الرقميّةُ وتمييع المعرفة: تدفق المعلومات ومشكل الضبط المعرفي ‏

سعيد سهمي

كاتب وناقد مغربي

 

‏  لقد عمّت التكنولوجيا حياة الإنسان في كل الأمصار، كون مصادر المعرفة أصبحت متوفرة للجميع بشكل منقطع ‏النظير، وكون المعرفة تطورت والعلوم والمعلومات تضاعفت؛ بل إنّه حسب الإحصائيات التي تقوم بها شركة (‏ibm‏) ‏التي تصنف الأولى في البرمجيات؛ أنّ المعلومات كانت من قبل تتضاعف كل قرن تقريبًا، وانتقلت مع غروب شمس ‏الحرب العالميّة الثانيّة، أي عند نهايتها، إلى أن تتضاعف كل 25 سنة فقط، أي كل ربع قرن؛ أمَّا انطلاقًا من ‏منتصف العقد الثاني من القرن العشرين (حسب إحصاء 2016)، فقد انتقلت إلى أن تتضاعف كل 18 ساعة ‏فقط؛ وهو ما يبعث على الدهشة.‏

يطرح هذا التحوّل السؤالين: كيف نواكب عصر تدفق المعلومات؟ وكيف نحسن استثمار ما ينشر ‏إلكترونيا؟ ‏

في هذا السياق الذي يجعل المعرفة تنفر من ذاكرة الإنسان لصالح الرقميّة؛ أي من عقله إلى عقل الحاسوب ‏والبرمجيات الأخرى، يبدو أنَّ هناك أمّيّةً جديدة تحوم حول الإنسان، وهي أمّيّةٌ تواكبُ المستجدات، أي أنّ ما كنت ‏أعرفه بالأمس القريب، فإنّني في الغد أفقده تمامًا، وأُصبح أُميّا، إذا لم أمض اليوم الموالي في البحث المعرفيّ من خلال ‏الإلمام بالجديد في ذلك الحقل المعرفي، ولعلَّ هذا ما دعا المفكّر وعالم اللسانيات تشومسكي إلى القول: "إذا كان ما ‏تدرسه اليوم هو نفسه ما كنت تدرسه قبل خمس سنوات، فأحدكما ميت إمّا أنت أو تخصّصك". ‏

 

‏(ثورة المعلومات، عن موقع: ‏https ://m.annabaa.org‎، بتاريخ: 19 يناير 2021 )‏

الإنسانُ في مهب الرقميّة

في الواقع، فإنَّ المشكل ليس في كيفية مجاراة تدفق المعلومات، وإنّما  يرتبط بكيف يمكننا أن نضمن مصداقية ‏المعلومات المنشورة إلكترونيًّا؛ حيث إنّ هذه المعلومات التي تتدفق غالبًا ما تتسم بالتغير المستمر وبالتناقض في كثيرة ‏من الأحيان؛ وذلك ما يطرح مشكل الجديّة ويسائل الصدق المعلوماتيّ والمعرفيّ، وهو ما يجعل بالضرورة الإنسان، ‏اليوم، مشدودًا إلى المعرفة ولكن حذِرا منها، من أن تأخذه إلى عالمها، عالم الفقدان، إن شئنا؛ هذا الفقدان الذي ‏كان السبب في انتشار الانحراف وفي التطرف المعرفيّ والدينيّ والأيديولوجي الذي صنع منحرفين دمروا أوطانهم ‏بسبب انجرافهم وراء ما تطرحه مواقع التواصل الاجتماعي والمنشورات المغرضة من تزييف للحقائق، ومن انغلاق عقليٍّ ‏وفكريٍّ يؤدي في كثير من الأحيان إلى التطرف والعنف والإرهاب.‏

 

‏(الإنسان في مهب الرقمية، عن موقع: ‏https://www.usine-digitale.fr، بتاريخ: 20 يناير ‏‏2021)‏

