الأديب أمين معلوف حضور المكان والزمان.. رحلة مع السرد

سامر أنور الشمالي

أديب وناقد من سورية

 

اختار الروائيُّ المعروفُ (أمين معلوف) أن يكون بطلُ روايته (ليون الأفريقي) الشاهدَ على ما ‏جرى في عصره، فهو طاف في البلاد المتحاربة، والتقى الشخصيات المتقاتلة، وأدار حواراته بأكثر من لغة. ‏ولم يشعر بالغربة أو يجتاحه الحنين، فهو لا يجد نفسه مرتبطًا بمكان محدد، أو منتميًا إلى قوميّة بذاتها، أو ‏معنيًّا بلغة دون الأخرى، فضلًا عن أنّه منفتح على الأديان كلها. إنّه يرتاح في المكان الذي يوفر له حياةً ‏كريمةً هانئة، ويتكلّم لغة أهل البلاد التي يقطن فيها، حتى إنّه تزوّج من نساء ينحدرن من أعراق عدة، ‏وينتمين إلى أديان مختلفة، وينجب منهن أيضًا، دون الإحساس بوجود عائق شخصيّ لديه، أو أنَّ مشاكل ‏اجتماعية محتملة سوف يعاني منها أولاده في قادم الأيام.‏

ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا البطل لم يكن محور أحداث الرواية كلّها، بل ذريعة لعرضها، فالبطولة ‏الحقيقيّة كانت للوقائع المبنية على أحداث تاريخيّة جرت بالفعل، وإن كانت الشخصية المتخيلة حاملا لها، ‏ومبررًا فنيًّا لعرضها ضمن سرد قابل بطبيعته للكثير من المعالجات الفنية، فالرواية بأساليبها المتعددة يمكن ‏استثمارها بطرق كثيرة. ولكن: (كلما تعددت الإشارات المباشرة إلى المواقف والأحداث والشخصيات ‏القائمة خارج النصّ الإبداعي، بأسمائها المعروفة تاريخيًّا، صبغت العمل تدريجيا بصبغة سياسية)‏ ‏ ورغم ذلك ‏امتلكت الرواية القدرة على تجنب المباشرة لتنوّع أساليب السرد، وهذا يوفر مساحة أوفر لحرية التعبير، ‏لاسيّما إذا كان الروائيّ لا يحبذ إشهار أفكاره في دعوة صريحة إلى القارئ لتبنيها.‏

