما اعتُقل سامح الأحمد ويحيى عبد الرحيم، ‏وهما الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية، ونُفيا إلى الطفيلة، ثم كُلّف حسيب ‏بمتابعتهما. ‏

بعد أن ازدادت الضغوط على سامح الأحمد قرّر الفرار شرقا إلى العراق، وتمكّن ‏من الوصول إلى الأهوار قرب مدينة العمارة، حيث احتضنه أهلها وآووه. أما يحيى ‏فواجه مراراتٍ وأهوالًا وتعرّض للتعذيب الشديد، خاصة بعد فرار صاحبه ورفضه ‏الإفصاح عن أي معلومات تقود إليه. ثم استقرّ به المقام في سجن الجفر قبل أن ‏يساعده أحد الحراس على الهروب، وهو فتى بدوي تعلّم على يديه في الطفيلة، أثناء ‏إقامة يحيى فيها منفيًا، وأحبّه وتأثر بشخصيته. وكانت خطة الهروب تتضمن السفر ‏عبر الصحراء مشيًا على القدمين، بعيدًا عن الطرق المألوفة، وصولًا إلى مضارب ‏عشيرة الفتى. وهي رحلة قاسية طويلة، اكتشف خلالها يحيى عوالم الصحراء المدهشة ‏حدّ الرعب، والساحرة في بعض مفاصلها. وبعد أن احتمى مدة من الزمن في مضارب ‏البدو، عاد إلى الطفيلة متخفّيًا، قبل أن يرافق الغجر (النور) في رحلة طويلة أخذتهم ‏شمالًا، ثم انفصل عنهم في (الرطبة) على الحدود العراقية، ليكمل طريقه إلى بغداد ثم ‏العمارة، وصولًا إلى رفيقه سامح الأحمد في أهوار العراق. أمّا الغجر فأكملوا رحلتهم ‏التي قادتهم إلى أراضي الجزيرة السورية.‏

وتنتهي الرواية بعودة يحيى إلى الطفيلة بعد إعلان العفو عن المعتقلين السياسيين ‏أوائل ستينيات القرن العشرين، وزواجه من (رتيبة)، الفتاة الغجرية التي أنقذها المختار ‏محمود بن مفلح من الموت في أطراف الطفيلة وتبناها، وذلك ليظلَّ قريبًا من القدس ‏على أمل العودة إليها، موثّقًا علاقة الفلسطيني التائه بالغجري المشرّد. أمّا صديقه ‏سامح فانتقل للعمل في الخليج العربي، باحثًا عن المال وسيلة للاستمرار.‏

تتناسب لغة الرواية مع تطوّر حركة السرد، فهي تمضي محايدة في الفصول ‏الأولى التي يتطوّر فيها الحدث بسرعة مع اقتصاد في الوصف، لنتعرّف جوانب ‏الحدث وخطوطه العريضة. لكنّها تصيرُ أكثرَ حرارة ما إن ينتقل الراوي بنا إلى قرية ‏قصيّة في الأهوار لنتعرّف عالمها ومفرداته، وتبدأ بالتجلّي في وصف مشهد معركة ‏علاوي- ابن الشيخ محسن الذي سيستقبل لاحقًا بطليّ الرواية تباعًا- مع خنزير بريّ، ‏ثم انتقاله مع أصدقائه لحضور عرس يحييه الغجر. ويستمرّ الراوي في وصف مميز ‏لحياة الأهوار، ويمضي الزمن الروائي بطيئًا، لكنّ الراوي يدفع السرد بذكاء إلى مآلات ‏التشويق، موظفًا الجماليات اللغوية لتعويض حركة السرد البطيئة.‏

حين ينتقل الراوي من الأهوار إلى الطفيلة تكتسي اللغة مسحة من السخرية المرّة، ‏خاصة في حوارات يحيى وسامح التعارفية مع أهل البلدة الذين يشعرون أنّهم منفيون ‏مثل من يستقبلونهم في بلدتهم من السياسيين المُبعدين. وسرعان ما تطغى مسحة ‏الحزن على لغة الرواية حين يصف الراوي ليلة طرب غجرية يحضرها بطلا الرواية، ‏فنتلمّس معاناة الغجر، وإمتاعهم الآخرين رغم وجعهم. أمّا حين يُشيّع أحدُ شهداء البلدة، ‏الذي قضى "إثر هجوم العدو على بلدة قبية غرب القدس" (الرواية- ص87) فتعلو ‏نبرة الحماس، وتهتزّ معالم السرد بفورة غضب تظهر على ملامح الشخصيات وحركة ‏المشيعين وأناشيد الشباب، وينقل الراوي ذلك كلّه بلغة عامرة بالمشاعر الوطنية ‏الجياشة، تظهر شجاعة أهل البلدة وحبّهم لفلسطين وعشقهم القدس، كما تظهر حزن ‏الشيوخ النبيل وانثيال المشاعر القومية. ‏