في هذا الصدد، فإنَّ ما نعيشه اليوم من تدفق للمعلومات والمنشورات على المواقع الإلكترونية والتي تنشر كلَّ ‏شيء بدون أي حواجز أو رقابة صارمة، يجد المرء نفسه مشدودًا إلى المعلومات وإلى تدفقها، خاصة أنّها تعتمد على ‏الصورة وعلى الفيديو الأكثر جاذبية للمرء، حتى دون أن تكون لديه الرغبة في ذلك، حيث بمجرد الدخول إلى  ‏المواقع الإلكترونية يجد نفسه مشدودًا الى جحافل من أشكال المعرفة المصورة والمكتوبة، وإلى حقول معرفيّة متنوعة، ‏حتى إنَّه قد يمر في الآن الواحد على أكثر من حقلٍ معرفيّ، بل إنَّ ساعة واحدة أمام جهاز الكمبيوتر- إن لم ننتق ما ‏نقرأه، وما نتابعه، وما نطلع عليه، -تجعلنا نقف على العشرات من الحقول المعرفيّة، وعلى الآلاف من المعلومات، ‏وهو ما يخلق نوعًا من الرطانة المعرفيّة ونوعًا من الميوعة المعرفيّة التي جعلت المعلومات اليوم تتسم بالميوعة وبغياب ‏المصداقية؛ بل وبصعوبة الوصول إلى الحقيقة أمام تنوّع المصادر الإلكترونية المغرضة، وغياب حكامة إلكترونية تقف ‏ضد ناشري الفتنة والإشاعة والفوضى. ‏

الميوعة المعلوماتية ومشكل المصداقية

من بين أهم المشكلات والعوائق المرتبطة بالتعامل مع المعلومات الإلكترونية مسألة المصداقية حول ما نتلقاه ‏من معلومات، والتي ننجرُّ إليها في الغالب دون تمحيص؛ والتي تضعنا أمامَ تساؤلات من قبيل: من نصدق؟ وكيف ‏نوظف المعلومة؟ سواء أكانت المعلومة عبارة عن حدث أو عبارة عن حقيقة علميّة أو سياسيّة أو دينيّة، حيث لا ‏يهتدي المتلقي الذي لا يملك وعيًّا كافيًّا للبحث العلمي إلى الضبط المعرفي من خلال تنويع مصادر البحث، ومن ‏خلال تمحيص ومساءلة ما يتلقاه من معلومات.‏

 

‏(المد الرقمي وفوضى المعلومات: ‏https://www.dostor.org، بتاريخ: 19 يناير 2021).‏

هذه الميوعة في المعلومات المنشورة رقميًّا تجعل من الصعب الثقة في ما ينشر، فالأغلبية ينشرون الأخبار ‏الزائفة والمغرضة جريًا وراء ربح المال الذي صارت الرقميّة اليوم من مصادره الأساس، فانتقل البعض إلى استثمار ‏الرقميّة في الربح المالي من خلال العمل، ومن خلال الاشتغال العلمي، أو التعامل التجاري عن بعد، في حين استغلها ‏البعض الآخر لربح المال انطلاقًا من الاشتغال على أعراض الناس، وعبر نشر الإشاعة والميوعة والانحراف الأخلاقي؛ ‏فضلًا عن النصب والاحتيال.‏

طغيان الإشاعة

من بين المشكلات الأخرى التي نجدها اليوم تخيّم على النشر الإلكتروني ما يرتبط بانتشار الإشاعة، خاصةً ‏في الحقول الأكثر إثارة مثل السياسة والدين، ويأتي السؤالُ المُلحُّ، هنا، حول من نصدق؟ حيث يبدو أنَّ هناك نوعًا ‏من العبثيىة في نشر الأخبار بسبب غياب المراقبة والتمحيص من طرف المشرفين على المواقع الإلكترونية الذين لا ‏يُخضعون ما ينُشر للمراقبة، وذلك ما أدى إلى كثير من المشكلات الأخلاقيّة والاجتماعيّة التي تأتي بسبب تشويه ‏سمعة شخص، أو العمل على إثارة الرعب، أو نشر الأخبار الزائفة التي يمكنها أن تحط من كرامة البعض، فضلًا عن ‏كونها بإمكانها أن تساهم في محاكماتٍ ومتابعاتٍ قضائيٍّة أو ما شابه، كما يؤدي ذلك إلى فقدان الثقة وخلق البلبلة ‏إزاء المعلومات المرتبطة بمجالات أخرى مثل العلم والدين، في وقت أصبح فيه بإمكان الجميع أن يتكلّم سواء عن علم ‏أو عن جهل، وهو ما كرّس ما يمكن أن نسميه الميوعة المعرفية.‏