‏***‏

العتبةُ السرديّةُ الأولى تشير صراحة إلى منطقة جغرافية محددة (ليون الإفريقي) ومنذ السطور الأولى ‏ثمة تمهيد مكثف لتقديم الشخصية التي ستلعب دور البطولة، حيث تتضح أهم سماتها، حتى إن الفقرة ‏الأولى تبدو مثقلة بالمعلومات وإن تكن غير زائدة عن السرد المكثف والمثقل بالأخبار: (خُتنت، أنا حسن ‏بن محمد الوزان، يوحنا- ليون دومديتشي، بيد مزين وعمِّدت بيد أحد البابوات، وأُدعى اليوم الإفريقي، ‏ولكنني لست من إفريقيا ولا من أوربة ولا من بلاد العرب، وأُعرف أيضا بالغرناطي والفاسي والزياتي، ‏ولكنني لم أصدر عن أي بلد، ولا عن أي مدينة، ولا عن أي قبيلة، فأنا ابن السبيل، وطني هو القافلة ‏وحياتي هي أقل الرحلات توقعا)ص9.‏ ‏ وهذا المغامر التاجر- كما في الحكايات ورواية (رحلة بالداسار) ‏أيضًا- ينتقلُ من القصور المزخرفة إلى السجون المعتمة، ومن الثراء المترف إلى الفقر المدقع، ومن صحبة ‏الملوك والأمراء إلى مرافقة اللصوص وقطاع الطرق، فضلًا عن أنّه ينظُم الشعر في مديح السلاطين والأمراء، ‏ولكن الشعر لديه بقي هامشيًّا في حياته، فلم تكن له هواجس الشعراء ومزاجهم، فاهتمامه كان منصبًا ‏على الكتابة عن الأمكنة التي يعرفها جيّدًا، وعلى تدوين رحلاته التي وجدها تستحق العناية لأنها لم تكن ‏بالعادية: (وضعت في هذا العام اللمسة الأخيرة لكتابي "وصف إفريقية". ثم قررت من غير أن أستريح يوما ‏واحدا أن أنصرف إلى تأريخ حياتي والوقائع التي قدر لي أن أدانيها) ص377. ونلحظ أنَّ ثمة كتابا آخر ‏لصاحب السيرة الذاتية بعنوان (وصف إفريقيا) ولكنّه لم يضع عنوانا ليومياته حتى بعد الانتهاء منها. ‏وبذلك اشترك الروائيّ والشخصية في وضع العنوان (ليون الإفريقي) الذي يشير إلى القارة السوداء. علمًا ‏أنَّ الرواية لم يقتصر وصفها على إفريقيا- كما كتاب الشخصية- لأنَّ بطل الرواية تنقل بين قارات ثلاث ‏‏(إفريقيا- آسيا- أوربا) ولكن رحلاته انطلقت من إفريقيا، ومن هنا غلبت عليه صفة (الإفريقي) رغم أنّه ‏ولد في القارة الأوربية وعاش فيها شطرا من حياته: (أحضر لي من تونس صندوقًا صغيرا يحتوي على الأوراق ‏الكبيرة الحجم التي كنت قد دونت فيها ملاحظاتي عن أسفاري، والتي سوف أتمكن بها من كتابة العمل ‏الذي كثيرا ما طولبت به منذ وصولي إلى رومة: وصف لإفريقية وما فيها من أشياء مهمة) ص357.‏

فرواية (ليون الإفريقي) هي سيرة حياة الشاهد على أحداث عصره التي عايش أغلبها بنفسه، ‏فزمنه غني بالأحداث الخطيرة التي رسمت خارطة العالم فيما بعد. وهو يقوم بهذا العمل بجدية مدركا أهميته: ‏‏(لو أني تكتمت عليه لخنتُ مهمتي كشاهد أمين) ص119.‏

‏***‏

في السفينة العائدة من روما إلى تونس يكتب المغامر السطور الأخيرة عن رحلاته وما شاهده، ‏وكأنّه يقرّ باختتام سفراته التي خاضها بمتعة وجرأة رغم المشاق والأخطار. وعلى الرغم من أنّ الرحالة لم ‏يطعن في السن- أتم عقده الرابع منذ عهد قريب- فإنّه شعر بالحاجة إلى الراحة بين الأهل بعدما طال ‏البعاد والتعب، وكأنّه العجوز الحكيم، ومبرر هذا أنّه يتوجه بخطابه إلى ولده، موطّنا في نفسه ترك إرث ‏ثقافي يفيده في حياته، فمعرفة أحوال البلاد تعينه في معيشته، فربما يجنح إلى طبع والده ويشد الرحال، أو ‏يعمل في التجارة. وضمنًا يتوجّه الأب إلى الجيل الذي لم يكتب له العيش في أيام الزهو والترف، وإن ورث ‏عقابيل الهزائم المريرة: (رسمت آخر كلمة على آخر صفحة وكنا قد أصبحنا عند الساحل الإفريقي. مآذن ‏قمارت البيضاء، أطلال قرطاجة الشامخة، إن النسيان يتربص بي في ظلالها، وباتجاهها يتحول مجرى حياتي ‏بعد تعرضي لعدد من حوادث الغرق. خراب رومة بعد نكبة القاهرة، وحريق تومبكتو بعد سقوط غرناطة: ‏أتكون المصيبة هي التي تناديني، أم إنني أنا من يستدعي المصيبة؟ مرة جديدة يا بني يحملني هذا البحر ‏الشاهد على جميع أحوال التيه التي قاسيت منها، وهو الذي يحملك اليوم إلى منفاك الأول. لقد كنت في ‏رومة ابن الإفريقي؛ وسوف تكون في إفريقية ابن الرومي. وأينما كنت فسيرغب بعضهم في التنقيب في ‏جلدك وصلواتك. فاحذر أن تدغدغ غريزتهم يا بني، وحاذر أن ترضخ لوطأة الجمهور فمسلما كنت أو ‏يهوديا أو نصرانيا عليهم أن يرتضوك كما أنت، أو أن يفقدوك. وعندما يلوح لك ضيق عقول الناس فقل ‏لنفسك أرض الله واسعة، ورحبة هي يداه وقلبه. ولا تتردد قط في الابتعاد إلى ما وراء جميع البحار، إلى ما ‏وراء جميع التخوم والأوطان والمعتقدات) ص388-389.‏