في هذا المقام نشير إلى الحوارات في الرواية، التي تُبنى بلغة عربية مبسّطة، ‏تتداخل مع العامية أحيانًا، لتكون أكثر إقناعًا، خاصّة حين يكون الحوار مع غجري ‏أميّ مثلًا، أو في الأهوار، حيث تمتلك العامية العراقية سحرًا خاصًّا لا يمكن نقل ‏ظلاله عبر تفصيحها. ‏

يتبادل الراوي العليم قيادة دفة السرد مع بطليّ الرواية (يحيى وسامح) حسب ‏مقتضيات تطوّر الحدث، فزاوية الرؤية تحدّد ما تريد الرواية طرحه من أفكار. فحين ‏يكون الهدف، مثلًا، جلاء أفعال حسيب في مراقبة رفيقيه ومتابعة حركته في المكان، ‏فإنَّ الراوي العليم هو الأقدر على تحقيق ذلك، أمّا إذا كان الهدف تقديم رؤية يحيى ‏وموقفه وتداعياته الداخلية فإنّ أخذه زمام الروي يعطي المشهد وضوحًا أكبر. أمّا إذا ‏أراد الراوي نقل أحداث توضيحية، أو أفكار عامة تغني تطوّر الحدث الرئيس، فإنَّه ‏ينقلها عبر حوارات تجري أمام دكان البلدة الرئيسي. ولا نستطيع أن نعدّ الرواية من ‏روايات تعدّد وجهات النظر، لكنها تمنح ليحيى خاصة، ولسامح أحيانًا، فرصة تقديم ‏وجهة نظره التي يتم عرضها بتعاطف مع معاناته في سبيل أفكاره، ودفعه ثمنًا غاليًا ‏للوصول إلى الحرية، دون تحقيق أي من أهدافه الكبرى بتحرير الأرض، حتى تنتهي ‏الرواية بترك باب الأمل مواربًا.‏

تصف الرواية ملامح حياة السجن البشعة في خمسينيات القرن العشرين، وتبرز ‏وجهة نظر يحيى ساردًا تفاصيل التحقيق، وغرف التعذيب، ومنامات السجناء المعتمة ‏حيث "سطوة العتمة تُطبق على البصر، وإن تسرّب للمكان قليلٌ من ضوء يأتي من ‏كوّة باتساع الكفّ سقط غطاؤها. وللمقيم فراش تنبعث منه روائح نتنة، وله أن ‏يلمح بعد فرصة ضوء ما يمشي بأسراب على الجدران إذا فُتح الباب، ومن خلاله ‏يدرك أن ما يتحرّك بلونه البنيّ هو فصيلٌ من (البق)" (الرواية- ص 96). وتكاد ‏تبرّر بوصف هذه القسوة تخلي حسيب عن أفكاره واستسلامه، أما يحيى فهو البطل ‏الذي لم يتمكن المحقق من إخضاعه، رغم استخدام أبشع وسائل التعذيب الجسدي ‏والنفسي، وترهيبه وتهديده ونقله بين السجن والمنفى وصولًا إلى وضعه أخيرًا في ‏معتقل الجفر الصحراوي، وهو المعتقل الأقسى في الأردن ذلك العهد. ‏

ومن المفارقة أنَّ يحيى قبل أن يصل سجن الجفر يقيم مدة في معسكر (مخفر ‏باير) مع بعض رفاقه، بسبب عدم توافر أمكنة لهم في الجفر، فينام في خيمة مكشوفة ‏للعواصف الرملية التي كانت تحملها وتلقي بها دون هوادة، ويتعرّض للسعات العقارب ‏والحرّ والقرّ الشديدين، لكن فترة إقامته في هذا المكان القصيّ تعدّ فترة راحة قبل ‏الانتقال إلى السجن الحقيقي. ويواجه يحيى القسوة والبشاعة بالتمسّك بالأمل، واللجوء ‏إلى الذاكرة مستحضرًا لحظات الفرح التي عاشها ذات زمن مضى.‏