الحيرة المعرفية ودوامة البحث عن الحقيقة

من بين الأمور الأكثر إقلاقًا في عالم النشر الإلكتروني الحيرةُ والعذابُ النفسيّ الذي يعيشه الباحث اليوم ‏عن المعرفة والمعلومة الصادقة وعن الحقيقة، حيث إنَّ كثرة المعلومات ومصادر المعلومات- في الوقت الذي تدعونا ‏فيه إلى المواكبة من أجل التثقيف والتوعية- تضعنا في دوامة من الحيرة بسبب غياب مصداقية أغلب ما يُنشر؛ ‏فطالب العلم مثلًا، غالبًا ما يجد نفسه عرضةً لتدفق المعلومات والمصادر بشكل محيّر، ولكون المعلومات تتغير وتتبدل ‏وتتقادم كل لحظة، تزيد حيرة الباحث.  فالباحث مثلًا، في حقل التربية، اليوم، يجد أنَّ التربية ليست بابًا واحدًا أو ‏ليست هناك مراجع واضحة، وهو ما قد يجعله يصل إلى نتائج متناقضة في مجاله، وقِس على ذلك مجالات ‏وتخصّصات أخرى.‏

وفي مجال الدين، مثلًا، والذي صار موضوعَ تكلّمِ الجميع وإفتاءِ الجميع في مواقع التواصل الاجتماعي، ‏بشكل أدى إلى خلق فوضى دينيّة، نجد أنَّ المشكلة الدينيّة الواحدة -في غياب التسلح بمبادئ البحث العلمي ‏السليمة، والابتعاد عن التطرف- قد تضع المرء أمام مواقف متبانية غالبًا ما تؤدي به إلى التطرف، أو إلى اتّخاذ ‏موقفٍ سلبيٍّ من الدين نفسِه، وهذا ما يدعو أولًا إلى التسلح بأدوات الباحث العلمي، ومن جهة ثانية يدعو الباحث ‏المبتدئ أو المهتم غير المتخصص، إلى أخذ المعلومات من مصادرها ومن العلماء المتخصّصين الذين يمكن أن ييسروا ‏له الطريق نحو الحقيقة.‏

في هذا الصدد يبدو أنّه لا بدَّ من خلق حكامة معرفية في التعامل مع الرقميّة، وخاصةً في التعامل مع ‏المنشورات ذات الطابع الأخلاقيّ أو السياسيّ أو الدينيّ، التي بإمكانها أن تستفز مشاعر الناس وقناعاتهم وأفكارهم، ‏وبشكل أكثر إلحاحًا ما يرتبط بالأعراض.‏

كيف نواكب عصر تدفق المعلومات؟

إنَّ تدفق المعلومات يدعونا، دون شكٍّ، إلى ضرورة انتقاء ما نقرأ وما نتابع، انطلاقًا من أسئلة من قبيل: لماذا ‏أقرأ (أو أتابع)؟ ماذا أقرا؟ ثم كيف أقرأ؟ ‏