وأن يكون الراوي هو الأب الذي يتوجّه إلى ابنه عن طريق المذكرات سيكرره (معلوف) لاحقًا في ‏رواية (القرن الأول بعد بياتريس).‏

‏***‏

على الرغم من أنَّ الرواية بضمير المتكلم فإنَّ الراوي قد ينقل ما يقوله الآخرون له، وعادة يخبرونه ‏بأشياء لم يتسنّ له معرفتها بنفسه أو معاينتها عن قرب: (في اليوم السابع على ولادتي استدعى أبي حمزة ‏المزين لختاني ودعا جميع أصدقائه إلى مأدبة) ص17. كما نلحظ أنَّ البطل لا يكتفي بإخبارنا بالأحداث ‏التي جرت له منذ طفولته المبكرة، بل يروي الأحداث التي سبقت ولادته عن طريق أمّه التي كانت تروي ‏قصة حياتها لابنها، وتروي أيضًا جانبًا من تاريخ غرناطة عاصمة مملكة الأندلس، وذلك كما كانت تدور ‏على ألسنة الناس من حولها: (كانت أمي تقول برتابة العبارات القاطعة: وكان ذلك جزاء وفاقا لجرائم ‏غرناطة. فقد أراد الله أن يُظهر قدرته على ما يَعْدِلها من قدرات، وأن يعاقب صلف الحكام وفسادهم ‏وجورهم وانحلالهم. وسعى إلى تحذيرنا مما سينزل بنا إذا ظللنا سادرين في الغي، ولكن العيون والقلوب بقيت ‏مغلقة) ص23. إضافةً إلى حكايات خاله الذي فتح له باب السفر على اتساعه، وكان رجلًا شهمًا خبيرًا ‏بشؤون الرجال وأحوالهم: (واستأنف خالي قائلا بصوت عاوده الهدوء: ما كان تصرف أبي عبد الله ‏ليفاجئني. فلم أكن أجهل طيش صاحب الحمراء ولا ضعف طبعه) ص35.‏

ولعلَّ من المفيد هنا الإشارة إلى أنَّ رواية (صخرة طانيوس) تمهد قبل ظهور بطلها بتقديم لمحة عامة ‏عن عصره وأسرته وأهل قريته التي سيولد فيها.‏

 

الكتب الأربعة

أشرنا سابقًا إلى سبب تقسيم رواية (ليون الإفريقي) إلى أربعة كتب. وهنا سنعرضها بإيجاز ‏لأهميتها في فهم الرواية ومعرفة أسلوبها.‏