بعد أن يفرّ يحيى من السجن يلجأ إلى الصحراء، ورغم برد ليلها الموجع، وعواء ‏ذئابها المخيف، وظمئه المتواصل، فإنّه يستأنس بصوت الذئب بدل أن يخافه: ‏‏"أمعنت في السير ثم أبطات؛ إذ بدأت خطواتي لا تتفق معي، وأنا بين عتمة الدرب ‏وما لحقني من تعب، فآن لي أن أطلب الراحة بجانب صخرة، وصوت ذئب يستقرّ ‏في سمعي، فأنا وإياه من رفاق صحراء الصمت، فقد اعتدت سماع صوت ذئب ‏براري الرمل، فليؤنسني بصوته رغم أنني أحسست بالظمأ.." (الرواية- ص 159-‏‏160).‏

ونلاحظ في هذا المقطع تناصًّا مع قول الشاعر المخضرم أحيمر السّعدي:‏

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى     وصوّت إنســــــان فكدت أطيــــــرُ.‏

وهو الشاعر الذي عاصر نهايات الدولة الأموية وبدايات الدولة العباسية، وقضى ‏معظم حياته مُطاردًا، فلجأ إلى الصحراء مبتعدًا عن البشر، فكأنَّه بهذا البيت يعبّر عن ‏حال (يحيى) المطارد في براري الرمل.‏

في رحلته الصحراوية يكتشف (يحيى) عالمًا مليئًا بالأسرار؛ غجرًا دفنتهم الريحُ ‏مع خرابيشهم وحميرهم وكلابهم، رعاةَ إبل وأغنام على عتبات (الشراة) يجوسون ‏الصحراء، وهم يتغلّبون على الضجر بالقصيد، ومعظم كلمات الغزل التي تسيل على ‏ألسنتهم لا تخلو من ذكر الأمكنة، لكن المفاجأة هي بلدات فلسطين التي تمثّل لهم ‏الجنةَ المشتهاة. ثم يلتقي شيخًا فقد ابنه في معركة (باب الواد)، يستأجره لرعي أغنامه، ‏وبعد أن يتخفّى عنده زمنًا يتعلّم خلاله مهنة الرعي يمضي لهدفه، وقد زادته الرحلة ‏تصميمًا: "حتى في هذه البراري المنسيّة والضاربة في عزلتها أجد مفردات تواجهني ‏كي لا أنسى. فتبدو لي مثل صدى لما أستره في شرايين القلب التي أوجعتها مراحل ‏التعذيب. فكيف أنسى؟" (الرواية- ص 166).‏

من الشخصيات الواقعية التي تعرض الرواية نُتفًا من حياتها، إضافة إلى السياسي ‏الماركسي الشهير يعقوب زيّادين، وتيسير السبول اللذين أشرنا لهما سابقًا، شخصية ‏الشاويش صايل الذي يتعاون مع السجناء ويساعدهم، وشخصية شوكت السبول، أخي ‏تيسير الذي كان معتقلًا مع الضباط الأحرار في الجفر، وكان أحد المُخططين لحفر ‏نفق للهروب من السجن، والذي يتلقى في أحد مشاهد الرواية قصائد حزينة من تيسير. ‏وبذلك فإنَّ الرواية تعرض لحقبة مهمة من حقب تطوّر الأردن الحديث، وهي الحقبة ‏التي تلت الانفراجة السياسية عامَ 1956، حيث سادت الأحكام العرفية والاعتقالات، ‏وصولًا إلى استقرار الأوضاع والإفراج عن السجناء السياسيين. لكن هذا لا يعني أنَّ ‏الرواية توثّق وقائع التاريخ، بل تنطلق من هذه الوقائع لصياغة رؤيتها الفنية والفكرية، ‏وقراءة التجليات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة لهذه المرحلة التاريخية المهمة.‏

يبرز لنا بوضوح تقليدية الرواية، واعتمادها على تطوّر الحدث التراكمي بهندسةٍ ‏محسوبة، وصولًا إلى الذروة، ثم حل العقدة الروائية في النهاية ليحظى القارئُ ‏بالاطمئنان على الشخصيات التي عاش معها خلال متابعته للحدث الروائي. وإن كان ‏يحيى الفلسطيني يعلن لزوجته الغجرية في نهاية الرواية أن "الرحلة يا (رتيبة) لم تنته ‏بعد، فنحن معها، ومن أطيافها. نعم، هي لم تنته بعد". (الرواية- 245).‏

•شاعر وناقد أردني