والحق أنَّ البداية لا بدَّ أن تكون بالسؤال: لماذا أقرأ (لماذا أتابع)؟ ذلك أنَّ الباحث اليوم حتى لا يضيع وقته ‏في هذا الكم الهائل من المعلومات، لا بدَّ له أن يتساءل عن الهدف والغاية من القراءة، فعدم تحديد الهدف يكون ‏السبب وراء الضياع، لذلك لا بدَّ من وضع السؤال: لماذا أقرأ؟ ومن ثمّ ضرورة انتقاء الموضوع قبل أيّ شيء آخر؛ ‏فإن كان مدرسًا مثلًا، فعليه أن يقرأ أولًا لتحسين مستواه المعرفي في التربية، وإن كان تلميذًا فعليه أن يجعل من ‏أولويات الاطّلاع والقراءة على مواقع التواصل الاجتماعي ما يفيده في اجتياز الامتحانات والتفوق الدراسيّ، وإن ‏كان طالبًا باحثًا فعليه أن يختار ما يعمّق بحثه ويطوّر عمله قبل الخوض في أي بحث آخر.‏

‏  علينا أن نجعل هذا الاشتغال على مواقع التواصل الاجتماعي والبحث فيها هواية (‏une passion‏) ‏تستجيب لحاجاتنا النفسيّة، قبل أن ننتقل إلى الأمور الأخرى الثانويّة التي غالبًا ما تجرنا وتصرفنا عن الأهم، وهذا ما ‏يمكن أن ينطبق على كلِّ المهنيين في التخصّصات الأخرى؛ فلو أن الجميع خصّص ما يضيّعه من وقت في المواقع ‏الإلكترونية لِما يمكن أن يخدم مهنته ومجال اشتغاله؛ لأبدعَ فيه وصار من المتفوقين والمحترفين.‏

‏ بعد هذه الأولوية التي تجعلنا نختار ما نقرأ وما نطالع ونشاهد من خلال الفيديوهات وغيرها، ومن خلال ‏الاشتغال والتركيز على ميدان تخصصنا، يمكننا، بعد ذلك، أن نتوسع من أجل البحث عن سمة الباحث الموسوعيّ ‏في مجالات أخرى حياتيّة تهمنا، وذلك يكفي فيه أن يضعَ المرءُ برنامجًا للتوسّع العلميّ والمعرفيّ ومواكبة ما ينشر من ‏معارف؛ فيخصّص لكلِّ مجالٍ معرفيّ أو لكل تخصص شهرًا كاملًا؛ فيتابع، مثلًا، في كل يوم محاضرة على إحدى ‏البوابات الإلكترونية في موضوع التخصص المطلوب، أو يقرأ  في كل يوم كتابًا أو مقالًا عميقًا، ثم يتابع عملًا ‏تطبيقيًّا؛ ليحوّل في نهاية الأمر ما شاهده أو قرأه إلى ورقة تلخيصيّة، تنتهي به في نهاية الشهر إلى إنجاز بحث كامل ‏في ذلك التخصّص؛ وفي الشهر الموالي ينتقل إلى تخصّص آخر؛ وبذلك فإنَّه حتمًا سيدخل مجال الموسوعيّة من بابه ‏الواسع، وسيضمن مواكبة عصر تدفق المعلومات بشكل إيجابيٍّ ونافع.‏

إنَّ مواقع التواصل الاجتماعي بما أتاحته من تدفق المعلومات تحتّم علينا جميعًا أن نمتلك ثقافة البحث التي ‏نجد أنّ الأغلبية لا يتقنونها، وعلينا أن نعمل من خلال المدرسة على تربية الأجيال الصاعدة على البحث العلمي ‏الإلكتروني الذي صار ضروريًّا، وصار من الأمور التي تجرنا إليه دون أن ندري؛ وإنّنا إن تربينا على هذه الثقافة ‏الإيجابية فإنّنا حتمًا سنجذب الرقميّة لصالحنا، في بناء أنفسنا وفي التعلم والارتقاء العلميّ والمعرفيّ؛ وهو ما يمكنُ أن ‏يدفع بنا- في نهاية المطاف- إلى أن نكون باحثين من خلال التعلم الذاتيّ الذي يمكن أن يكون بديلًا عن البحث ‏العلميّ الجامعيّ والأكاديميّ لمن لم يجدوا إليه سبيلا.‏