‏1- كتاب غرناطة.. طرد غير المسيحيين

الرحّالة الهُمام (حسن) ينحدرُ من أسرةٍ ثريّةٍ متنفذة في غرناطة، وهذا سبب ليتمكن من الانتقال ‏عبر الأمكنة بيسر دون عوائق اقتصادية وغيرها قد تحد من حركته: (لم يكن ذلك مصير ذوي. فحتى في ‏أسوأ لحظات القحط لم يكن ينقص بيتنا شيء بفضل مكانة أبي. فقد ورث بالفعل عن أبيه منصبا بلديا ‏مهما يقضي بوزن الحبوب والتأكد من سلامة الممارسات التجارية؛ وهذا ما أضفى على أفراد عائلتي لقب ‏الوزّان الذي مازلت أحمله؛ ولا يعرف أحد في المغرب أنني أدعى اليوم ليون أو يوحنا- ليون دومديتشتي، ولم ‏يلقبني أحد بالإفريقي؛ فهناك كنت حسن بن محمد الوزّان، وكان يضاف في الوثائق الرسمية الزياتي نسبة إلى ‏قبيلتي الأصلية، والغرناطي، وعندما كنت أبتعد عن فاس كانوا يقولون الفاسي نسبة إلى أول بلد أقمت فيه ‏بعد نزوحي عن بلدي، ولم يكن موطني الأخير) ص50. لقد اكتسب هذه الألقاب لأنّه لم يستقر في ‏غرناطة العربية التي عاشت في تلك الحقبة أسوأ أيامها، وكان البطل طفلًا عندما نزحت أسرته عن الأرض ‏التي ولدوا عليها وعاشوا جميعا: (كان الغرناطيون يدركون أن النهاية قد قربت، وأن المصائب التي لم يفتأ ‏استغفر الله يتنبأ بها قد بدأت تنهال عليهم، كان يزداد اقتناعهم بأن الشيخ كان على حق منذ البداية، وأن ‏السماء طالما تحدثت بلسانه) ص43. إذن ثمة شخصيات أخرى تشتهر بألقابها أيضًا، وهذا الشيخ نال ‏لقبه من جملةٍ يردّدها بكثرة، وهو ابن مسيحي اعتنق الإسلام، وهذا يدلُّ على أنّ أهل غرناطة لم يشكّكوا ‏في عقيدته وأنّهم يرحبون بالمسلمين الجدد. وفي الوقت نفسه ينظرون بريبة إلى الطبيب (أبو خمر) الذي ‏أطلق عليه الناس هذا اللقب لكثرة شربه الخمر، وهو لم يحظ بثقة الناس رغم أنّه من أسرة مسلمة عريقة. ‏وهاتان الشخصيتان المتناقضتان- ببعديهما النمطي- تعكسان بشكل غير مباشر أفكار المؤلف، وهي ‏قليلًا ما تبرز بطريقة مباشرة في رواياته، ولكنَّ موقف الرجلين المتناقضين وفر جدلًا سمح للكاتب بالظهور ‏عندما وجد من يتحدث بلسانه دون مواربة.‏

نلحظ رجل الدين يجنح إلى الغيبيات، ويرى أن خسارة المسلمين نتيجة تهاونهم في أداء واجباتهم ‏تجاه ربهم، وأنّهم سينتصرون إذا عادوا إلى التمسك بأهداب الدين. بينما رجل الدنيا يميل إلى العلوم ‏الوضعية، ويرى أنّ المسلمين لن ينتصروا إذا لم يتمكنوا من استعمال وصناعة السلاح الجديد الذي يعمل ‏بالبارود. ولكن الحاضنة الاجتماعية التقليدية جعلت من الدين بموروثه قوةً عارمةً لا يمكن التصدي لها، ‏وهذا ما فطن إليه الحكام المتخاذلون الذي غطوا تقصيرهم تجاه شعبهم بسيطرتهم على رجال الدين الذين ‏يبحثون عن مصالحهم الخاصة أيضًا، وهذا من أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط غرناطة آخر مدن ‏الإسلام في الأندلس: (وكانت المعارك حول المدينة المحاصرة أكثر تقطعا وأقل ضراوة. ولم يكن فرسان ‏غرناطة ومشاتها يجرؤون على التجول زرافات بعيدا عن الأسوار، لأن المدفعية القشتالية كانت تبيدهم عن ‏بكرة أبيهم عند كل خرجة. وكانوا يكتفون بعمليات سطو ليليّة صغيرة لمهاجمة زمرة من جنود العدو، أو ‏لسلب أسلحة، أو للاستيلاء على بعض الماشية، وكلها أعمال جسورة وإن كانت لا طائل تحتها، لأنها لم ‏تكن كافية لفك الطوق ولا لتموين المدينة، ولا حتى لاستعادة الشجاعة) ص47.‏

ولم ينجد سلطانُ القاهرة غرناطة، أو السلطانُ العثماني، أو أمراء فاس وتلمسان، وتنصلوا جميعًا ‏من واجبهم المفترض تجاه إخوتهم في الدين، ولهذا تمكن القشتاليون من دخول المدينة، وقد استسلم آخر ‏حاكمها دون مقاومة جدية: (لم أرَ من السلطان غير عمامته التي كان قد لاثها حول رأسه فغطت جبينه ‏إلى الحاجبين. وبدا لي جواده باهتا بإزاء جوادي الحفلات الملكيين اللذين كانا يتقدمان من الناحية الأخرى ‏بخطا وئيدة وقد غطاهما الذهب والحرير. وتظاهر أبو عبد الله بالترجل، بيد أن فرديناد أوقفه بحركة مُطمئنة. ‏وعندها تقدّم السلطان من قاهره وحاول إمساك يده لتقبيلها، ولكن الملك سحبها، ولم يستطع أبو عبد الله ‏الذي كان قد انحنى عليه أن يقبل غير كتفه علامة على أنه لا يزال يُعامل كأمير. لا كأمير لغرناطة على ‏أي حال؛ لقد منحه سادة المدينة الجدد إمارة صغيرة في جبال البيجراس وسمح له أن يقيم فيها مع أهله) ‏ص63. ودخل (فرديناند) و(إيزابيل) الحمراء، وهكذا انتهى الحكمُ العربيّ والإسلاميّ في الأندلس بطريقة ‏مذلة بعد ثمانية عقود مزدهرة. وبعدما أحكم القشتاليون السيطرة على آخر حاضرة للإسلام في القارة ‏الأوربية تقدموا إلى الشاطئ العربي المغربي وانتزعوا مدنا عربية، منها ظل تحت حكم الإسبان حتى الآن!.‏

وفي غرناطة- التي كانت نموذجًا لما جرى في الأندلس كلها- أُجبر الذين دخلوا الإسلام على ‏العودة إلى دينهم لأنَّ المفتشين وجدوا أنَّ الاتفاقية التي تكفل عدم التعرض للمسلمين لا تشملهم، وخشي ‏المسلمون والعرب على أنفسهم ومالهم ففضلوا النزوح، وكذلك اليهود الذين تعرضوا للتنكيل والاضطهاد ‏أيضًا، ولكنهم احتفظوا جميعًا بمفاتيح المنازل لأنّهم لم يفقدوا الأمل بالعودة، فقد وُلد أجدادهم على هذه ‏الأرض التي كانت وطنهم الحقيقي. ثم: (تفاقم الأحداث المثيرة كان يتم بشكل خاص في ألبيسان. فقد ‏أُحرقت غير بعيد من منزلنا القديم كنيسة كانت قد بُنيت حديثا. واقتصاصا لحرقها عيث فسادا في ‏مسجدين. لقد كان كل شخص سطحي الإيمان) ص122. وبذلك برز الصراعُ الدينيُّ الذي كثيرًا ما ‏يكون أحد أوجه الصراع السياسيّ بين من يريد فرض سيطرته على الأرض بحجج يعيدونها إلى السماء. ‏وهذا ما عالجه (معلوف) بطرق متعددة في روايات أخرى، منها رواية (التائهون).‏

 

‏2- كتاب فاس.. الاكتشافات المثيرة

الرحلةُ الأولى لـ(حسن) كانت مع خاله الذي كلفه سلطان فاس الجديد بحمل رسالة إلى ملك ‏السودان لتوثيق روابط الصداقة بين المملكتين، وفي طريق العودة توفي، وخلف الشابَ ذا السابعة عشرة من ‏العمر قائدًا للرحلة، ومنذ ذلك اليوم لم يكف عن الترحال بمفرده أو ضمن قوافل التجّار: (أعرف أسماء ‏ستين مملكة زنجية منها خمس عشرة اجتزت بها واحدة بعد أخرى في ذلك العام من النيجر إلى النيل. ولا ‏وجود لبعضها في أي كتاب، ولكني أكذب إذا نسبت اكتشافها إلى شخصي لأنني لم أزد على أن اتبعت ‏الطريق المألوفة من القوافل المنطلقة من جنة أو مالي أو أوالاته أو تومبكتو إلى القاهرة) ص235. ولم تخلُ ‏هذه الرحلات من المغامرات، والحكايات الغريبة التي سمعها. أمَّا مسرتُه الكبرى فكانت مع الزنجيّة التي ‏تلقاها هديةً، وشغف بها، كما كلّ النساء اللواتي سيعترضن دربه لاحقًا. ولكن سير العشق لا بدّ من أن ‏تنقطع وإن طالت المدة، ففي إحدى الرحلات تهبُّ عاصفةٌ ثلجيّة تقتل الرجالَ والجمال تحت الثلج، ‏ويستغل اللصوص الأمر وينهبون القافلة. ولكن المغامر ينجو لأنّه نام مع تلك الجارية في كوخ صخريّ بناء ‏على نصيحتها، وهي التي أنجته أيضًا من فقره عندما طلبت إلى عشيرتها فداءها بالمال. فدائمًا يقع البطل ‏في المآزق، ولكن سرعان ما يخرج منها، وإن بحلول غريبة أحيانًا.‏

 

‏3- كتاب القاهرة.. صراعات سلاطين المسلمين

يحلُّ (حسن) في القاهرة في عهد حاكمها العجوز الجركسي (قانصوه) الذي يروي طرفًا عن ‏شخصيته الضعيفة، وعن طريقته البليدة في الحكم، وهذا ما يفقده هيبة الملوك ويجعله مثيرًا للضحك- وهذا ‏يذكرنا بنمط الملك الغبيّ النادر في الحكايات الشعبية- ورغم أنَّ بطل الرواية يشترك مع أبطال الحكايات في ‏الخروج من المآزق، حيث تكون المصادفات في صالحه، وبنيله النساء الجميلات، فإنَّه لم يتمتع بالشجاعة ‏التي يتفوّق بها أبطالُ الحكايات على خصومهم، فالحدثُ هنا هو صاحبُ البطولة المطلقة.‏

وفي رحلة مصر يلتقي بالجركسيّة الأرملة والدة الطفل الذي تخفيه عن أعين جواسيس العثمانيين: ‏‏(سوف يزعزع بايزيد بن علاء الدين عرش العثمانيين في يوم من الأيام. فهو وحده القادر، بوصفه آخر ‏الأحياء من سلالته، على إثارة قبائل الأناضول. وهو وحده القادر على أن يجمع حوله المماليك الجراكسة ‏والصفويين الفرس للقضاء على السلطان التركي المعظم. هو وحده. إلا إذا خنقه جواسيس السلطان سليم) ‏ص265. ويتزوّج من تلك الحسناء التي تسعى لزوال ملك الأتراك، ويساعدها في شؤونها رغم أنّه يدعو ‏للسلطنة بطول البقاء لأنّه يأمل بخلاص غرناطة بفضل جيش العثمانيين الذي فتح القسطنطينية وحول ‏كاتدرائيتها (آيا- صوفيا) إلى مسجدٍ يذهب إليه السلطانُ أيامَ الجُمعِ في موكبٍ مهيب: (وعلى الرغم من ‏هذا النزوح فقد بقي الشعب الغازي في عاصمته أقلية بين أقليات أخرى، وليست أكثر الأقليات يُسرا، ‏باستثناء الأسرة الحاكمة. ففي أجمل الدارات، وفي أكثر دكاكين الأسواق رواجا، يُرى على الأخص الأرمن ‏واليونان والطليان واليهود الذين كان بعضهم قد أتى من الأندلس بعد سقوط غرناطة. ولا يقل عددهم عن ‏أربعين ألفا، وهم متوافقون على امتياح عدل مولانا السلطان. وفي الأسواق تتراصف عمائم الأتراك مع ‏قلنسوات المسيحيين واليهود بلا ضغينة ولا بغضاء. وشوارع المدينة باستثناء بعضها القليل ضيقة موحلة إلى ‏حد أن عِلية القوم لا يستطيعون التجول إلا محمولين على الظهور البشرية. وآلاف من الناس يمتهنون هذه ‏المهنة الشاقة، ومعظمهم من القادمين الجدد الذين لم يجدوا عملا خيرا من هذا العمل) ص280. وبذلك ‏كانت هذه المدينةُ نموذجًا مبكرًا للمدينة العالمية، رغم فرض الامتيازات للدين الذي يحقّق أصحابه النصر ‏العسكري.‏

ويدخل الجيشُ العثمانيّ بلاد الصرب، ويسير إلى الشام والعراق، ويدخل مصرَ ويقطع الرؤوس، ‏وينهب الأموال، لاسيّما المماليك، وبخاصة الشركس منهم، ويعدمون سلطان مصر (طوبان باي) الذي ‏وقف بشجاعة في مواجهة الغزاة، وبكبرياء أمامَ المشنقة. ولكن تلك القوات لم تصل إلى غرناطة التي ‏انتظرت النجدةَ دون جدوى فانهارت في عزلتها.‏

ويسوء حالُ مصر حتى إنَّ الوباء يحلُّ على أرضها، ويعتقد سكانها أنَّ السماء سلطت غضبها ‏عليهم وأن لا جدوى من المواجهة. وهذا يعيدنا إلى موقف أهل غرناطة من الهزيمة التي حاقت بهم. حيث ‏يتحوّل الدين إلى قوة سلبية مسيطرة على العامة، رغم أنّه يمكن أن يشحذ الهمم ويتحول إلى رافعٍ اجتماعيٍّ ‏للمواجهة والتحدي، ولكن ذلك الزمن كان زمن سقوط وانهيار.‏

 

‏4- كتاب رومة.. بابا الفاتيكان والراهب لوثر

يأسر القراصنةُ (حسن) على شاطئ "جربة"، ويأخذونه إلى ايطاليا، ويهدونه كعبدٍ إلى بلاط ‏الفاتيكان. ونبوغه يساعده في دراسة اللغات واللاهوت المسيحي ولفت الأنظار إليه، ثم يُعمّد كمسيحيٍّ ‏ويُحرر من العبودية، ولكنّه لا يفكر بالعودة إلى الديار، ويمنحه البابا اسمه (يوحنا- ليون) واسم عائلته ‏المهيبة: (المترددين على البلاط البابوبي الذين أدهشهم أن يولد متأخرا واحد من آل مدتشي أسمر جعد ‏الشعر لم يلبثوا أن أضافوا إلى اسمي لقب الإفريقي لتميزي من أبي المقدس بالتبني. وربما ليتجنبوا أيضا ‏تسميتي بالكردينال مثل سائر أبناء عمه، وبعضهم منذ بلوغه الرابعة عشرة) ص320.‏

ويزوّجه البابا درءًا للفضيحة معشوقة "كردينال" يمتُّ له بصلة قرابة، وهذه اليهودية الحسناء ‏تنجب له طفلًا يدعوه جوسيب أي يوسف- وهو الذي يخاطبه في مذكراته- إنّه الابن الذي يرث عن ‏والديه دينين وعرقين وقوميتين. ومثل تلك الولادات تتكرر بمدلولاتها نفسها في روايات (معلوف) الأخرى، ‏وتبرز بشكل خاص في رواية (سلالم الشرق).‏

ولسوء الحظ المؤقت يموت حامي (ليون) ويرثه البابا المتقشف المتشدد، ويحبسه لمدة تصل إلى ‏العام، ولكنه لا يعيش طويلا. ويفرج عنه البابا الجديد، ويكلفه بسفارةٍ بينه وبين السلطان العثماني سليم ‏لرأب الصدع، فلم يكن الفاتيكان يعيش أحسن أيامه، فثمة صراعات وخصومات بين المسيحيين أنفسهم.‏

ورغم أنَّ روما من أكثر المدن اختلافًا عن بيئة (حسن) فإنّه بعد الإقامة على أرضها لسنوات ‏وجدها موطنه الذي أكرمه فطابت نفسه للبقاء: (هذه المدينة هي اليوم مدينتي، ولأن أكون قد عرفت فيها ‏السجن فلا أراني إلا ازددت تعلقا بمصيرها ومصير الناس الذين يصرفون شؤونها. إنهم ينظرون إليّ كصديق، ‏وليس في وسعي أن أعاملهم على أنهم ليسوا سوى روم) ص356. ولكن القدر لا يدعه يستقر طويلًا في ‏مدينة بذاتها، فمثلما نزح عن مدينته الأولى غرناطة يرحل مكرها عن مدينته في بلاد الروم. فثمة جيش ‏يزعم أنه يحارب تحت لواء الصليب، أفراده من عصابات القشتاليين ومرتزقة الألمان اللوثريين- بحسب ‏المؤلف- يسعى لخلع البابا لإفساده المسيحية ببدع ليست من الدين في شيء: (فهل أصدق إذا قلت إن ‏راهبات قد اغتصبن على مذابح الكنائس مرتزقة يضجون بالضحك قبل أن يخنقونهن؟ هل أصدق إذا ‏قلت إن الأديرة قد خربت، وأن الرهبان قد خلعت عنهم ملابسهم واجبروا تحت التهديد بالسوط على ‏دوس الصليب وإعلان أنهم يعبدون الشيطان الرجيم، وأن مخطوطات المكتبات قد غدت إبالات كبيرة ‏أقيمت للفرح وأخذ الجنود السكارى يرقصون حولها، وأنه لم ينج محراب ولا قصر ولا منزل من النهب، وأن ‏ثمانية آلاف مدني، ولاسيما من الفقراء، قضوا، فيما أُخِذ الأغنياء رهائن حتى يدفعوا جزية؟) ص382-‏‏383. ‏

لقد أخذت الحروب في تلك الحقبة طابعًا دينيًّا لأنّه الطريق الأقصر للسيطرة على العامة وحشد ‏المقاتلين، سواء بين المسيحيين والمسلمين، أم بين المسيحيين من مذهبين، أو بين المسلمين أنفسهم.‏

‏***‏

كثيرة هي الشخصياتُ والأحداثُ في هذه الرواية، ولكنّنا سلطنا الضوء على المعالم ذات الطابع ‏التاريخيّ بسماتها الدينيّة والسياسيّة، لدلالتها على الهُويات الفعلية للشخصيات، رغم أن الشخصية ‏الرئيسية (ليون) لم تكن معنية بها بذاتها لانفتاحها على الآخرين، فهي على وفاق مع البيئة التي تنتقل إليها ‏في كل مرة لسرعة تآلفها مع المحيط الاجتماعي، رغم خروجها من منطقة متوترة عرقيًّا ودينيًّا، ورغم معايشتها ‏لصراعاتٍ محتدمة امتدت في رحلة طويلة استمرت لأربعة عقود على أرض ثلاث قارات. ‏

ومثل هذه الموضوعات كانت محورًا أساسيًّا في أغلب روايات (أمين معلوف) ومنها رواية ‏‏(التائهون) التي جرت أحداثُها في العصر الحديث مع مطلع القرن الحادي والعشرين.‏

المراجع:‏

روايات أمين معلوف المذكورة في الدراسة:‏

o ‏(ليون الإفريقي) المترجم: د. عفيف دمشقية- دار الفارابي- بيروت- ط3-1997.‏

o ‏(رحلة بالداسار) ترجمة: روز مخلوف- دار ورد- دمشق- ط1- 2000.‏

o ‏(صخرة طانيوس) ترجمة: جورج غريب- منشورات ملف العالم العربي- ط1- 1994.‏

o ‏(القرن الأول بعد بياتريس) ترجمة: نهلة بيضون- دار الفارابي- بيروت- ط1- 1997.‏

o ‏ (سلالم الشرق) ترجمة: منيرة مصطفى- مراجعة: د. إحسان عباس- دار ورد- دمشق- ط2- ‏‏1998.‏

o ‏(التائهون) المترجمة: نهلة بيضون- دار الفارابي- بيروت- ط1-2013. ‏

مراجع عامة:‏

o فضل، د. صلاح (أساليب السرد في الرواية العربية) الناشر: دار المدى- دمشق- ط1-‏‏2003.‏